وداعا للقسوة مع الأبناء..
عبد الله بن سعيد آل يعن الله



أسرار وأخبار، وخفيا وبلايا، وآهات وزفرات، تخرج تباعاً من بين بعض البيوتات، بسبب القسوة التي كشّرت أنيابها، وفعلت أفاعيلها.. حقاً لقد استفحلت القسوة بين بعض الأسر، فأفرزت العدوانية والعنف، والضرب والقتل والتشريد، والانحراف والطلاق، وضروباً من أنواع الشقاوة والتعاسة بين أفراد الأسرة...
الأبناء هم سلوة الأحزان، ودواء للأزمان، وزينة الحياة الدنيا، ولا شك بأن الآباء يكنّون في أنفسهم من الحب والعطف لأبنائهم منذ نعومة أظفارهم... يقول الأحنف بن قيس: "الأبناء هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وان غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودهم، ويَحبُونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً، فيملوا حياتَك، ويتمنوا وفاتك".
دعني أحدثك عن الذي أحدثه بعض الآباء في نفوس أبنائهم، من أجل قسوتهم عليهم، وهذا الحديث لا يعني أن نضع الآباء في قفص الاتهام، وقاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية. إن القضية ابتداءً وانتهاءً هي محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوى أعلى من تخفيف المشاكل بين الآباء والأبناء...
أطرقت حتى ملني الإطراق *** وبكيت حتى احمرت الأحداق
سامرت نجم الليل حتى غاب *** عن عيني وهدّ عزيمتي الإرهاق
يأتي الظلام وتنجلي أطرافه *** عني وما للنوم فيه مذاق
أنا قصة صاغ الأنين حروفها *** ولها من الألم الدفين سياق..
يقول أحد الأبناء -وستجد أيها الأب في ثنايا قول هذا الشاب مظاهر القسوة التي أرهقت الأبناء-:
"يا أبي، أعلمُ أنك تحبني، لكني أريد أن تعاملني بأسلوب يرضيني... أسمعُ عن أباءٍ هم أصدقاء لأبنائهم... أريدك صديقاً لي... لا أريدك أن تخاطبني كأب؛ بل كأب وصديق...
أريدك يا أبي أن تجعل أوامرك ليست أوامر... بل اقتراحات مصحوبة بابتسامة مشرقة... أريدك أن تؤمِن بالتغيّرات التي تحدث حولنا... أن تؤمن بشبابي وكذلك بطيشي، لا أعني أن ترضى بذلك... لا يا أبي... ولكني لا أريدك أن تتفاجئ بفعل مني يفقدك صوابك؛ فتلجأ لشتمي مثلاً، فضلاً عن ضربي... لا يا أبي احذر!!.. احذر!!... أن تتركني هائماً لوحدي في هذه الحياة..
أرشدني... لا تتركني لمخالب رفقاء السوء.. نعم يا أبي، أريدك قدوة لي... أريدك أن تحقق معنى القدوة في نفسي... يا أبي، لا أريدك أن توبِّخَني أمام زملائي... فهذا الفعل يخلق في نفسي عدوانية قد تتفاجئ بها... أبي أرجوك لا تعاملني بقسوة في طفولتي كي لا أكرهك عندما أكبر، قد لا أفصح لك عن ذلك.. قد أقبِّلُ يديك... لكن سوف تكون نفسي بعيدة عنك... سوف أجدُ أنه لا تَوافق بيننا، وكل هذا من آثار تلك المعاملة في صغري...
اَعلَم يا أبي أنك تريد مصلحتي ولكن أرجوك أن تبحث عن أسلوبٍ موافقٍ لي كشابٍ وموافق لزماننا... يا أبي.. لا أريد أن أشعُرَ بنقص أمام أقراني... لا.. لا.. لم أقصد النقص المادي وإنّما المعنوي والعاطفي... أسمَعُ عن زميلي بأنه قد تمازح مع أبيه وتصارع... أسمَعُ عن آخرٍ قد ذهب هو وأبيه فقط إلى النزهة والسفر... أسمعُ عن شاب قد أتى له أباه بهدية رمزية...!!
أبي.. لا أريد أن أكون يتيماً وأنت على قيد الحياة...!! لا أريد مصروفاً مادياً..!! لا أريد سيارة..!! لا، بل أريدك أنتَ يا أبي.. أريد أن أجلس معك.. أن تملئ عطف الأبوة الذي بداخلي.."
أُعاني في حياتي ما أعاني*** وأقضي العيش مفقود المعاني
وأسمع بالسعادة لا أراها*** أيبصرها حسير الطرف عاني
وتزداد الهموم لأن مثلي*** رماه في شقاه الوالداني
وذي الصدر الحنون دعته دنيا*** وألهته المجالس عن مكاني
ويقول آخر: "كنت طالباً متفوقاً في المرحلة الثانوية، وعند تخرجي، أجبرني والدي على تخصّصٍ لا أريده، فحال بيني وبين رغبات نفسي، حاولت أن أقنعه عن طريق أمّي وأختي الكبيرة، فأبى ذلك، ودخلت أخيراً هذا التخصص الذي قتل إبداعي وطموحاتي، وأبي هو السبب في ذلك، وأنا الآن لي أكثر من عشر سنوات تائه، لم أكمل دراستي ولم أكسب مراعاةً من أبي".
ويقول أحدهم: "أسلوب أبي أسلوب التخويف والعقاب وأسلوب الأوامر، لا نقاش... لا حوار، لسان حاله ما أريكم إلا ما أرى.. فكم مرةً هيأ لي موقعاً في دورة المياه للضرب، وجهز سلاسل الحديد ليضعني في مستودع المنزل أو في بيت الدرَج...".
