إتباع الصراط في الرد على دعاة الاختلاط
عبد اللّه بن عبد الرحمن السعد
اللهم إنا نعوذ بك من السكوت عن الحق، كما نعوذ من مداهنة الخلق، ونعوذ بك من القول بلا علم، كما نعوذ بك من كتم العلم، ونعوذ بك من شهواتٍ تعمي الأبصار، كما نعوذ بك من شبهات تستخف الأغمار، ونعوذ بك من جرأة السفهاء، والاستخفاف بالعلماء، ومعاداة الأتقياء. نحمدك فأنت للحمد أهل، ونشكرك فأنت صاحب الفضل، ونصلي ونسلم على من بعثته رحمة للعالمين، وسراجاً منيراً للناس أجمعين.
أما بعد:
فإن لله - عز وجل - سنناً كونية لا تتغيّر ولا تتخلّف؛ ومنها سنة المدافعة بين الخلق، والصراع بين الحق وأهله، والباطل وأعوانه، فإن سبيل الحق واحدة وللباطل سبل شتى؛ قال - تعالى -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]. فسنة المدافعة بين الفريقين قائمة إلى أن يشاء الله، ولو كانت الغلبة مع الحق دوماً لما تمايزت الصفوف ولانطوى من ليس من أهل الحق تحت لوائهم وتدثر بدثارهم، فكان من حكمة الله - تعالى - ولطفه أن قدر الحياة دولاً، ومن رحمته وعدله أن جعل العاقبة للمتقين، فمهما لج الباطل وأعوانه فلا بد أن يرتج ويخنس؛ تلك هي حكمة الله وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلاً، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فيزداد بذلك الذين آمنوا إيماناً وتثبيتاً، وتنكسر شوكة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
تسامع الناس بالجلبة التي أثارها بعض الرويبضة من الصحفيين حول ما يتعلق بحكم شرعي وهو (الاختلاط بين الرجال والنساء)؛ ذلك أنهم دخلوا البيوت من غير أبوابها، ورموا بسهام الباطل حجابها، فحاموا حول حمىً منيعة، وهجروا أوشال الشريعة، وتسوّروا محراب العلم من غير آلة، ليكون لهم عند الناس بريق وهالة، فسقطوا عند الله وعند الناس، بما افتروا وتقولوا وقالوا للناس؛ قال - سبحانه -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ...) الآية [النحل: 116].
ومع أن منع الاختلاط بين الرجال والنساء، يكفي فيه الوازع الطَبَعِي في الخليقة، لما فطرهم الله عليه من غَيْرة وحَميّة، إلا أن نصوص الوحيين قد جاءت بما يؤكد ذلك، صيانةً لمحارم المسلمين، وحمايةً لأعراضهم؛ من أصحاب الشهوات والقلوب المريضة، بما سنأتي على بيانه -إن شاء الله-، فنعوذ بالله من انتكاس الفطر، وتفسّخ العزائم.
وقد تبين لكثير من الناس مغالطات هؤلاء الكتبة، وبعدهم عن الحق والإنصاف، ومخالفتهم لكلام الله - تعالى- وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل وبعدهم عما كانوا يتشدقون به من احترام (الرأي المخالف) أو ما أسْموه (الرأي الآخر) ومنح الحرية لجميع الأطراف، ودعواهم بالانفتاح على القول الآخر...، إلى غير ذلك من عباراتٍ طنانة وألفاظٍ رنانة؛ باتت جوفاء باهتة، أشغلوا بها الناس ردحاً من الزمن، ثم كان ماذا؟!!
لقد كشف الله عور قولهم وزيف دعواهم، فكذّبت أفعالهم أقوالهم، وكرّ ليلهم على نهارهم، وتبين أنهم أمشاجٌ مبتلون بالتغريب، ودعاة فتنة، وأبواق بدعة، ومعاول هدّامة؛ بأقلام مأجورة، وأفعال مأزورة، وعقولٍ مُسيَّرة، وفكرٍ مُضلِّل؛ حسيبهم الله.
فانظر لهولاء الصخّابون في الصحافة؛ كيف كالوا بمكيالين، وما الشمس بخافية على ذي عينين، وقديماً قالت العرب: "الشيء من معدنه لا يستغرب"، فكل من ينادي بفصل الدين عن الحياة، أو يرى فلسفة في الحياة غير ما يراه الدين، ويرضى بأن يكون بوقاً لأقوام لا خلاق لهم ولا حض في الآخرة؛ فهذه دعواه. ومع أن دعواهم لم تكن غائبة على أهل العلم وحماة المجتمع المسلم، إلا أن الله أظهرها للعامة والخاصة، وفضحهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؛ وهذه سبيل المنافقين، قال - سبحانه -: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُ مْ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 30]. نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية.
