تيسـير النحـو العربـي بين المحـافظـة والتجـديـد
(الأستاذ عباس حسن أنموذجاً)
أ.د. حسـن منديـل حسن العكيـلي
الجزء الثانى
- العناية بالإعـراب:
إن مشكلة الإعراب التي يواجهها المتعلم، وما فيه من تقدير متعسّف، هي من اكثر مشكلات النحو تعقيداً، لذلك أولى المتأخرون الأعراب اهتماماً كبيراً، ولا سيما انها مشكلة واضحة المعالم، لذلك دعا أوائل أصحاب التيسير إلى إلغاء الإعراب وقيوده([100]).
ولم يغفل الأستاذ عباس حسن هذا ، لذلك عني بالإعراب عناية خاصة، فشرّع بتيسيره، وعَرضِهِ عرضاً جديداً مستخدماً أيسر السبل الحديثة، واقترح مقترحات كثيرة من شأنها تخفيف عسر الإعراب وصعوبته، فالاهتمام به كان من اهم الأسس التي استند اليها عباس حسن في تيسير النحو، فقد عقد فصولاً وابواباً له ضمن ابواب النحو في كتابه: (النحو الوافي) مثل مبحث (اعراب الضمير بنوعيه (المستتر والبارز) ذكره في باب (الضمير) بعد تفصيل الكلام في الضمير([101]).
لقد اخذت عنايته بالإعراب شكلين او جانبين:
الأول: الإعراب والمعنى:
سار الأستاذ عباس حسن سير النحاة القدامى في تناوله مسائل النحو، وأضاف ما رآه مناسباً لتجديد مباحث النحو واصلاحها، فهو بذلك قد جمع الحسنيين في دراسة موضوعات النحو القديمة والحديثة. وإن بدا لنا – غالباً-نحوياً قديماً، لكنه نحوي معاصر كأنما أخطأه الزمن. كان عباس حسن كالقدامى يرى الإعراب مرتبطاً بالمعنى، لا ينفصل عنه، وان الحركات دوال على معانٍ. والذي آراه انّ الحركات علامات معنوية جيء بها تقوية وتأكيداً للمعنى، فمعنى الكلام يتَّضح غالباً دون الإعراب فإذا أردنا تقوية هذا المعنى وتأكيده جئنا بالمعاني النحوية وهي الحركات ومهما يكن من امر فان الأستاذ عباس حسن لم يغلِ مغالاة أصحاب التيسير المعاصرين، إذ اتهموا النحاة ولا سيما المتأخرين منهم بانهم فصلوا الإعراب عن المعنى، وبذلك انحرف عندهم النحو عن مفهومه الذي ينبغي أن يكون عليه والذي وضع من اجله، وانهم جعلوا النحو علماً مختصاً بالإعراب والبناء وبهذا قصروه على جانب ضيق هو الإعراب([102]).
وهو اتهام قد بالغوا فيه، إذ إن مفهوم النحو لدى النحاة – ومنهم المتأخرون- اوسع من هذا والمتتبع لحدود النحو في المصادر النحوية ولا سيما المتأخرة منها يجد الدليل([103]).
لم يذهب الأستاذ عباس مذهب هؤلاء ولم يتعجّل بإطلاق الكلام جزافاً، إذ كان يجلّ التراث النحوي إجلالا كبيراً. وانه لم يبالغ ويدّع نظريةً جديدةً تقابل نظرية العامل لدى القدماء، كما فعل بعضهم، لأنه يرى فضل القدامى لا يمكن تجاوزه وينبغي الاستناد اليه في كل جديد. يقول: "الأسماء يناسبها الإعراب، وهو اصلٌ فيها لأن الاسم يدل بذاته على معنى مستقل، فهو يدل على مسمى. وهذا المسمى قد يُسند اليه الفعل فيكون فاعلاً له، وقد يقع عليه الفعل فيكون مفعولاً به. وقد يتحمل معنى آخر غير الفاعلية والمفعولية، ويدل عليه بنفسه… وكل واحد من تلك المعاني يقتضي علامة خاصة به في آخر الكلمة، ورمزاً معيناً يدل عليه وحده، وغيره من المعاني الأخرى فلا بد أن تتغير العلاقة في آخر الإسم، تبعاً لتغير المعاني والأسباب، وان يستحق ما نسميه: (الإعراب) للدلالة على تلك المعاني المتباينة التي تتوالى عليه بتولي العوامل المختلفة"([104]).
