آراء الإمام البخاري الأصولية من خلال تراجم صحيحه
سعد الشتري
المقدمة:
الحمد لله الذي تفضل على هذه الأمة بحفظ دينها، وصلاح أمرها، ورفعة شأنها، وهيأ لهذه الأمة علماء يُعلِّمون جاهلها ويُرشدون ضالَّها، فله الحمد - سبحانه - أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، هو الحق لا يستحق العبادة أحد سواه، ولا يحتاج أحد من الخلق إلى واسطة في خطاب ربه ودعائه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه، اتباعُه سبب لمحبة الله، وطاعته سبب لدخول جنة الخلد، فصلى الله على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الهداة الأبرار والسادة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً..أما بعد:
فإن الله - تعالى - بفضله هَيَّأَ لهذه الأمة من يحفظ لها دينها، فنقلوا كتاب الله نقلاً متواتراً لا مجال للتشكيك فيه، ونقلوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وميزوا صحيحها من غيره، وصنفت المؤلفات في الأحاديث الصحيحة، ومن أبرز هذه المؤلفات: (الجامع الصحيح) للإمام البخاري - رحمه الله -، الذي جزم كثير من الأئمة بأنه أصح الكتب بعد كتاب الله - عز وجل -[1]، ومن هنا اهتم علماء الأمة بهذا الكتاب فتلقوا أحاديثه بالقبول[2]، وصنفوا حوله المصنفات في الكلام عن معانيه وشروحه وأحكامه ورجاله، واختصاراته، إلاّ أنه لم يتصدّ أحد من المؤلفين للحديث عن القواعد الأصولية التي قرَّرها الإمام البخاري أو طبَّقها على الأحكام الشرعية في عناوين الأبواب في هذا الكتاب التي يسميها العلماء بـ(التراجم) وقد قيل: فقه الإمام البخاري يعرف من تراجمه[3]، ومن هنا ظهرت فكرة هذا البحث.
وتراجم الإمام البخاري على أنواع[4]:
النوع الأول:
ما ليس له علاقة مباشرة بالأحكام الشرعية، ومن أمثلة ذلك: "باب بدء الوحي"[5]، و"باب حلاوة الإيمان"[6].ومن ذلك أيضاً: أبواب المناقب[7].
النوع الثاني:
التراجم التي تساق على جهة الاستفهام والسؤال، مثل قوله: "باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها؟"[8]، و"باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟"[9]، و"باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟"[10].
النوع الثالث:
التراجم التي يفهم الحكم منها عند قرنها بما وضع تحتها، مثل: "باب من رفع صوته بالعلم"[11]، و"باب إسباغ الوضوء"[12]، و"باب الاستنجاء بالحجارة"[13]، و"باب مسح الرأس كله"[14].
النوع الرابع:
التراجم التي صرحت بالحكم منسوباً لقائل سواءً كان هذا القائل معروفاً أو ليس بمعروف، مثل قوله: "باب من لم ير الوضوء إلاّ من المخرجين"[15]، و"باب من لم يتوضأ إلاّ من الغشي المثقل"[16]، و"باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق"[17].
النوع الخامس:
التراجم التي يفهم من ظاهرها أن الحكم إنما يصدق على بعض أفراد العام، مثل قوله: "باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها"[18]، و"باب ما يكره من السمر بعد العشاء"[19]، و"باب ما يكره من البيع"[20].
النوع السادس:
التراجم التي صرح المؤلف فيها بالحكم من غير نسبته إلى قائل، مثل قوله: "باب كراهية الصلاة في المقابر"[21]، و"باب تحريم التجارة في الخمر"[22]، و"باب كراهية السخب في الأسواق"[23].
والنوع الأول لا علاقة له باستخراج الأحكام الشرعية، ومن ثم فهو خارج عن موضوع هذا البحث.
والأنواع من الثاني إلى الخامس لم يصرح فيها الإمام البخاري بالحكم، ومن ثَمَّ لم تدخل في هذا البحث، وإني لآمل أن يُهيِّئ الله لها باحثاً يستخرج بواسطتها القواعد الأصولية التي بنى عليها الإمام البخاري هذه التراجم.
فهذا البحث اقتصرت فيه على التراجم التي وُجد الحكم فيها صريحاً من غير نسبة لقائل، بحيث يتأكد الباحث أن البخاري يرى هذه الأحكام وتوصل إليها باجتهاده، وهذه التراجم منها ما يتعلق بالمسائل الأصولية مباشرة بحيث يقرر فيها حكماً أصولياً، ومنها ما يقرر فيه حكماً فقهياً مبنياً على دليله فيأتي الباحث فيوضح القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
وقد رتبت هذا البحث من مقدمة وتمهيد وبابين، وهذه هي المقدمة فيها أهمية الموضوع وحدوده وخطة البحث ومنهجه.
