السؤال
الملخص:
فتاة مريضة منذ الطفولة، لم تَعُد تشعُر بالراحة والأمان، وتقول إنها تائهة وضائعة، حتى بدأت تفقد لذة إيمانها، وتسأل عن حلٍّ.
التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
عندي سؤال في العقيدة والإيمان، أريد إجابة مفصَّلة له في أقرب وقتٍ، دون شدةٍ أو تخويف أو تهويلٍ في الرد، أنا مسلمة لكني لا أُحس أيَّ قربٍ من الله، ولا راحة ولا أمانًا، ولا يُستجاب دعائي، وفي القرآن توجد آيات تذكُر أن الله يجيب الدعاء، علمًا أني مريضة منذ ولادتي وقد دعوتُ الله كثيرًا كي يَشفيني، لكني ما زلتُ مريضة، أعلم أن عندي ذنوبًا مثل كل الناس، لكن العلماء يقولون: إن الله يستجيب الدعاء، ويرحَم ويغفر.

أنا تائهة ومُتعبة، ولم أعد أجِد راحةً ولا سعادة ولا لذةً لإيماني، وقد وصلتُ إلى مرحلة الشك بسبب هذا الأمر، ولم أجد أحدًا يساعدني ويُخرجني مما أنا فيه، أتمنى أن أجد عندكم حلًّا لمشكلتي، بارك الله فيكم.

الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فأولًا: مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لكِ الهداية والتوفيق والسداد، فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
ثانيًا: ما من داءٍ إلا وله دواء، علِمَه من علِمَه، وجهِلَه من جهِلَه.
وقد أحسنتِ وأنصفتِ أيتها الأخت الفاضلة في توصيفكِ للداء، وهو أنكِ مريضة ولا تجدين من يساعدك، فالظاهر من كلامكِ أنكِ وحيدة منعزلة لا تجدين من يسمعكِ أو يخفف عنكِ آلامكِ، وهنا وقفة فلا بد أن تبحثي عن صحبة صالحة تعينكِ على طاعة الله وعلى الصبر على أقدار الله المؤلمة، أو تبحثي في نطاق أسرتكِ عن ذلك بين أخواتك ومحارمك، ولا بد من توضيحٍ وتصحيحٍ لبعض المفاهيم الخاطئة التي ترسخت في ذهنكِ، وهي:
الدنيا دار ابتلاء وشقاء وليست دار نعيم وبقاءٍ.
لإجابة الدعاء صور شتى ليس التعجيل بتحقيقها في الدنيا فقط.
أن الله أعلم بحال العباد وأرحم بهم.
قد تكون الإجابة ليست هي الخير.
الله لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى.
أيتها الأخت الفاضلة، لا بد أن تعلمي أن الدنيا إنما هي دار للابتلاء والاختبار والامتحان، فالأصل فيها الكدر والتعب والمشقة؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]؛ أي: في عناءٍ وشقاء، وكلما كبُرت سنُّه، زاد همُّه لزيادة مسؤولياته، فهذه هي الحياة الدنيا، لذا يتفاضل الناس يوم القيامة بصبرهم وأعمالهم الصالحة في دنياهم، ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، حُلوه ومُرِّه.
أيتها الأخت الفاضلة، للدعاء موانع وآداب، وفي كلامكِ إشارة لمعرفتكِ بها، لكن أُذكِّرك أن من أهم وأوجب الآداب في الدعاء: الإخلاص واليقين بالإجابة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ [الأعراف: 29]، والإخلاص في الدعاء هو الاعتقاد الجازم بأن المدعو - وهو الله عز وجل - هو القادر وحده على قضاء حاجتكِ، فالله سميع بصير، رحيم رؤوف بعباده.
واعلَمي أن من أهم أسباب رد الدعاء: اليأس، والقنوط، وعدم الإلحاح، والضجر، والملل، والتسرع، وأن يكون الدعاء ضعيفًا في نفسه، لما فيه من الاعتداء أو سوء الأدب مع الله عز وجل، أو أن يكون الداعي ضعيفًا في نفسه، لضَعف قلبه في إقباله على الله تعالى، لذا قال ابن القيم: (والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلَّف واحد من هذه الثلاثة، تخلَّف التأثير)؛ الداء والدواء: (صـ 35).