ويقول لي أحدهم وعمره في الأربعين سنة: "أبي لم يعدل بيني وبين إخوتي ولم يساويني في التعامل معهم أثناء صغري، وزاد الطين بِلَّه عندما تزوج امرأة أخرى غير أمي وأتى لها أولاداً آخرين فأحسن إليهم وأساء إلينا..."، ثم ذكر سلسلة من الإهانات والضرب والتعقيد والطرد الذي لحق به من والده، ثم أجهش بالبكاء، وكانت تلك اللحظات هي أسوأ لحظاتي التي قضيتها؛ لأن بكاء وأنين الكبير غير بكاء الصغير، فلما انتهى من بكاءه تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال: "سامح الله والدي فهو الآن في قبره، ولكني أحببت أن أفضفض عن بعض معاناتي في حياتي...".
سبحان ربي العظيم... رجل جاوز الأربعين سنة، ولازال يتجرع مرارة القسوة من والده وهو في قبره.
وفي رسالة ابن لأبيه... يقول:
"يا أبت، حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي، وتعثرتُ في الطريق، أتذكّر كلمات التأنيب أمام عمومتي وأقاربي؟! فإن كنتَ نسيتها فإن الصافع ينسى ما لا ينساه المصفوع، وهل تتصور أني نسيت يا أبت حين قدِمتُ إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي، وفي مجلس قريب من المجلس نفسه، فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لقيت؟! وهل تريدني أن أنسى ذاك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟!
بل أحياناً يا أبت تحمّلُني ما لم أتحمل؛ ففي ذات مساء أمرتني أن أُحضِرَ الطيبَ للضيوف فذهبتُ إلى أمّي فوجدتهُ لم ينتهِ بعد وعدت إليك.. ألم يكن لديك بديل عن التأنيب لي ولأمي؟ أوَ ليس الأولى أن تقدّر في نفسك أنه لم ينته بعد؟ وهب أنه تأخر لدقائق وماذا في الأمر؟ ألا تتصور أني إنسان أحمل مشاعر وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي؟". (1)
ويقول لي أحدهم: "في بعض الأوقات أتخيل أن يصيبني الله بحادث مروري بسيط، أو مرض السكر والضغط، فقلت له لماذا؟ قال من أجل أن أحصل على رصيد أبوايَ العاطفي أثناء مرضي...!"
أبي مهلاً بعيني دمعتانِ *** تلوح بالأسى مما دهاني
أناشدُ فيكَ يا أبتاه قلباً *** عرفتُ به السماحة والتفاني
ويقول آخر: "أبي يعاتبني وينهرني أمام الآخرين حتى أنه في يوم من الأيام تمنيت أن الأرض ابتلعتني عندما تفلني أبي أمام جيراني... بالإضافة إلى كثرة مشاكله مع والدتي ومعي ومع إخوتي، فلا يهدأ له بال إلا عندما يؤجج مشكلة في المنزل، ويا ليت أن أخلاقه معنا كأخلاقه الحسنة مع زملائه وجيرانه...".
ويقول آخر: "أبي سبَّبَ بيننا وبينه فجوة بسبب المعاملة القاسية والضرب الشديد والعقاب البدني والإهانة والتوبيخ والشتم الجارح، وعندما يقوم أبي بضرب أمي أمامي وأمام إخوتي، ويلغي شخصيتها وكيانها أمامنا يزداد نفورنا وكرهنا له".
ويقول أحد الأبناء: "أبي يكيلني بعبارات هشَّمت طموحاتي، وبلَّدت إحساسي، فأسْمَعُ باستمرارٍ، كلمة: (فاشل) و كلمة: (ليس فيك فائدة)، وأنت (صائع)، وأنت (مجنون)، ويشبهني بإخواني وبأبناء عمومتي وأقراني، حتى كرهت البيت والمجتمع...".
علاقة الآباء بالأبناء ينبغي أن تكون على ثلاث مراحل:
1- علاقة حنان من الأب والأم، وغالباً ما تكون في فترة مابين الولادة إلى سن (10) سنوات.
2- الحنان مع القدوة، فيحرص الآباء على أن يكونوا قدوة صالحة للأبناء مع عدم فقدان العاطفة وتكون في فترة ما بين (10) سنوات حتى (15) سنة.
3- الحنان والقدوة والصداقة ما بعد (15) سنه.
وبذلك يكون هناك توازن في التربية بين الأب وأبنائه.
أيها الأبناء:
مهما أساء الآباء، ومهما كانت أخطاؤهم..
فهم بشر يعتريهم التقصير والخطأ...
وكذلك هم أصحاب فضل علينا.. فلزاما علينا طاعتهم في عسرنا ويسرنا.. في فرحنا وحزننا.. في رضانا ورفضنا.. إلا في معصية الله..
وخلاصة القول:
من هذه الساعة... ليودِّعِ الآباء القسوةَ من حياة الأبناء... أحبّوا أبناءكم بعمق... اجعلوهم يشعرون بحبكم لهم...
ليكون لسان حال من قسا على أبنائه، وداعاً أيتها القسوة التي عانقت شخصيتي، وداعاً أيتها القسوة... سأتجه إلى أبنائي حيث المأوى الدافئ، والملجأ الآمن، والمدرسة الأولى، ومركز الحب والسكينة وساحة الهدوء والطمأنينة.
وداعاً أيتها القسوة... فقد كنت أترجم الشحن النفسي من العمل والمجتمع على أبنائي، وعرفت بأني أجحفت في حقهم... الوداع أيتها القسوة... فوداعي لكِ بلسمٌ لأبنائي وسرور، وفراقي منكِ سعادةٌ لهم وحبور، وإلى غير لقاء قادم -بإذن الله-.
ـــــــــــ