رسالة إلى مربٍّ
حسن مصطفى شتا



لا شكَّ أننا في الحقل التربوي نصبو إلى هدفٍ أسمى، ومطلبٍ أعلى، نطمح إلى بناء ابنٍ؛ رُوحيًّا وعقليًّا وجسميًّا؛ ليصبحَ جديرًا بالرسالة المنوطة به، قادرًا على تنفيذ مهامِّه، ولكي يتحقَّق هذا الهدفُ المنشود، فلا سبيل إلى ذلك إلا بإعلاء هِمّته، واستثارة إرادته.
أيُّها المربي الكُفء، كُنْ مثل الطبيب الحاذق الذي يشخِّص الداءَ، ويصفُ له الدواء الناجع، والحكيم الأريب الذي يضعُ الأمور في موضعها، اعتنِ بغرسك تجنِ أطْيبَ الثمار وأنضجها، ارْوِ في نفس ابنك بذورَ الهِمَّة، تنبتْ قوة العزيمة، وتُورق سموَّ الأهداف، وتثمرِ العمل المبدع الخلاَّق.
وصدق أبو العلاء المعرِّي حين قال:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
ورَحِمَ الله القائلَ:
قَدْ يَنْفَعُ الأَدَبُ الأَوْلاَدَ فِي صِغَرٍ *** وَلَيْسَ يَنْفَعُهُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَدَبُ
إِنَّ الْغُصُونَ إِذَا عَدَّلْتَهَا اعْتَدَلَتْ *** وَلاَ يَلِينُ وَلَو لَيَّنْتَهُ الْخَشَبُ
وأسوقُ إليك أيُّها الأخ المربِّي بعضَ وسائل الارتقاء بهِمَّة أبنائنا، وهذا غيضٌ من فيض، ولكن ما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كَثُرَ وأَلْهَى.
أولاً: تبصير الابن بطبيعة نفسه:
- ابحث في نفس ابنك عن جوانب القوة، ومواطن الرِّفعة، وأمِطِ اللِّثاَمَ عنها، وزكِّها في نفسه؛ لتصير كائنًا حيًّا ملموسًا يدفعه إلى العُلا، ويحضُّه إلى السمو، اجعلْ مِن نفسه نفسًا توَّاقة تعانق النجومَ، وتداعب الثُّريَّا، وكَرِّرْ على سمعه، وضَعْ نُصبَ عينيه قولَ الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز: "إن لي نفسًا توَّاقة، لم تزلْ تتوق إلى الإمارة، فلمَّا نلتُها، تاقتْ إلى الخلافة، فلمَّا نلتُها، تاقتْ إلى الجنة".
ثانيًا: تحبيب الابن في العلم والصبر في تحصيله:
- اغرسْ في نفس ابنك حبَّ القراءة والاطلاع، وناقشْه وشجِّعْه، واذكرْ له من العلماء الذين خلَّد التاريخ ذِكْرَهم، وكُتبتْ أسماؤهم بأحْرُف من نور في سماء العلم، مثل: (البخاري، والقرطبي، وابن الهيثم، وابن خلدون،، والرازي، وغيرهم الكثير والكثير).
وليكن شعاره قولُ الله - تعالى -: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11].
- عوِّدْه الصبرَ في تحصيل العلم، وصَيِّرْ مرارة الصبر حلاوة يتذوَّقها حينما ينتفع بالعلم وينفع به؛ ليحرص دائمًا على تحصيله، ولتكنْ له عِبرة في أسلافنا العظماء، وقال ابن تيمية عن جده: "كان الجدُّ إذا دخلَ الخلاء، يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارْفعْ صوتك حتى أسمعَ"، نعم لقد عَلَت نفوسُهم، وسَمَتْ بهم إلى أرحبِ الآفاق، فحقَّقوا المجدَ الصعب.
وصدق الشاعر الحكيم إذ يقول:
وَتَجَشَّمُوا لِلْمَجْدِ كُلَّ عَظَيْمَةٍ *** إِنِّي رَأَيْتُ الْمَجْدَ صَعْبَ الْمُرْتَقَى
ثالثًا: تشجيع الابن في صائب رأْيه:
لقد روى البخاري في صحيحه أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يُدخلُ عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - وهو غلام حدثٌ مع أشياخ بدر، قال ابن عباس: كأنَّ أحدَهم وجَدَ في نفسه، فقال: لِمَ تُدخلُ هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: "إنه من حيث عَلِمْتُم، فدعاني ذات يومٍ فأدْخَلَني معهم، فما رأيتُ أنه دعاني إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله - تعالى -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[النصر: 1]؟ فقال بعضُهم: أمرنا أنْ نحمدَ الله ونستغفره إذا نُصرنا وفُتح علينا، وسكتَ بعضُهم، فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: ماذا تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَعْلَمَه له، قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، وذلك علامة أجلك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النصر: 3]، فقال عمر: ما أعلمُ منها إلا ما تقول.
وهكذا كان أمير المؤمنين والخليفة الراشد نموذجًا فذًّا، ومربِّيًا خبيرًا، حيث يقوّي في نفْس الابن الثقة، ويُعْلي من شأْنه، ويزكِّي هِمَّته، ولا عجب؛ فهو وأصحابُه تربَّوا في مدرسة النبوَّة، وصاروا قِمَمًا لا تُسامَى، وما أروع شاعر الرسول حين يقول عنهم:
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ *** فَكُلُّ سَبْقٍ لأَدَنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
فاتَّخذْ أيُّها المربِّي الكريم القدوة والعِبرة من هؤلاء الأعلام؛ تصلْ إلى بُغيتك، وتروِ غُلَّتك.
وفَّقنا الله جميعًا لما يحبُّه ويرضاه، وعلى الله قصدُ السبيل