هكذا يمضي عباس حسن في توضيح الإعراب وارتباطه بالمعنى، إذ هو متغير بتغير العوامل الداخلة عليه، أي إن تغيير العوامل يؤدي إلى --> تغيير المعاني، وهذا يؤدي إلى-> تغير الحركات. فلكل عامل ومعنى حركة، ويضيف " ومما تجب ملاحظته إن هناك فرقاً في المعنى والإعراب بين عطف الفعل، وعطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية…"([105]).
ثانيـاً: الإعراب التطبيقي:
اما الجانب التطبيقي للإعراب فقد كان له نصيب وافر في محاولة عباس حسن، فهو مع توضيحه للباب النحوي والمسائل، يذكر إعرابها ويخصص لها مباحث، فضلاً عن ذلك فهو يعالج الاعرابات السابقة مما يدل على منهجه التعليمي في كتابه، ومحاولته الشاملة المنظمة، ووضعه للإعراب قواعد حديثة ميسرة، فعلى سبيل المثال قوله في المنادى المفرد العلم المبني على الضم: لا ينوّن ولا ينصب إلا في الضرورة، ويلزم التصريح بهذا عند اعرابه، وأضاف في هامش كتابه: "يقال عند اعرابه انه منادى مبني على الضم، ولحقه التنوين للضرورة نحو: (سلام الله يا مطرٌ عليها..)اما اذا كان منصوباً منوناً فيقال في اعرابه: انه منصوب منوّن للضرورة"([106]).
وكثيراً ما كان يدلو بدلوه بين الدلاء فيُبدي رأياً او اعتراضاً او تنبيهاً على اعرابات السابقين نحو قوله في إعراب ضمير الفعل: " أنسب الأراء وأيسرها الرأي الذي يرى انه في الحقيقة ليس ضميراً بالرغم من دلالته على التكلم والخطاب او الغيبة دائماً هو حرف خالص الحرفية لا يعمل شيئاً، فهو مثل (كاف الخطاب) في اسماء الاشارة، وفي بعض كلمات اخرى مثل: ذلك وتلك .. فمن الأنسب تسمية حرف الفصل لا ضمير الفصل إلا مجازاً بمراعاة شكله وصورته واصله قبل أن يكون لمجرد الفصل…"([107]). هذا شأنه في كثير من معالجاته اعرابات السابقين([108]).
اما موقفه من خلاف القدامى في الإعراب فيتجنب الرأي الأيسر غالباً وان كان غير مشهور ففي إعراب (أبتي) قال : الأيسر في إعرابها، أب: منادى منصوب مضاف والتاء: عوض عن الياء المحذوفة، أما المذكورة فحرف هجائي ناشئ من بناء التاء على الكسرة مع إشباعها والياء بعدها مضاف اليه وقد فصلت بين المتضايقين([109]). وكذلك اقترح إعراب المنادى المضاف إلى ياء المتكلم المنقلبة ألفاً نحو (يا فرحاً)، منادى منصوب بالفتحة الظاهرة وهو مضاف وياء المتكلم المنقلبة ألفاً مضاف اليه مبنية على السكون في محل جر. وقال في الهامش: "وانما كان الأيسر والأوضح اعرابه منصوباً بالفتحة الظاهرة للفرار مما يتكلفه بعض المعربين حين يقولون: انه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الكسرة المنقلبة فتحة لمناسبة الياء المنقلبة ألفاً، وحجتهم انهم يريدون تسجيل الأطوار كلها ولو ادى الأمر إلى الإطالة"([110]). وكذلك فعل الأمر إذا اتصلت به نون التوكيد. (صاحبَنْ كريم الأخلاق) بأنه مبني على الفتح ولا داعي للتشدد الذي يراه بعض النحاة بانه مبني على السكون المقدر منع من ظهوره الفتحة العارضة لأجل نون التوكيد([111]). وكذلك فعل الأمر نفسه عندما عالج إعراب النحاة للجمع المذكر([112])، وفي إعراب (لدن) الظرف وفي "ربّ صديقاً)([113]).