والتمهيد في ترجمة الإمام البخاري باختصار شديد لأني قد كفيت المؤنة في ذلك.
الباب الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري، وفيه أربعة فصول:
* الفصل الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري في مباحث السنة، وفيه مبحثان:
الأول: حجية السنة الإقرارية.
الثاني: حجية خبر الواحد.
* الفصل الثاني: الآراء الأصولية التي صرح بها في مباحث الإِجماع، وفيه مبحثان:
الأول: قطعية الإجماع.
الثاني: عدم اعتبار العوام في الإجماع.
* الفصل الثالث: الآراء الأصولية التي صرح بها في الأدلة المختلف فيها، وفيه أربعة مباحث:
الأول: عمل أهل المدينة.
الثاني: حجية القياس.
الثالث: تعريف الصحابي.
الرابع: العرف.
* الفصل الرابع: الآراء الأصولية التي صرح بها في دلالات الألفاظ، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: دلالة الأمر على الوجوب.
الثاني: دلالة النهي على التحريم.
الثالث: صرف الأمر والنهي عن ظاهرهما للقرائن.
الباب الثاني: الآراء الأصولية المستنبطة من كلام الإمام البخاري، وفيه ثمانية فصول:
* الفصل الأول: آراؤه المتعلقة بالحكم الشرعي، وفيه مبحثان:
الأول: عدم التفريق بين الواجب والفرض.
الثاني: دلالة لفظ (كتب) على الوجوب.
* الفصل الثاني: آراؤه المتعلقة بالسنة النبوية، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: حجية الأفعال النبوية.
الثاني: دلالة الأفعال النبوية.
الثالث: حجية السنة الإقرارية.
* الفصل الثالث: آراؤه المتعلقة بالأدلة المختلف فيها، وفيه خمسة مباحث:
الأول: حجية القياس.
الثاني: حجية شرع من قبلنا المنقول بشرعنا.
الثالث: حجية شرع من قبلنا المنقول بطريقهم.
الرابع: حجية قول الصحابي.
الخامس: إعمال العرف في تفسير الألفاظ المحتملة.
* الفصل الرابع: آراؤه المتعلقة بالأمر، وفيه خمسة مباحث:
الأول: دلالة الأمر على الوجوب.
الثاني: دلالة صيغة افعل على الأمر.
الثالث: دلالة صيغة افعل على الوجوب.
الرابع: دلالة فعل المضارع المسبوق بلام الأمر على الوجوب.
الخامس: صرف الأمر عن الوجوب لعدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له.
* الفصل الخامس: آراؤه المتعلقة بالنهي، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: دلالة صيغة لا تفعل على النهي.
الثاني: دلالة النهي على الفساد.
الثالث: دلالة النهي المصروف عن التحريم.
* الفصل السادس: آراؤه المتعلقة بالنهي، وفيه أربعة مباحث:
الأول: دلالة الاسم الموصول (من) على العموم.
الثاني: دلالة النكرة في سياق النفي على العموم.
الثالث: دلالة الجمع المعرف بـ(أل) على العموم.
الرابع: دلالة الاسم المفرد المعرف بـ(أل) لغير المعهود.
* الفصل السابع: آراؤه المتعلقة بالمفاهيم، وفيه مبحثان:
الأول: مفهوم الموافقة.
الثاني: مفهوم المخالفة.
* الفصل الثامن: آراؤه المتعلقة بباقي مباحث الدلالات، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: دلالة السياق.
الثاني: دلالة الاقتضاء.
الثالث: دلالة (أو) على التخيير.
* الخاتمة وفيها خلاصة البحث وأهم نتائجه وتوصياته.
أما عن منهج البحث فبالنسبة للآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري فقد ذكرت آراءه الأصولية التي ذكرها في تراجم الأبواب دالة على اختيارات أصولية وقارنتها برأي جماهير العلماء، وذكرت استدلالات البخاري التي استدل بها مطلقاً، كما استوعبت بحث المسائل التي خالف فيها الجمهور.
أما بالنسبة للآراء الأصولية التي تفهم من كلام الإمام البخاري فقد ذكرت رأيه في المسألة الفقهية، ثم ذكرت الدليل الذي اعتمد عليه ومن ثم استنبطت القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
هذا وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقني للقول الصواب والعمل السديد، وأن يجنبني الزلل في القول والعمل، وأن يرزقني النية الصالحة والأجر الجزيل والرفعة في الدرجات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التمهيد:
وفيه ترجمة موجزة للإمام البخاري[24]:
هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري. ولد سنة (256هـ) ببخارى، وتوفي سنة (291هـ) بسمرقند.
