صورة من أدب العلم منسية ..
د. عبد المجيد البيانوني



من أظهر أخلاق العلم وآدابه : التواضع ولين الجانب ، والاعتراف بالفضل لأهله ، وهو ما يدعو صاحبه إلى الاستفادة من الكبير والصغير ، والعامّة والخاصّة ، دون أنفة أو تمييز ، والحرص على الاستزادة من العلم في جميع الظروف والأحوال ، تحقيقاً لقول الله تعالى : ( .. وقُل : ربّ زدني علماً (114) ) طه ..

وقد بيّن لنا القرآن الكريم كيف حرص موسى عليه السلام ، وهو نبيّ من أولي العزم على صحبة العبد الصالح ، الذي أخبره الله أنّه أعلم منه ، ليستزيد من العلم ..

وعندما يقول لنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : ( الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ) ([7]) . فهذا يعني ألاّ يصدّ المؤمن عنها شيء ، من كبر سنّ ، أو علوّ جاه ، أو أيّ اعتبار يحول بين الإنسان ، وبين الاستزادة من العلم ..

قال الطيبي : (ضالّة المؤمن) أي مطلوبه ، فلا يزال يطلبها كما يتطلّب الرجل ضالّته ، (فحيث وجدها فهو أحقّ بها) أي بالعمل بها واتّباعها ، يعني أنّ كلمة الحكمة ربّما نطق بها من ليس لها بأهل ، ثمّ رجعت إلى أهلها فهو أحقّ بها ، كما أنّ صاحب الضالّة لا ينظر إلى خساسة من وجدها عنده . ووجد رجل يكتب عن مخنّث شيئاً فعوتب فقال : " الجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ودناءة بائعها " . وقال بعضهم : " الحكمة هنا كلّ كلمة وعظتك ، أو زجرتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيحة " ([8]) .

وقال الماورديّ في تعليقه على هذا الحديث : " ليأخذ الطالب حظّه ممّن وجد طلبته عنده من نبيه وخامل ، ولا يطلب الصيت وحسن الذكر باتّباع أهل المنازل من العلماء ، إذا كان النفع بغيرهم أعمّ ، إلاّ أن يستوي النفعان فيكون الأخذ عمّن اشتهر ذكره وارتفع قدره أولى لأنّ الانتساب إليه أجمل ، والأخذ عنه أشهر ، وإذا قرب منك العلم فلا تطلب ما بعد ، وإذا سهل لك من وجه فلا تطلب ما صعب ، وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تخبره ، فإنّ العدول عن القريب إلى البعيد عناء ، وترك الأسهل بالأصعب بلاء ، والانتقام عن المخبور إلى غيره خطر ، قال علي رضي الله عنه : " عقبى الأخرق مضرّة ، والمتعسّف لا تدوم له مسرّة " . وقال الحكماء : " القصد أسهل من التعسّف ، والكفاف أورع من التكلّف ([9]) .
وهذا الخليفة الراشد عُمَرُ رضي الله عنه يدخل ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، لما رأى فيه من النجابة ، والعلم والفهم ، ولم تحل حداثة سنّ ابْنِ عَبَّاسٍ دون ذلك .

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ : إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ قَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُمِرْنَا نَحْمَدُ الله وَنَسْتَغْفِرُه ُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَقَالَ لِي : أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَمَا تَقُولُ قُلْتُ : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} ، وَذَلِكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاّ مَا تَقُولُ ([10]) .

وهكذا كانت سيرة العلماء في طلب العلم وآدابهم من سلف هذه الأمّة .. فلم يكن الأشياخ من سلف هذه الأمّة يستنكفون أن يتعلموا من الشباب ما جهلوا ، ولا يزرون عليهم لصغر سنّهم ، إذ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء ، لا مانع لما أعطى الله من صبيّ أو غيره ، ولا معطي لما منع الله من كبير أو غيره .

قال أبو أيوب السجستاني : إني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبعُ الغلام يتعلّم منه ، فيقال له تتعلم من هذا ؟ فيقول : نعم ، أنا عبده ما دمت أتعلّم منه .
وقال عليّ بن الحسن : من سبق إليه العلم فهو إمامك فيه ، وإن كان أصغر سنّاً منك .
وقيل لأبي عمرو بن العلاء : أيحسن للشيخ الكبير أن يتعلّم من الصغير ؟ فقال : إن كانت الحياة تحسن به ، فإن التعلّم يحسن ، فإنّه يحتاج إلى العلم ما دام حيّاً .
وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي رضي الله تعالى عنه : يا أبا عبد الله تترك حديث سفيان بعلوّ ، وتمشي خلف بغلة هذا الفتى ، وتسمع منه ؟ فقال أحمد : لو عرفت منه ما أعرف لكنت تمشي من الجانب الآخر ، إنّ علم سفيان إن فاتني بعلوّ أدركته بنزول ، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلوّ ولا نزول .

وقال أبو بكر بن الجلاء رحمه الله : " إني لأرى الصبيّ يعمل الشيء فأستحسنه ، فأقتدي به ، فيكون إمامي فيه " ([11]) . فما أحسن هذا التواضع ! ومَا أرفع قدر صاحبهِ .!

وقد أصبَحنا في زمن فُقِدَت فيه خَلائقُ العلم وَالعلماء ، وغابت آداب العلم عن كثير من طلاّبه ، إلاّ من رحم ربّي ، وأهمُّها التواضعُ والاعترافُ بالفضل لأهله ، فربّما فاقَ التلميذُ أستاذَه ، وكذلك الولد والده ، وبزَّه في علم أو أكثر بمرَاحلَ وأشواط ، ولكنَّ أستاذَه أو والده لا يزال يذكره تلميذاً ، أو طفلاً كما كان بالأمس ، ويذكّره بذلك كلّما التقاه ، ولا يقرّ له بفضل أو سبق ، وربّما أظهر له الترفّع عليه ، بلهَ أن يتعلّم منه .. وهذا ممّا يحرم منْ بركة العلمِ ، ويدلّ على ضعف الإخلاص .

============================== ====
([7]) ـ رواه الترمذيّ (10 / 209) وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ ، وابن ماجة (5 / 269) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه .
([8]) ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير (5 / 83) .
([9]) ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير (2 / 692) باختصار يسير .
([10]) ـ صحيح البخاري (6 / 221) .
([11]) ـ قوت القلوب (2 / 83) .