هذا رأيه في كثير من الاعرابات التي اختلف فيها النحاة، إذ ينتخب أيسرها بعد أن يعرضها ويبين ما بها من ضعف وقوة، وينقدها لكثرتها وتداخلها ولكثرة الجدل حولها ويوازن بينها، وربما يأخذ بأكثر من إعراب ويتجنب المفاضلة إذا لم يجد لذلك سبيلاً والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن مراجعتها في النحو الوافي نحو إعراب المخصوص بالمدح والذم وافعل به في التعجب، ولا سيما، وسواء وغيرها([114]) من الأساليب التي اختلفوا في إعرابها وبالعوامل التي اثرت فيها لذلك عُني بها عناية خاصة، وحاول تيسيرها وعمل جداول لذلك، كما فعل في إعراب (لا سيما) بعد أن وضّحها بإيجاز وقال: "أما إعرابها فقد يكفي جمهرة المتعلمين انه يجوز في الاسم بعدها الرفع والنصب والجر سواء أكانت نكرة ام معرفة"([115]).
وبعد أن يعرض اكثر من إعراب للمخصوص بالمدح نحو (نعم المغرّد البلبل) قال: "برغم شهرتها تقوم على الحذف والتقدير والتقديم والتأخير مع الركاكة والضعف مع إن هناك رأياً قديماً آخر أولى بالاعتبار لخلوه من تلك العيوب وغيرها هو: إعراب المخصوص بدلاً من الفاعل، وحبذا الأخذ بهذا الرأي السهل الواضح في تقديرنا…، ومن العجيب أن يكون هذا رأي قلة من النحاة مع وضوحه وقوة انطباق قواعد البدل عليه وعدم تناقضه مع قاعدة اخرى…"([116]).
- الاعرابـان التقديري والمحلي:
دعا ابن مضاء إلى الغاء الاعرابين التقديري والمحلي في مثل: هذا القاضي، وتابعه اكثر أصحاب([117])([118]). التيسير المعاصرين. وهو بهذا يتابع مذهبه الظاهري الذي لا يقدّر إلا بمظاهر النصوص
اما مجمع اللغة العربية في مؤتمره سنة 1945، ردّ ذلك ولم يأخذ به، وكان عباس حسن احد أعضائه، وكلاهما اخذ على عاتقه خدمة اللغة الكريمة بألاّ يمسا جوهر اللغة في اصلاحهما لها، ولأنهما كانا أعمق غوراً وفهماً لطبيعة النحو واللغة، لم ينطلقا من نظرات عجلى او من مذهب فقهي او ممن يحب تسليط الأضواء عليه، وابداء آراء أشبه بالخواطر العابرة. وهذا يُفّسر لنا اهمال القدامى كتاب (الرّد على النحاة)، إذ كيف يمكننا إن نلغي العامل والقياس والتقدير وغير ذلك؟! معنى هذا اننا سنلغي العلم وكثيراً من المذاهب التي اسهمت في بناء التراث العلمي العربي كالمعتزلة وعلماء الكلام واهل التأويل، ولنا إن نتساءل، ألا يحتاج القرآن الكريم تدبراً، ام نكتفي بالوقوف على ظاهره، فما البلاغة إذن والمجاز؟ واين مواضع الإعجاز إذا لم تكن فيه وجوه ووجوه تناسب العقول والعصور؟!!
لقد تناول الأستاذ عباس حسن الإعراب التقديري بالتفصيل محاولاً تيسيره([119]) بأمثلة يسيرة تُغني عن دعوة هؤلاء الرافضين، وجمع شتاته وحاول تركيزه في موضع واحد ليسهل الرجوع اليه وذكر ما يناسب المتعلمين ثم بسط الأمر دراسة وتوضيحاً في قسم (زيادة وتفصيل) فضلاً عن الهامش كعادته في معالجته مسائل النحو وابوابه، قال: "لا يمكن اغفال الإعراب المحلي والتقديري، ولا إهمال شأنهما وأثرهما، إذ يستحيل ضبط توابعهما مثلاً بغير معرفة الحركة المقدّرة او المحلية، بل يستحيل توجيه الكلام على انه فاعل، او مفعول او مضارع مرفوع، وما يترتب على ذلك التوجيه من معنى إلا بعد معرفة حركة كل منها"([120]). والمراد منه أن الكلمة (المبنية) او الجملة في محل (كذا) أي اننا لو وضعنا مكانها اسماً بمعناها معرباً لكان مرفوعاً او منصوباً او مجروراً، فهي قد حلت محل ذلك اللفظ المعرب وشغلت مكانه ومعناه وحكمه الأعرابي الذي لا يظهر على لفظها مثل: (جاء هؤلاء) و (قرأت الصحف من قبلُ).