من مؤلفاته: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه، المعروف بصحيح البخاري. وخلق أفعال العباد، والتاريخ الكبير والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير، والضعفاء الصغير، والكنى، والأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، والقراءة خلف الإمام.
قال المزي: "البخاري الحافظ صاحب الصحيح، إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه، والمعول على كتابه بين أهل الإسلام"[25].
وقال ابن حجر عنه: "جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث"[26].
الباب الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري
الفصل الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها في مباحث السنة:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حجية السنة الإقرارية.
ذكر الإمام البخاري القول بحجية ما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة لا من غير الرسول"[27].
وأيد ذلك بما ورد ((أن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- حلف أن ابن صياد الدجال، فسئل: تحلف بالله؟ قال: سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -))[28]، وفي الباب الذي بعده أن الضب أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستدل بذلك ابن عباس –رضي الله عنهما- على أنها ليست للتحريم[29].
والأصوليون يرون حجية السنة الإقرارية[30].
المبحث الثاني: حجية خبر الواحد.
قرر الإمام البخاري صحة الاعتماد على خبر الواحد وحجيته فهو يقول: "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام"[31].
واستدل البخاري لذلك بعدد من الأدلة، منها:
1 - قوله - تعالى -: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ) [التوبة: 122] الآية، قال: "ويسمى الرجل طائفة لقوله - تعالى -: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية".
2 - قوله - تعالى -: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ) [الحجرات: 6]. فيقبل خبر غير الفاسق بدون تبين.
3 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث أمراءه واحداً بعد واحد[32]، كما أنه كثر النقل في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالاعتماد على قول الواحد أو الاثنين في التعليم والأذان والصلاة[33].
4 - كما استدل الإمام البخاري بعدد من آثار الصحابة قبلوا فيها خبر الآحاد[34].
والاحتجاج بخبر الواحد هو مذهب جمهور الأصوليين[35]، وكان من ضمن ما استدلوا به على ذلك الأدلة التي ذكرها المؤلف وقد قرروا وجه الاستدلال بها والاعتراضات عليها والأجوبة عنها، وعرضوا الدليل الرابع بصورة أخرى حيث حكوا فيه الإجماع[36].
الفصل الثاني: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري في مباحث الإجماع:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: قطعية الإِجماع.
يرى الإمام البخاري نقض قضاء القاضي بما يخالف الإجماع، فهو يقول: "باب إذا قضى الحاكم بجور، أو خلاف أهل العلم فهو ورد"[37].
ومعنى هذا: أنه يرى أن الإجماع يفيد القطع، بدلالة أنه يرى نقض قضاء القاضي المخالف له. والقول بأن الإجماع يفيد القطع هو مذهب الجمهور[38].
المبحث الثاني: عدم اعتبار العوام في الإِجماع.
ظاهر كلام الإمام البخاري عدم اعتبار العوام في الإجماع، بدلالة أنه فسر بعض أدلة حجية الإجماع بأهل العلم، فقال: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون))[39] وهم أهل العلم"[40].
كما أنه قرر عدم اعتبار العوام في موطن آخر، فقال: "وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة وأهل العلم"[41].
واستدل على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله))[42].
ولم يذكر وجه الاستدلال، لكن يظهر أنه استدل به من جهة أن النص مدح أولاً أهل الفقه في الدين، ثم بين حجية الإجماع وبيّن اعتبار قول أهل الإجماع، وبدلالة السياق السابق يظهر أن المراد في الجميع هم أهل العلم. وجمهور الأصوليين على هذا القول[43]، ولم أجد من استدل بهذا الحديث هنا.
الفصل الثالث: الآراء الأصولية التي صرح بها في الأدلة المختلف فيها:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: عمل أهل المدينة المنقول عن زمن النبوة.
قرر الإمام البخاري أن ما تناقله أهل المدينة وعملوا به من زمن النبوة فإنه حجة شرعية، فيقول في ذلك: "باب صاع المدينة، ومد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبركته، وما توارث أهل المدينة من ذلك قرناً بعد قرن"[44].
وأورد الإمام البخاري في هذا الباب عدداً من الآثار، هي:
1 - قال السائب بن يزيد: "كان الصاع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مداً وثلثاً بمدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز"[45].
2 - قال نافع: "كان ابن عمر –رضي الله عنهما- يعطي زكاة رمضان بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - المد الأول، وفي كفارة اليمين بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -"[46].
3 - قال مالك: "مدنا أعظم من مدكم، ولا نرى الفضل إلاّ في مد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لو جاءكم أمير فضرب مداً أصغر من مد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بأي شيء كنتم تعطون؟ قال أبو قتيبة: كنا نعطي بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -"[47].
وقد حكى جماعة من العلماء الاتفاق على حجية ذلك[48].
يتبع