كيف أثرت مواقع التواصل الاجتماعي على خصوصيات (الأسرة)؟



مؤمنة معالي



في زمان يعج بفوضى التواصل الاجتماعي أصبح الحفاظ على الخصوصيات أمراً صعباً، فمقاطع السناب شات وصور الانستجرام وتغريدات تويتر جميعها أصبحت تغري المستخدمين بالنشر والحديث عن يومياتهم وطرحها في سوق لا تقدس سرية مرتاديها ولا تحترم حياتهم الخاصة.

وفي هذه السوق تختلف وجهات نظر الزبائن أيضاً؛ فهناك من لا يأبه كثيراً بالحفاظ على خصوصياته أو خصوصيات العائلة أو العمل، بينما يتأذى آخرون من ذلك، ويعتقدون أن عدم احترامهم للخصوصية ولاسيما الأسرية توقعهم كثيراً في مشكلات هم في غنى عنها، ومما نبذه الشارع الحكيم الثرثرة والقيل والقال وكثرة الحديث، ومما كان يحرص عليه السلف الصالح قلة الحديث تجنباً للفتن والوقوع في النميمة ولغو الكلام.

متتبعو العثرات

ومما تعانيه الأسر في أيامنا كثرة متتبعي العثرات؛ حيث أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي للكثير من الفضوليين تتبع حروف الآخرين وكلماتهم المارة بين السطور، التي كانوا يعتقدون أنها عابرة، لكنها لم تكن كذلك بل جلبت لبيوتهم المشكلات والحسد والضغينة، فتلك تروي تفاصيل رحلتها مع زوجها لدولة مجاورة، وأخرى تتحدث عن مشكلة وقعت بينها وبين قريبة، وثالثة تستفسر عن معلم قدير يقيل عثرات ابنها المتسرب من المدرسة، والكثير من الأحاديث الدائرة في المجالس الواقعية أو الافتراضية تضرب بخصوصية الأسرة عرض الحائط.

مشكلات المنزل

أم عامر تروي للفرقان تجربتها فتقول: كنت لأعوام عديدة أحسب كل المحيطين بي أمناء على بيتي وعائلتي، وكنت أناقشهم في كل ما يشكل عليّ من أمور وأحسبهم مقربين وأصدقاء إلى أن اكتشفت أن كل أسرار بيتي هي محور أحاديث الغرف المغلقة علماً أن لكل منزل مشكلات يعانيها لكني اكتشفت أن المرأة العاقلة هي التي تعالج مشكلات المنزل مع أفراد الأسرة فقط ولا شأن لأحد خارج هذه الأسرة مهما كانت درجة القرابة أن يعرف شيئاً عنها سوى بديهيات الأمور.

تغير الأحوال

أما قبس فقد كانت كما تقول للفرقان تعيش حياة سعيدة مع زوجها وابنتيها إلى أن دخل (الانستجرام) حياتها، وأصبحت تنشر عبره يومياتها وتفاصيل زياراتها وعلاقتها بزوجها وابنتيها، تقول قبس: فجأة ودون سابق إنذار انقلب منزلنا إلى حجيم وأصبحت لدينا مشكلات لم نكن نعرفها من قبل، إلى أن استشرت أحد الدعاة الذي طلب مني بدوره أن أوقف حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي لمدة شهر، وفعلا تحسنت علاقتي مع أفراد أسرتي، وبعد انتهاء الشهر سألت ذلك الداعية لماذا طلبت إلىّ هذا الطلب فقال؟: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود» وما حدث في بيتك كان بسبب حسد المتابعين لك، يا ابنتي حياتك الخاصة كنزك الثمين؛ فلماذا تلقي به في أيدي الآخرين؟! وفعلا أصبحت أقدس خصوصية العائلة وأعيش مرتاحة.

التطبيقات النبوية

يقول الداعية د. أحمد فتحي قاسم -عضو مكتب الإصلاح الأسري الأردني: إن من التطبيقات النبوية لحفظ الأسرار ما ورد عن نبي الله يعقوب؛ حيث أمر ابنه يوسف -عليه السلام- بكتم رؤياه عن إخوته فقال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يوسف:5). وهذا من التطبيقات على الحفاظ على الخصوصية والكتمان.

وأضاف قاسم بأن أصحاب الكهف أيضاُ اتفقوا على أن يرسلوا أحدهم إلى المدينة ليشتري لهم ما يحتاجون، وأوصوه ألا يشعر به أحد قال -تعالى- في سورة الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف:19).

التجسس والغيبة

وقال قاسم: إن الشارع الحكيم عَدَّ التجسس والغيبة من الذنوب العظيمة التي يعاقب عليها, والتجسس إنّما هو الاطلاع على أمور لا يحب المرء أنْ يطلع عليها أحد، والغيبة إنّما هي الحديث عما لا يحب المرء أنْ يُعرف من حاله فقال -تعالى-: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} (الحجرات).

مشروعية الاستئذان

واستشهد قاسم بأن الشارع الحكيم شرع الاستئذان من أجل عدم الاطلاع على خصوصيات الإنسان قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور), وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من اطلع في بيتِ قومٍ بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه، فإنْ فقؤوا عينه فلا دية له ولا قصاص» رواه النسائي وصححه الألباني، ورواه مسلم مختصرا. بل جعل الاستئذان بين الأهل في البيت الواحد فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْك ُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} النور:58.

خصوصية الفرد

وأضاف: لقد شرَّع الدين الإسلامي خصوصية الفرد, ووصى الفرد المسلم بحفظ عورة أخيه المسلم إنْ تمكن منها, ورتِّب -سبحانه- العقوبات في الحياة الدنيا والوعيد الشديد في الآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبع عورات المسلمين فمن تتبعوا عوراتهم تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف رحله».