أيتها الأخت الفاضلة، الله أعلم بما ينفعنا وبما يُصلحنا، فمن الناس من إذا أغناه الله ابتعد وتجبَّر وطغى؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، فليس كل ما يريده الإنسان يكون فيه سعادته، وانظري حولكِ، وستجدين أمثلة لذلك كثيرة، من كان فقيرًا فلما بُسط له في الرزق بغى وتجبَّر، ومن كان مريضًا فلما عافاه الله وشفاه، ارتكب المعاصي والذنوب، وفي القرآن خير دليل، فما الذي أهلك قارون؟ أليس الغنى بعد الفقر وطغيانه بالمال على الخلق، والتكبر والتجبر؟!
لا بد من وقفة مهمة في باب الدعاء: ما هو الحال الذي ينبغي أن نكون عليه ونحن ندعو الله ونناجيه؟ هل الدعاء مع انتظار الإجابة، ثم محاكمة الله إذا لم يستجب لنا؟! فالدعاء ليس صفقة بين العبد وربه، كالعقد بين البائع والمشتري، إنما هو طلب ورجاء من عبد ضعيف لربٍّ قوي غني مستغنٍ عن عباده.
فالحال الذي ينبغي أن نكون عليه في الدعاء هو الفقر والضعف والخوف من التقصير؛ قال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55]، وانظري إلى نبي الله موسى عليه السلام بعد أن ترك أرضه وسافر إلى مدين وسقى للمرأتين، ثم تولى إلى الظل، فماذا قال؟ ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، فقد أظهر ضَعفه وفقره لله، وأبرز قوة الله وغناه، فالله هو الغني ذو القوة سبحانه وتعالى، والعبد هو الفقير الضعيف الذليل.
وقد وجدتُ في كلامكِ ما يدل على الاعتراف بتقصيركِ وأنكِ صاحبة ذنوب، وهذا جيد في حد ذاته؛ لأنه نصف العلاج، وهو معرفة الداء والمرض، فلا بد من توبة صادقة، ولا بد من اتهام للنفس، فما يدريكِ هل عملكِ قد قُبِلَ أم لا؟! قال عبدالله بن عَونٍ: (لا تثق بكثرة الأعمال، فإنك لا تدري تُقبل مِنكَ أم لا، ولا تأمَن ذنوبك، فإنك لا تدري هل كُفِّرَت عنك أم لا، إنَّ عمَلَك عنك مُغَيَّبٌ كُلُّه ما تدري ما لله صانِعٌ فيه، أيجعلُهُ في سِجِّين أم يجعله في عِلِّيين)؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: (٣١/ ٣٦٤).

فالله رؤوف رحيم، أرحم بعباده من الأم بولدها، يختار لعباده ما فيه الخير في الدنيا والآخرة، يرزقه في الدنيا ما يصلحه وينفعه، لذا تعدَّدت صور إجابة الدعاء، فإما أن يستجيب له الله عز وجل، فيحقِّق مرغوبه من الدعاء، أو أن يدفع عنه به شرًّا، أو أن ييسر له ما هو خير منه، أو أن يدَّخره له عنده يوم القيامة؛ حيث يكون العبد إليه أحوج، وهذه أفضل المنازل وأنفعها؛ لأن المؤمن يعلم أن الآخرة خيرٌ وأبقى، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عنهُ من السُّوءِ مثلَها)؛ رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني.
إذًا لا يلزم في استجابة الدعاء حصول المطلوب بعينه، فكل داعٍ يستجاب له، لكن بتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه في الدنيا بدفع شرٍّ، وفي الآخرة بالأجر والثواب.
وأخيرًا أيتها الفاضلة، أحسني الظن بربكِ، ولا تستعجلي الإجابة، فالسعادة في الدنيا في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدرات.
أما عن الشك الذي ذيَّلتِ به رسالتكِ، وظننتِ أنه نتيجة صحيحة لما أنتِ عليه، فما هو إلا وساوس من الشيطان لإبعادكِ عن دينكِ، وعن طريق الاستقامة والنجاة، فاستعيذي بالله من الشيطان الرجيم، ولا تسترسلي في مثل هذه الهواجس، ولا بد أن تكوني على يقين أن أهل الإيمان في امتحان واختبار، والإيمان ليس كلمة وحسب، بل أقوال وأفعال واعتقادات، فاصبري على طاعة الله وأحسِني عبادتك، يدلك هذا الصبر على الصبر عن معاصي الله، ويتوج صبرك بصبرك على أقدار الله المؤلمة التي تضرب بجدار إيمان العبد، فالبتلاء يظهر به مكنون العباد من إيمان ونفاق، فالمؤمن عندما يرى أهل المعاصي في عافية وهو في بلاء، ربما يزاد حزنه لا سيما إذا طال بلاؤه، وكلما زاد كانت الفتنة أشدَّ وأكبر، ولا يعصمه من ذلك إلا صدق اللجوء إلى الله، وحسن التوكل عليه، وشدة الضراعة واللوذ به سبحانه وتعالى.
أما عن فقدكِ لذَّةَ الطاعة، فكيف تشعرين بها وأنتِ معترفة بالمرض الذي أصاب قلبكِ أيتها الفاضلة، حتى وصفتِه بالشك، ورسالتكِ أصلها في الرد على شبهات في الإيمان، فعند تمام الشفاء والعافية تجدين لذة المناجاة والعبادة، ألا ترين أن مريض الجسد لا يتلذذ بطعام ولا بشراب؛ فكيف بمريض القلب؟!
لذا لا بد من معالجة القلب بالرضا بقضاء الله وقدره؛ قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (وأسألك الرضا بعد القضاء)؛ ابن حبان: (1972).
وبصحة الإيمان في القلب تُنالُ حلاوته، ففي الحديث: (ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذَه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار(؛البخاري: (16)، ومسلم: (43).
والنصيحة لكِ أن تتعلمي العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة بفَهْم سلف الأمة من الصحابة والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين، فالفتنة فتنتان: فتنة شهوات وعلاجها تقوى الله، وفتنة شبهات وعلاجها العلم.
وأن تبحثي عمن يستمع لكِ بإنصات، وحبذا لو كان من أهل العلم والفضل والخبرة، ولا بأس ولا ضير إذا ذهبتِ إلى مختصة نفسية ذات دين وإيمان وعلم، فهذه المسألة لها تعلُّق كبير بمشكلتك فيما يبدو لي، والله أعلم.
فاللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.