بناء الأسرة في الإسلام



الشيخ إبراهيم المشهداني



الخطبة الأولى


إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً. بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصحَ الأمّةَ فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه. فصلواتُ ربي وتسليماته عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين أما بعد: فانَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد الذي لا ند لك وكل شيء هالك إلا وجهك، اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرضا إلا فيك، ومن الطلب إلا منك، ومن الصبر إلا بك، ومن الذل إلا لك، ومن الرجاء إلا فيك، ومن الرهبة إلا إليك:


أيها المسلمون الكرام:


إن الإسلام هو دين الله في الأرض يوم خلق الإنسان، وبعث به جميع الأنبياء الى أممهم وأقوامهم، وكذلك جاءت رسالة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم مسك الختام، فهي الرسالة الخاتمة والمصدقة للرسالات السابقة وللأنبياء السابقين، وكذلك مهيمنة على الكتب السالفة، وهذه الرسالة التي ختم الله بها الرسالات صالحة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وقد بنى الإسلام صرحه الشامخ على ركنين عظيمين، هما تربية الفرد، وتهيئة المجتمع الصالح وربطهما ببعض، والأسرة ذلك المجتمع الصغير الذي يتألف من أفراد قلائل، وقد عني الإسلام بتكوين الأسرة من البداية لأنها الأساس، فوجه الأنظار منذ البداية إلى تكوينها في اختيار الزوج والزوجة، فإذا اخترنا الزوجة نختار صاحبة الدين عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)، وبالنسبة للزوج قال الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: يا رسول الله! وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه. ثلاث مرات) رواه الترمذي، وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
نعم أيها المسلمون:


إذا بنينا الأسرة على هذا الأساس شمخ البنيان، ونجحنا في تقويم الأولاد، فنحن نكون قد حصلنا على أسرة صالحة، ومن مجموع الأسر نحصل على مجتمع فاضل تسوده المحبة، ويسري فيه الصلاح، ويكثر بينهم التعاون والتناصح والتآلف والتكاتف، جاء في الحديث (عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، و لا تدابروا، ولا يبع بعضكم علي بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو السلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير صلى الله عليه وسلم إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). رواه مسلم.
لقد كتب كثير من علماء الاجتماع في إصلاح المجتمع، وقد أغفل هؤلاء عمدا الالتفات إلى الدين وإلى الأسرة، مع أن هذه الكتب شكت بعد الناس عن الله، ولمسوا بكل وضوح خراب الأسر وتفككها لا سيما في المدن التي تقدمت صناعياً إذ كانت الصناعة سبباً لأن تكون المدن أخلاطا من مختلف بلاد العالم، فتفككت عرى الأسر، وأضحى الإنسان أقرب إلى الحياة الانفرادية من أن يندمج مع أخيه أو أبيه، أو أقربائه.
هذا الإنسان التائه والذي لا يجد الأسرة التي يلتجا اليها، ولا يعرف الله فيتجه مثلاً إلى بيت من بيوته في شدته لعله يجد بعض الطمأنينة، هذا الإنسان المعاصر أخذ يلجأ إلى الطبيب وهو يعلم أن الطبيب لا ينفعه لمعالجة أزمته النفسية، وليس عنده علاجا شافيا، نعم يذهب إلى الطبيب لأنه لا يجد في الميدان أو الساحة أحدا غيره.
قال تعالى ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ [طه: 124-126]، ان ضنك العيش هو سبب الإعراض عن الله، وعن كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإخوة الكرام:
لقد اهتم الإسلام بالإنسان فكرمه ونعمه، وقد جعله الله أمة وحده متميزاً عن سائر المخلوقات، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وحمله مسؤولية إعمار الأرض، وجعل له الجنة جزاء إن أحسن الأعمار، والإنسان يحتاج إلى التعليم وإلى الهدى ولذلك بعث الله الأنبياء والرسل معلمين للناس، والشرائع التي ارتضاها الله تبارك وتعالى، وجاءت رسالة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة للرسالات، وجاء هو خاتم الرسل هذه الرسالة جاءت عامة ووافية وكافية، واستوعبت لجميع الأغراض والمجالات المختلفة إلى يوم الدين، والفرد المسلم هو من أسرة وعائلة مسلمة قد تربى على الإسلام فهو مصدر إشعاع ونور لهذا الصرح العالي الشامخ، وعند ذلك يكون المجتمع صالحًا.
والإنسان لا بد من أن يواجه المتاعب والفتن والابتلاء والآلام والمصاعب، والناس أمام مشاكلهم على مراتب:


قسم يخطط لمستقبله ليقلل المشاكل، فيربي أولاده وفق منهج معين، ويدخلهم المدارس ويأخذ بهم نحو الأفضل.
وقسم لا يخططون بل يكونون مع التيار، فان أصابتهم مصيبة أو حلت بهم كارثة، أو وقعوا في معضلة بادروا بحلها ومعالجتها ولا يخفى ما في ذلك من ارتجال ونقص.
أما القسم الثالث فهم من لا يبالي أبداً، وهؤلاء لا يلتفتون لحل مشاكلهم جدياً، بل يهملونها، ويتركون الحل للزمان مهما كانت النتائج، وهنا يسأل سائل لماذا تحدث المشكلة في أسرنا ومجتمعاتنا؟.
نعم تصيب الناس المتاعب لإهمالهم السنن أو لغفلتهم مثلاً إهمال الأسرة تأديب الولد، فيصبح عالة على الأسرة ويجلب لهم المشاكل، والإعراض عن أمر الله يعرض الإنسان إلى العقوبة قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279] وقال تعالى﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]
وتكون العقوبة عامة وشاملة كما جاء (عن أم المؤمنين أم الحكم زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ, رضي الله عنها, أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: « لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ »، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: « نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ ». متفق عليهقال تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)، جاء في التفسير لابن كثير رحمه الله، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية قد أمروا بني فلان، وقال ابن عباس قوله: أمرنا مترفيها ففسقوا فيها يقول: سلَّطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم اللّه بالعذاب).
وتقع المصيبة على الأسرة أيضًا إذا فسق أكثر أفرادها، وسكت الصالحون فلم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، واكتفوا من الإسلام بالشعائر التعبدية فحسب، وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند حسن من حديث عدي عن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون، فإذا فعلا ذلك عذب الله الخاصة والعامة).
وقد وردت أحاديث كثيرة تبين نوع البلاء بالنسبة للجريمة، وأنها مناسبة لها قدراً وشرعًا. ففي الحديث الصريح (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) صحيح الجامع للألباني رحمه الله.
أيها المسلمون:


وقد تقع الفتن والمصائب على المؤمن امتحانًا فإن صبر وشكر جرى عليه القدر وهو مأجور، وإن جزع جرى عليه القدر وعليه الوزر ففي الحديث الصحيح: (إنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، فاتقوا الله عباد الله وعالجوا أخلاق أبنائكم كما تعالجون أجسادهم، وحاولوا أن تصححوا دينهم كما تحاولون أن تصححوا أمراضهم، فإنهم رعيتكم وأمانة لديكم، وحصنوا أسركم من غوائل المعصية وشؤمها، وآفات الذنوب وأثارها من خلال حراسة حصنها وتحصينها بالإيمان العميق، وبالخلق المتين، وبالقدوة المثالية الحسنة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، وطوبى لمن وجد في صحفيته استغفارًا كثيرًا، وصلاة على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.