وقال أيضاً - صلى الله عليه وسلم -: «من تسَّمع حديث قومٍ وهم له كارهون، صُب في أُذنيه الآنك» رواه أحمد. اطلع رجل من جحر في حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدري (أي مشط) يحك به رأسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من البصر». متفق عليه.

مبدأ نبوي

وأضاف قاسم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ هذا المبدأ في حياته، ومن شواهد ذلك ما حصل في هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة, من أمثلة ذلك اختياره - صلى الله عليه وسلم - الوقت المناسب للهجرة وكان متخفيا متلثما, قالت عائشة -رضي الله عنها-: «بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها» , وكتمانه أمر الهجرة عن أصحابه إلا عن قلة قليلة، قال ابن إسحق: «ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلا عليّ وأبو بكر وآل أبي بكر» وتمويهه - صلى الله عليه وسلم - في مبيت علي رضي الله عنه في فراشه -صلى الله عليه وسلم -: ‏قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: «نم في فراشي، وتسج ببردي هذا، الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم»، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده ذلك إذا نام».

إيقاع الضرر بالآخرين

ويضيف قاسم: في الوقت الذي حث فيه الشارع الحكيم على قضاء الحوائج بالسر والكتمان خوفاً من وقوع الضرر على الإنسان نتيجة الحسد أو العين أو غيره, فإنه نهى عن كتمان أمور يترتب على كتمانها ضرر على الآخرين ككتم الشهادة, قال -تعالى-: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} البقرة:283. وكتم العلم, لقوله -تعالى-: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}. البقرة:159 ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سئل عن علم وكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». رواه أحمد وكتم عيب السلعة عند البيع والشراء , فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بينه له» رواه أحمد, وغيرها من الأمور التي يترتب على كتمها ضرر.

3 مليارات شخص

الباحثة التربوية والإعلامية تسنيم مخيمر قالت في حديثها لـ(الفرقان): إن حوالي 3 مليارات شخص حول العالم يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي بمتوسط ساعتين يومياً، وهذا بلا شك قد أثر تأثيرا كبيرا على الحياة الاجتماعية لهؤلاء سلباً أو إيجاباً.

مشاركة تفاصيل حياتهم

وعَدَّت مخيمر السلبيات التي يقع فيها مستخدمو مواقع التواصل مشاركة تفاصيل حياتهم ويومياتهم عشوائيا قائلة: إن هناك تفاصيل لا بأس في مشاركتها؛ حيث إن لكل إنسان معيارا مختلفا في تعريف الخصوصية لكن الكارثة أن تصبح تفاصيل حياتنا الأسرية كلها مشاعا لمن نعرف ومن لا نعرف، والأسوأ من ذلك أن نحرص على عرض هذه التفاصيل من أجل كسب التفاعل والتعليقات لا من أجل إثراء المحتوى.

حالات الطلاق

وبحسب مخيمر فإن مئات حالات الطلاق سجلت على مستوى الوطن العربي بسبب تعدي أحد طرفي الأسرة على خصوصية الحياة الأسرية، وقد يكون هذا قاتلاً في حال كان الطرف الآخر يرفض ذلك.

الحفاظ على الخصوصية

وأشارت تسنيم إلى أن فكرة الحفاظ على الخصوصية تأتي بالتدريب؛ حيث تستطيع الأم أن تبدأ بتدريب طفلها على حفظ السر من عمر 3 سنوات وذلك من خلال قصة ما قبل النوم؛ فيمكن للأم أن تتخيل آلام قصة معينة وأن تدخل فيها المفاهيم والقيم التي ترديها من خلال هذه الحكاية؛ حيث تتكون للطفل صورة ذهنية لمفهوم السر في حياته.

ترسيخ مفهوم الخصوصية

وأضافت مخيمر: في سن الرابعة تبدأ الأم بإعطاء طفلها معلومة، وتطلب إليه ألا يخبر أحدا، ثم تختبره من خلال الطلب من الأب أو أحد الأقارب سؤاله عن ذلك السر؛ فإذا نجح في كتمانه عليها أن تعززه وتكافئه، وإذا أخفق في حفظ السر فعليها أن تدربه على ذلك مرة أخرى حتى تتضح الفكرة، وقد تضطر لتكرار الفعل مرات عدة حتى يترسخ المفهوم لدى الطفل ويصبح قادراً على الحفاظ على الخصوصية وعدم نقل الكلام وهو ما قد يتسبب أحيانا بالإحراج أو المشكلات للعائلة.


وأكدت مخيمر أن تدريب الأطفال على الحفاظ على خصوصياتهم وخصوصيات أسرهم أمر في غاية الأهمية لأنهم سيتعلمون من ذلك الحفاظ على حياتهم في المستقبل، ومع الأسف فإن هناك بعض الآباء غير واعيين إلى أهمية الحفاظ على خصوصية أبنائهم بل ويظنون أن من حقهم الحديث أمام الأقرباء والجيران عن سلبيات الأبناء أو عدم تفوقهم الدراسي دون أن يدركوا أن هذه الأمور تؤثر تأثيرا خطيرا على حياة الطفل؛ فقد يصبح الولد عاقاً ويهجر والديه، وقد يضعف هذا السلوك من شخصيته ويصبح مهزوزاً مائلاً للوحدة والعزلة والرهاب الاجتماعي ومخاطر قد لا يدركها الآباء؛ لذلك فإن من أهم ركائز الحفاظ على خصوصية الأسرة احترام خصوصية الأبناء.