- تقدير متعلق لشـبه الجملـة:
كذلك دعا كثير من أصحاب التيسير إلى الغاء تقدير متعلق شبهي الجملة والظرف والجار والمجرور في نحو (الرحلةُ يومَ الخميس) و (زيدٌ في الدار)([121]). لكن عباس حسن استأنس برأي شارح المفصل([122]) في إعراب مثل هذه الجملة وأخذ به، فنقول في الأولى أظرف زمان منصوب في محل رفع لأنه خبر المبتدأ، وفي الثانية: جار ومجرور محل رفع خبر المبتدأ، واكتفى بذلك في القسم المبسط من كتابه وقال في القسم الموّسع: (زيادة وتفصيل) انه لا بدّ لشبه الجملة أن يتعلق بعامله المحذوف وهو الخبر تقديره استقرّ او مستقر لأن الأصل أن يكون الخبر مفرداً مرفوعاً وجاءت شبه الجملة وحلّت محل ذلك الأصل فمجيؤها طارئ عرضي والمسألة شكلية بحتة ولا اثر لها في التحقيق، ثم ذكر تفصيلات كثيرة وخلص إلى تقليل التفريعات الشاقة والأدلة الجدلية المرهقة في امور شكلية ودعا إلى اهمالها، ورأى الأفضل الاقتصار على الإعراب المذكور ولا داعي للتشدد في البحث عن العامل ونوعه مع عدم الحاجة اليه لأن المعنى جلي كامل بدونه([123]).
يتبين إن عباس حسن وقف موقفاً وسطاً- كعادته- من هذه القضية الجدلية واستأنس برأي قديم، ولم يتعجل – كعادته ايضاً- إلى رفض ذلك لأنه عرف قيمة بحوث القدماء فلم يدعُ إلى الغائها لأنه رأى قول النحاة بوجوب تعلق شبه الجملة سديد، وان حجتهم في تحتيم ذلك قوية وهي: "تتلخص في أن الخبر هو المبتدأ معنى، وكذلك المبتدأ هو الخبر معنى، كما في مثل (عليّ الخطيب) فالخطيب في هذه الجملة هو علي، وعلي هو الخطيب، فكلاهما من جهة المعنى هو الخبر. وكذلك الشأن في كل مبتدأ وخبر على النسق السالف الوارد في الاستعمال العربي. فلو اردنا بغير التعليق تطبيق هذا الضابط العام الصحيح على الخبر شبه الجملة لم ينطبق، بل يفسر المعنى معه، ولا يصلحه إلا التعلق على الوجه الذي يذكره النحاة، ففي مثل: (علي أمامك) لا يصّح أن يكون الظرف (أما) هو علي ولا العكس إذ المعنى في كل منهما مخالفاً للآخر تمام المخالفة، ولا يصلحه ولا أن يكون الظرف متعلقاً بشيء آخر غير المبتدأ هو (كائن) او (موجود) او نحوهما…"([124]).
هكذا يعالج مشكلات النحو بمنطق وبعقل متفتح وذكاء دقيق، ولم يتعجل بإصدار الأحكام فيدعو إلى إلغاء ما عسر من مسائل النحو، وانما يحاول تقريبها وتيسيرها وتوضيحها.
- الاسـتعانـة بطرائق التدريـس:
ثمة علاقة بين التيسير النحوي وطرائق تدريس النحو، فقد تتداخل احياناً حتى يصعب فرز بعضها عن بعض لأن هدفهما واحد هو تيسير الدرس النحوي للتلاميذ، لكن الأول يتناول المادة النحوية نفسها، وبتناول الثاني طريقة تدريس هذه المادة، واسلوب عرضها([125])، لذلك اتخذها أصحاب التيسير وسيلة من وسائل التيسير النحوي.
لقد استعان الأستاذ عباس حسن بوسائل تربوية وتعليمية لتقريب النحو وتيسيره للتلاميذ منها، عرض المادة بأسلوب رصين تعليمي واضح لا تعقيد فيه ولا التواء ولا خروج عن المادة، مستخدماً تبويباً جديداً في ذلك، وتلخيص الموضوع بأسطر معدودات بعد بسطه والتوسع فيه، وباستخدام جداول توضيحية([126]).
