جعفر بن سليمان
محمد يوسف الجاهوش



كان جعفر بن سليمان بن علي بن حبر الأمة عبدالله بن عباس، من سادات بين هاشم:نبلاً، وجوداً، وبذلاً، وشجاعة، وعلماً، ولي المدنية، ثم مكة معها، وعزل عنهما، فولى بعد ذلك البصرة للخليفة هارون الرشيد·
لم يعرف بني هاشم أغبط منه، حصل له الشرف، والإمرة، والمال الجم، والأولاد الزهر، مات عن ثمانين من صلبه، منهم: ثلاثة وأربعون ذكراً، وله مآثر كثيرة، وأوقف داره على المنقطعين·
روى الذهبي عن الأصمعي قال: ما رأيت أكرم أخلاقا ولا أشرف فعالاً من جعفر بن سليمان، توفى سنة 174هـ، وقيل 175هـ.
ومن المواقف الدالة على حلمه وقبوله النصح: ما رواه الذهبي حيث قال: ركب جعفر بن سليمان - ذات يوم- في زي عجيب من النبل والتجمل، فلقيه فقيه صالح من فقهاء البصرة، ورأى ما هو فيه، فقال له: يا جعفر، انظر أي رجل تكون إذا خرجت من قبرك، وحملت على الصراط، وهذا الجمع والزي لا يساوي غداً حبة، ولا يغنون عنك من الله شيئا، إنك تموت وحدك، وتدخل قبرك وحدك، وتقف بين يدي الله وحدك، وتحاسب وحدك، فانظر لنفسك، فقد نصحتك· أ- هـ سير أعلام النبلاء: ج 8ص 240 ·
دروس وعبر:
إن المناصب الرفيعة وما يستلزمها من نفوذ الكلمة، وبسطه السلطان، وكثرة الخدم والأعوان، ومسارعتهم في إمضاء كل أمر، وتلبية كل رغبة، وتبرعهم بما لم يكن في الحسبان، كل ذلك يجر إلى العجب، والكبر، والتعالي، والخيلاء، وكثيراً ما يؤدي إلى الأشر والبطر، والانسياق وراء المطامع والشهوات، ولا ينجو من ذلك إلا عظماء الرجال، ممن هدى الله قلوبهم، فعرفوا حقائق الأشياء، وأدركو مآل الأمور، واعتبرو بمصائر من سبقهم، فاتخذوا ما خولهم الله جسراً، ليعبروا لجة الحياة إلى دار لا يزول نعيمها، ولا ينقضي سرورها (أكلها دائم وظلها، تلك عقبي الذين اتقوا وعقبي الكافرين النار) الرعد(35)].
وإذا أرد الله بولي أمر خيراً هيأ له بطانة صالحة: تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتحذره مغبة العجب والكبر، واستباحة حرمات الله- عز وجل - وحرمات الناس، حتى ترده إلى الجادة، وتقيمه على النهج القويم، والصراط المستقيم.
وأولى الناس بهذه المهمة السامية: أهل العلم والورع، فما أجدرهم أن يكونوا صمام أمان، يحول دون الكثير من المفاسد والطغيان، ويبصر من يضل الطريق ضلال المسعى وخيبة المنتهى·
والحصيف من يغتنم المناسبات، ويتحرى أنسب الأوقات لبذل النصح، وتقديم الإرشاد بأسلوب المخلص الشفيق، الحريص على هداية من يخاطب وسلامتهم من مضلات الفتن، وسوء المنقلب، ومقدما القيام بحق الله - عز وجل -، والدفاع عن حرمات الإسلام على كل هدف أو مصلحة أخرى.
حسن المواجهة:
لقد أجاد الفقيه البصري مخاطبة الأمير، وذكره بأمور لا يثور حولها جدال، ولا يشك فيها مسلم، لكنها قد تنسى وتغيب عن البال أمام زهرة الدنيا والافتنان بمباهجها·
فالموت نهاية كل حي كل نفس ذائقة الموت >آل عمران -185< والقبور مثوى الجميع، على اختلاف طبقاتهم، وتفاوت مناصبهم ومراكزهم، تبلى أجسامهم، وتبقى أعمالهم، فلا يضير هناك فقر، ولا ينفع غنى.
الموت فيه جميع الناس تشترك *** لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في مقابرهم *** وليس يغني عن الملاك ما ملكوا
فكلهم يأتي ربه فردا، ويقف بين يديه وجاها، وينشر كتابه، فلا يغني عنه جمعه وما استكثر، فكل صاحب لا يهديك إلى البر، ولا يقودك إلى الرشد، لا يغني عنك مقدار حبة·
وطالما أطاحت كثرة الأتباع بألباب الرجال، حتى لم تبقى من عقولهم شيئا، وقديما قالوا: إن كثرة الأتباع، فتنة للمتبوع، وذلة للتابع، وقالوا: لم يبق خفق النعال خلف الرجال من عقولهم شيئا·
فالعاقل من بادر نعمة الله بالشكر: فأدى حقها، ورعى حرمتها، ومهد سبيل النجاة ليكون من السعداء: (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم)[الشعراء (89].
فليت حكامنا يعتبرون، وليت علماءنا يؤدون أمانة العلم، ويقومون بواجب النصح، ويؤثرون ما عند الله: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد)·
سدد الله الخطى، ووفق الجميع