الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد :
سؤال شاع بين الناس ، وجوابه أشهر منه ، ألا وهو : ما الحكمة في خلقنا ؟ عندما يسمع أحد أحدا يسأل هذا السؤال يسارع بذكر قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، لكن هل علمنا حقيقة ( إلا ليعبدون ) ، أم أن علمَنا توقف عند ذلك الحد ؟ أردت أن أقول :
إذا كنا نعرف الحكمة في خلقنا ، فهل نعرف لماذا نعيش ؟
يبدو من أول وهلة أن الأمرين واحد ، والحقيقة أنهما مختلفان ، فحكمة الله تعالى في خلق الثقلين توحيده جل وعلا ، وهو إفراده تعالى بالعبادة ، لكن قد يعيش المرء لذلك ، وقد ينصرف باختياره عنه ، وانصرافه عن تلك الحكمة قد يكون لسبب أو لآخر ، لكن أعظم تلك الأسباب في نظري :
الجهل بحقيقة التوحيد الذي خلقه الله له ، بمعنى أنه لا يعلم ما هي حدود هذا التوحيد ، وكيف يكون موحدا على وفق ما أراد الله تعالى ، وجاء به نبيه صلى الله عليه وسلم .
إن ( إلا ليعبدون ) ، وهو التوحيد ، قد بين حقيقته القرآن والسنة المشرفة ، وهو : ( تعلق القلب بالله تعالى وحده ، وتوجه القلب له سبحانه وحده ) ،
وكأن الأمر لا زال غامضا ، فما معنى ذلك أيضا ؟
والجواب أن التوحيد الذي هو التوجه إلى الله تعالى وحده لا يخرج عن :
أولا : ( الهدف) الرضا بالله تعالى ربا بعد تحقيق الإيمان به وسائر الغيب ، ومعنى هذا أن القلب قد سكن بطلب هدف أعظم ، وغاية كبرى يسعى لها هي الله تعالى ، وتحقيق رضاه ، وإيثار ذلك على كل من سواه ، وإذا كانت ثمة أهداف دنيويةٌ أخرى ، فلا تتعدى عنده كونها موصلة وسبيلا للغاية المنشودة .
ثانيا : ( الولاء والبراء ) أمرنا تعالى أن نحب ونوالي المؤمنين بالتآلف والتواد والتعاون على البر والتقوى والتكافل والتناصح وغير ذلك ، ونبغض ونعادي الكفار والمجرمين والمنافقين وأضرابهم ؛ لأن أساس ذلك هو الله تعالى ومحبته ، فنحب من يحب ، ونبغض ونعادى مبغضَه وعدوَّه ، فلا مجال هنا للأهواء وقولِ إنه جاري أو قريبي أو أبي أو أمي أو زميلي في العمل ، مع وجوب البر والقسط مع كلٍّ ،
هنا يقول الموحد سمعت وأطعت ، وأولى وأعظم محبة أمرنا بها الله تعالى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي بين تعالى أنها برهان محبتِه سبحانه ، وليس ذلك فقط بالعاطفة بل بالاتباع والتأسي والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بشرعه والتحاكم إليه مع تمام التسليم والرضا بحكمه صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : ( إخلاص الشعائر والنسك له تعالى ) فرض الله علي الموحد فرائض ، وشرَع له من الدين شعائر ونسكا وأذكارا ، فهو يلتزمها ويخلص لله تعالى فيها ، لا يريد وجه غيره بها ، ولا يريد تسميعا ولا محمدة من أحد من سوى الله تعالى ، يلتزم حال الإخلاص هذه إن أبدى العبادة أو أخفاها .
رابعا : ( تعلق القلب رجاء وتوكلا وسؤلا بالله تعالى وحده ) ، فالموحد لا يتعلق قلبه في قضاء حاجاته في جلب النفع له ودفع الضر عنه بغير الله تعالى ؛ لأنه يعلم أنه تعالى ربه الذي بيده الأمر كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، وكل شيء خلقه وفي ملكه ، فلا يتعلق قلب الموحد إلا بالله وإن باشر الأسباب التي خلقها تعالى وجعلها بإذنه مقتضية لآثارها ، ولا يسأل غير الله تعالى ربه ، لا جنا ولا ملكا ، ولا بشرا حيا ولا مقبورا صالحا كان أو طالحا ،
ولا يقع في الطيرة أو في التنجيم والكهانة وأشبهاها ،
ولايتعلق تميمة ولا يلبس حلقة أو خيطا ، ولا يَرقِي رقية شركية .
لا يعمل سحرا ولا نُشْرَةً - وهي فك السحر بسحر - ،
لا يدَّعي علم الغيب ، ولا يصدق من ادعى علم الغيب .
خامسا : ( الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم ) ، فالموحد لا يحل إلا ما أحل الله ولا يحرم إلا ماحرم ، في مطعوماته ومشروباته ، وبيعه وشرائه ، ونكاحه وطلاقه ، وكل شؤون حياته ومعاملاته .
سادسا : ( التشريع ما شرع الله على وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ) ، فلله تعالى تشريعات بينها في كتابه ، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، ينظم بها الموحد أمور حياته كلها ،
يضبط بها شعائره ونسكه وذكره ،
يضبط بها علاقاته بين الناس :
مع إخوانه الموحدين ، ومع الأقارب والجيران والأرحام ، ومع أعداء دينه من المنافقين والكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ، يضبط بها علاقته بزوجه ، وأولاده ، وأبيه وأمه ، ومع الأضياف ، ومع غيرهم ،
يضبط بها التعامل في المال في التجارات وغيرها ،
تنضبط بها أخلاقه ، إلى غير ذلك .
سابعا : ( إن الحكم إلا لله ) فالموحد في منازعاته يرجع إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا يعرض عن ذلك .
ثامنا : ( الانكفاف عن معاصيه ) فالموحد ينتهي عما نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه .
تاسعا : ( المباح وزينة الله تعالى للعابدين ) الموحد يتمتع بزينة الله التى أباحها له ، ولولا أنه تعالى أباحها له ما أباحها لنفسه ، وهو في ذلك مأجور لأنه انضبط أيضا في ملذاته وشهواته بضابط الشرع ، وأيضا ما يأتي مباحا أحله الله له إلا على حال ذكره تعالى وشكره ، فكان موحدا بذلك .