ولم يؤثر طريقة واحدة على الطرائق الأخرى، فقد تكون استنباطية او استقرائية او القائية وقد تكون حواراً وغير ذلك مما يلائم الموضوع النحوي الذي يعالجه وما توصله إلى اهدافه في تيسير الموضوع، فقد قال في مقدمة كتابه: "إذا عرفنا أن الكتاب للكبار الطلاب، وللأساتذة المتخصصين، وان موضوعاته كثيرة متباينة، ادركنا الحكمة في اختلاف الطرائق باختلاف تلك الموضوعات وقرائها، على إن تكون الطريقة محكومة بحسن الاختيار"([127]).
يمكننا عدّ هذا الأساس من الأسس التي استند اليها والتي ميزت كتابه عن كتب النحو الأخرى ولا سيما كتب المتأخرين، على الرغم من اعتماده عليها، ومشابهة كتابه لها في السعة والشمول، لكنه خالفها في هذه الطرائق التربوية، فغالباً ما تقوم طرائق المتأخرين في مؤلفاتهم على اساس: المتن، فالشرح، فالحاشية، فالتقرير وغير ذلك معتمدين على الجدل وكثرة الخلاف، والاهتمام بالتعليلات والعوامل. وعلى الرغم من ذلك فعباس حسن لم يأخذ على القدامى طرائقهم في التأليف، وانما رأى في ذلك فائدة كبيرة تناسب حاجات عصورهم ودواعيه، وتعوّد وطلابهم على ذلك، لكنّ هذه الدواعي والحاجات تغيرت بتغير العصر، ومع ذلك فقد وصفها بأنها ذخائر غالية تضم في ثناياها كنوزاً نفيسة([128]). لا غرابة في ذلك، فقد تلّقى النحو منها وبالطريقة الأزهرية، ففاق كثيراً من النحاة المعاصرين.
مثال على طريقته في عرض المادة النحوية: (أقسام الكلام)، وزعه إلى مسائل، فيتناول الاسم اولاً باستخدام الطريقة الاستقرائية، إذ يذكر امثلة سهلة معاصرة مأخوذة من بيئة التلاميذ، ثم يشرحها شرحاً وافياً ميسّراً، حتى يصل إلى التعريف او القاعدة، مستعيناً بالهامش في ايضاحات كثيرة واحالات، هذا في القسم الاول من كتابه، اما في القسم الآخر: (زيادة وتفصيل) يضيف وينقد ويقترح ويعالج ويقدم افكاراً جديدة، ويستقصي الموضوع من كل نواحيه ويتتبعه في المصادر النحوية وغير النحوية، لكي يجمع مسائله المبعثرة في كتب التراث.ثم يتناول الفعل بالطريقة نفسها، فالحرف ايضاً، ثم يجمل كل هذا في اسطر معدودات خلاصة ستين صفحة تقريباً مستخدماً الجداول التوضيحية، ويوازن بينها وبين الفروق، ثم يختم الموضوع بأبيات من الألفية لأبن مالك في الموضوع نفسه، يشرحها شرحاً موجزاً([129]) .
- النحـو والمنطـق:
يرى اكثر الباحثين المعاصرين انّ النحو قد تأثر بالمنطق اليوناني، ولا سيما بعدما نشطت حركة الترجمة في آواخر القرن الثاني الهجري، وذهب بعضهم إلى ابعد هذا فقال إن الخليل وسيبويه قد تأثرا بهذا المنطق في وضع النحو الوضع النهائي، وعدّدوا امثلة على ذلك في كتاب سيبويه كتقسيمه اللفظ على اسم وفعل وحرف، والمسند والمسند اليه وغير ذلك([130]). وذهبوا إلى أن ذلك كان السبب الأول لصعوبة النحو ووعورة مسالكه، فقد خرج عن غايته التي ينبغي إن يكون عليها وان يؤديها، وقد غالى بعضهم في نقد ذلك([131]).
أما الأستاذ عباس حسن فقد وقف موقفاً وسطاً – كعادته – من هذه القضية، إذ لم يدع إلى فصل النحو من المنطق، وانما أخذ على بعض النحاة مغالاتهم في مزج النحو بالمنطق واستخدام مناهج دخيلة لدراسة النحو هي اقرب إلى علم المنطق من النحو، المتمثلة بالافتراضات البعيدة، والجدل في معالجة بعض مسائل النحو، والتعليلات الخيالية، والتأويلات البعيدة، فضلاً عن التكلف والتعقيد. فقد ردّ "ما ابتدعوا وأوغلوا من التأويل والحذف والتقدير حتى بلغت بهم الجرأة أن يطبقوا هذا على القرآن الكريم في كثير مما خالف قواعدهم وخرج عن ضوابطهم([132])". فمن ذلك ردّه قول النحاة بوجوب اشتمال الاضافة المحضة على حرف جر أصلي مناسب اشتمالاً اساسه التخيل والافتراض لا الحقيقة والواقع([133]). ويقول في المضاف اليه المحذوف الذي يؤدي لفظه او معناه دون لفظه: " انتهينا إلى استخلاصه من الجدل الكثير الذي يغشيه والحق أن النفس غير مطمئنة لما ارتضاه([134])".
وعلى الرغم من ذلك فانه لم يستنكر على النحاة اخضاعهم النحو للمنطق، وانما انكر المبالغة في ذلك. فقد يستشهد – احياناً- بأقوال اهل المنطق ويستعين بها لتقريب النحو كتوضيحه في باب النكرة والمعرفة، (الصورة الذهنية المحضة والخيالية المجرّدة)([135]).
والحق أن للنحو صلة وثقى بالمنطق فكلاهما فكر مجرّد، مصدرهما العقل، ولا سيما اذا عرفنا إن معرفة النحو شرط للأصولي الذي يعتمد المنطق في بحوثه، فاذا كان المنطق هو مجموعة القوانين التي تضبط عقل المفكر وتعصمه من الخطأ في عملية التفكير، فإن أصول الفقه، هو ايضاً مجموعة القوانين التي تضبط عقل الفقيه المستنبط وتعصمه من الخطأ في عملية الاستنباط([136]). فاذا كان الأمر على ذلك فان النحو هو مجموعة القواعد التي تعصم اللسان من الخطأ وهذا مرتبط بالعقل.
هكذا كان عباس حسن-رحمه الله- لم يتعجل في اصدار الاحكام، على الرغم من اتفاق أصحاب التيسير عليها، فقد حملوا على النحاة حملاً شديداً لاستعانتهم بالمنطق في معالجة قضايا النحو، اما عباس حسن فلم يبالغ مبالغتهم، وانما دعا إلى التخفيف من بعض اشكال المنطق في النحو العربي. وقد اثبتت الدراسات اللغوية صلة النحو بالمنطق وعلوم عقلية اخرى([137]).
- التعليـل:
ومن أسس عباس حسن التي استند اليها: "الفرار من العلل الزائفة، وتعدد الآراء الضارة في المسألة الواحدة، فلها من سوء الأثر وقبيح المعبر ما لا يحصى"([138]). وقال: يأبى النحاة إلا أن يتساءلوا: لِمَ رُفعَ الفاعل ولم نصب المفعول، ولِمَ لَمْ يكن العكس، ولِمَ ولِم,,, ويجيبون، وقد يختلفون، وقد تحتدم حرباً جدلية لا طائل منها، حتى انهم جعلوا العلل قيوداً حديدية اخضعوا لها الكلام الأصلي([139]).
ويتساءل: ما هذه العلل والتعليلات المرهقة التي تطفح بها المراجع النحوية وتضيق بها صدور المتعلمين؟ وان جميعها زائفة لا تمت إلى العقل والواقع بصلة([140]). وهي تعليلات تورث العلة احياناً، ودعا لقراءة (الأنصاف في مسائل الخلاف) ليشهد أبرع أنواع المنطق ولكن في غير موضعه، والرأي المحكم، ولكن في غير مكانه، والإطالة في غير إفادة([141]).
من ذلك تعليلهم منع الاسم من الصرف، قال: " للنحاة تعليل طويل في عدم تنوينه (الاسم الممنوع)، ولكنه تعليل يرفضه التأمل، وقد آن الوقت لإهماله، وانما نذكر ملخصه التالي ليطمئن من يشاء من الخاصة إلى انه تعليل مصنوع معيب، فهم يقولون…"، ثم يفصل قولهم وينقده وخلاصته انهم يرون أن الاسم يمنع من الصرف لشبهه بالفعل إذا اجتمع فيه علتان فرعيتان، من علل تسع، وعلى أن تكون هاتان العلتان، إحداهما لفظية والأخرى معنوية، وهناك علل تقوم مقام علتين لقوتها فتمنع الاسم من الصرف. ثم يقول: "ذلك ملخص كلامهم الخيالي وهو مدفوع بأن السبب الحق في تنوين الأسماء وعدم تنوين بعض آخر أن العرب الفصحاء نطقت بهذا منوّناً وبذلك غير منّون، فعلت هذا بفطرتها وطبيعتها، لا سبب آخر كمراعاة لقواعد علمية، وتطبيق لأسس فلسفية منطقية، فانّ هذه وتلك لم تكن معروفة لديهم في عصر صدر الإسلام وما قبله من عصور الجاهلية، ولم يستعينوا بقياس المناطقة او غيره من مسالك الجدل والتوهم وأشباهه مما لا يوافق حياتهم الأولى ولا نشأة اللغة([142]).
وعلى الرغم من رفضه ذلك إلا اننا نجده يعرض باب الممنوع من الصرف كما عرضه القدامى وبعللهم وتعليلاتهم، ولم يستطع أن يتخلص منها هو نفسه، ولم يستطع تطبيق ما ذكره. وهذا ليس غريباً فقد رأيت أن جميع أصحاب التيسير لم يستطيعوا إن يقدّموا نحواً جديداً يخالف نحو القدامى، لا يقوم على نظرية العامل ولا يحتوي على كثير مما أخذوه على النحو العربي، ويبدو أن سبب ذلك رسوخ النحو في العقل العربي.
ومهما يكن من امر فان عباس حسن يرى أن التعليل الصحيح هو نطق العرب، فلا تعليل لذلك إلا محاكاة العرب والنسج على منوالهم ولا شيء غير هذا وكل اجابة غير هذه فضول وهزل ولا صواب فيه ولا جدوى منه([143]).
لقد عبر عن ذلك بما سماه بـ: (علل التنظير) وهي أن يقال إن رفع الكلمة ونصبها وجرّها وغير ذلك، لأن نظيرتها في كلام العرب كذلك ولا علة إلا التنظير، أي قياس الشيء على نظيره، والنظير هو الأصل الذي نتمثله من الكلام الفصيح([144]).
ودعا إلى أن نستعرض التعليلات غير التنظيرية واحدة واحدة وندرسها في تؤدة ونصفة، ونقضي قضاءً مبرماً على ما لا خير فيه وما اكثره، غير مترددين ولا هيابين، وبهذا نطهّر النحو من عيب أي عيب ونصفيه من أدناس وأوشاب طغت عليه، وأساءت اليه والى المشتغلين به والراغبين فيه([145]).
لقد تابع عباس حسن في ذلك بعض القدامى الذين كانوا يرون أن التعليل الحق هو ما قالته العرب ونطقته، ودعوا إلى نبذ التعليلات المنطقية، منهم ابن حزم ومن تبعه من الظاهريين كأبن مضاء القرطبي، ومنهم ابو العلاء المعري، وابو حيان الأندلسي([146])، إلا أن عباس حسن أطلق على هذه العلة اسم: (العلة التنظيرية)، وقد سمّاها ابن مضاء باسم: (العلة الأولى)([147])، وسماها الزجاجي (العلة التعليمية)([148]) ، لأنها تفيد المبتدئين في تعليمهم اللغة، نحو قولهم: لم نُصِبَت زيد في: (إن زيداً قائمٌ) فيقال بـ (إنّ) لأنها تنصب الأسم بعدها في لغة العرب، وبهذا نكون قد ربطنا بين الأسباب ومسبباتها مما يسهل على التلميذ ملاحظته، لذلك لم يدعُ ابن مضاء إلى الغاء هذه العلة على الرغم من انه دعا إلى إلغاء العلل الثواني والثوالث، او القياسية والجدلية، وهذا ما فعله عباس حسن ودعا إلى إلغاء العلل غير التنظيرية، فيكون عباس حسن قد نحا منحى ابن مضاء في ذلك، وهو ما أثبته الدرس اللغوي الحديث([149]).
إلا أن اكثر أصحاب التيسير دعوا إلى إلغاء اكثر هذه العلل بأشكالها المتعددة([150])، الأول ( او التنظيرية او التعليمية) و الثواني (القياسية)، والثوالث (الجدلي)، وكان ينبغي أن يفرّقوا بينهما كما فرّق عباس حسن وأبقى على الأول متابعة للقدامى، أي التنظيرية.
- العـامل:
كان ابن مضاء القرطبي اول الداعين صراحة إلى الغاء العامل، وما يترتب عليه من حذف وتقدير واستتار وغيرها، لكن دعوته هذه لم تلق تأييداً إلا عند أصحاب التيسير المعاصرين الذين ذهبوا إلى أن العامل كان السبب الرئيس وراء مشكلات النحو وتعقيداته([151])، لكن لم يقم احدٌ منهم بتصنيف النحو على اساس جديد يلغي اثر العامل، اولاً يقوم على نظرية العامل المرفوضة لديهم، ولم يقدموا بديلاً ناجحاً عنها ويطرّد تفسير ليشمل الدرس النحوي كله([152]).
انّ الدرس النحوي لا يمكنه الاستغناء عن العامل لأنه خير وسيلة لتعليم اللغة والنحو، ومن الثابت أن من صفات البحث العلمي: تعليل الأشياء وتفسير الظواهر بما يربط الحادث بمحدثه، او السبب بمسببه، والنتائج بعللها، وبهذا تكون نظرية العامل التي اخذت من جهد النحاة الكثير انجازاً علمياً مرموقاً، يوصل الأشياء بأسبابها([153]).
نعم، إن لنظرية العامل جوانب سلبية وأثراً في تعقيد وإفساد بعض الأساليب النحوية، لأن النحاة، ولا سيما المتأخرون منهم اخرجوه من دائرته المحمودة إلى التحكم في الألفاظ والتراكيب، "ذلك التحكم الذي هو داعية الدهش بل السخط، وسبب من اسباب الإساءة إلى اللغة وتعسيرها على المتعلمين والأمثلة كثيرة لا يخلو باب منها، ولا مناص من تطهيره منها إن اردنا للنحو اصلاحاً وللغتنا تيسيراً، والوسيلة الصحيحة لذلك أن ندع كل تأويل وتخريج على الطراز المعيب السالف، وأن نجري في الأمور على ظواهر الألفاظ الصحيحة الصادرة عمّن يصح الاحتجاج والاستشهاد بكلامه…"([154]).
وعلى الرغم من انه يرى جانباً معيباً في العامل إلا انه لم يرفضه رفضاً قاطعاً كما فعل اكثر أصحاب التيسير، اما الجانب المعيب في العامل فهو إن النحاة منحوه "سلطاناً قوياً يتحكم في صياغة الاسلوب، او ضبطه، بغير سند يؤيد من فصيح الكلام، وقد سبق إن امتدحنا هذه النظرية البارعة التي لم تصدر إلا عن عبقرية وذكاء لماح، وقلنا انها لا عيب فيها إلا ما قد يشوبها في قليل من الأحيان مثل هذه الهنوات([155]).
لقد مثل عباس حسن الموقف المعتدل المتمثل بمراعاة جانب احترام جهد القدامى العظيم مع دعوة إلى تجرّد العوامل من التكلف والفلسفة. قال مبيناً اسباب الأخذ بالعامل على الرغم من المشكلات التي يسببها: " فالأخذ برأي الجمهرة في (العامل)، انما هو أخذ بالأيسر عملاً وتطبيقاً، وإفادة، بالرغم من انه ليس هو الحق في الواقع المقطوع به، ذلك أن الواقع اليقين يقطع بأن الذي يجلب الحركات ويغيرها، ويداور بينها انما هو: المتكلم، ما في ذلك شكّ، لكن لا بأس أن ننسى او نتناسى هذا الواقع ما دامت الفائدة محققة في النسيان او التناسي، والضرر لا اثر له. انما الضرر كل الضرر إن نسبغ على هذا العامل المصنوع الواناً من القوة وصنوفاً من المزايا تجعله يتحكم – بغير حق – في المتكلم ويفسد عليه تفكير([156])".
يتبين إن الأستاذ عباس حسن قد وقف موقفاً وسطاً كعادته، بين التراث والمعاصرة او بين القديم والحديث، فهو مع رفضه للجانب المعيب من العامل، لكنه يختار الأسهل والأيسر على الطالب او الكاتب في الاهتداء إلى الحركة المطلوبة بمعرفة العامل اللفظي او المعنوي، لا المتكلم، لأنه لا يعرف ضبط اواخر الكلمات وما يتصل بها.
يتبع