وقد بلغت الجرأة ببعضهم إلى تحزيب المجتمع الواحد، وتصنيفه حسب أهوائهم وشهواتهم، في دعوى آثمة تفوح منها ريح الجاهلية، والله - عز وجل - قد أمر بالاجتماع والتآلف في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، فالكون كله لله والخلق خلق الله تحت شرع الله، قال - سبحانه -: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]. ولا ينقضي عجب المسلم وهو يتابع جرأتهم في ذلك، وتقسيمهم المجتمع بكل مقوماته ومؤسساته إلى قسمين وحزبين؛ لسان حالهم "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فلم يكن الأمر سجالاً علمياً يصوّبه الدليل، ويزيّنه الأدب، ويحتويه الحلم؛ بل شهوات وشبهات؛ ظلمات بعضها فوق بعض، فإذا نشدت أحدهم الحجة أبلس وخنس، وهيهات أن يعقد لهم مسلم خنصره؛ فإنما هو دين، وما هي إلا جنة أو نار.
بل لم يتورع بعضهم من استعمال العبارات الساقطة، والألفاظ النابية، حتى لكأنه يلمز هيئة علمية ينتسب لها كبار أهل العلم بما قد صانهم الله عنه، فما هي إلا كلمات مشاغبة تدل على فكر صاحبها وعلمه وأدبه، وقد قالت العرب قديماً: "كل إناء بما فيه ينضح"، فما أساء صاحبها إلا إلى نفسه، ولا وصف في قوله إلا شخصه.
إذا ساء فـعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق مـا يعتاده من توهم
أصادق نفس المرء من قبل جسمه *** وأعرفـها في فعـله والتكلم
وإن الإنسان ليعجب من السماح لمثل هؤلاء بالكتابة في صحفٍ سيّارة تتلقفها أيدي الناس، وهم إنما يسعون بخيلهم ورجلهم لهدم المجتمع وتفكيك لحمته وزعزعة قواعده وتفتيت أخلاقه، والشيطان يؤزهم على ذلك أزّاً؛ مصادمين مشاعر الناس في تحدٍّ لرغباتهم وقدحٍ في مسلمات دينهم، فمن لم يزعه خوف أو أدب من الطعن في مؤسسة علمية يسمع صوتها أغلب المسلمين في أرجاء العالم، وينظر لرأيها المجتمع بأسره من حاكم ومحكوم؛ فكيف يُرجى خيره أو يؤمن شره؟
ولسنا في حاجة لسوق كلامهم فقد كرعت بهم الصحف، وبالت وثلطت بسُمّهم الزعاف، كما لسنا بحاجة للتصدي له ورده، فليس فيه مستمسك علمي يعارض بمثله، وإنما هو الخوض في الشريعة وأخلاق المسلمين، وهذا هو المجتمع بحكمه وحاكمه ومحكومه. إلا أنا ندعوهم للقراءة في محاسن الإسلام وحكم تشريعاته ومقاصده، وكيف أنه انتظم الدين والدنيا في نظام شرعي كوني واحد، فهو دين الفطرة الذي أكمله الله لنا ورضيه وأتم به علينا نعمته، فيه من القطرة إلى القنطرة، ومن الجرة إلى المجرة، جمع الدين والدنيا، والأولى والآخرة، والحياة والكون، والسماء والأرض، والبشر والملائكة، والجن والإنس... ؛ فمن عدّل أو بدّل فإنما خصمه الله. فندعو الجميع بدعوة الله في قوله - تعالى -: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56]. فكل نظام شرعي يخلّ به أشخاص؛ قابله من الفساد الكوني، بقدر ذلك الخلل.
إن مثل هؤلاء الكتبة ممن أمضى قلمه في هدم شرائع الإسلام، والتعدي على حرمات العلم؛ لحري بالعاقل أن يشفق عليهم من أنفسهم، وأن يسعى لتبصيرهم والأخذ بيدهم أو على يدهم؛ قال - تعالى -: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر: 8]. فهذا دين الله وشرعه، وهو حاميه وراعيه.
ويا ليت شعري فقد أصبح المسلم وهو يحاول أن يأخذ بأيدي هؤلاء للحق، كأنه إنما يعرض لهم الإسلام ويبين لهم حكمه ومحاسنه، وسبْق المسلمين في كثير من العلوم حين استبْقوا دينهم، وحَمَوه وصانوه وعظّموه، وكيف أن أعظم عصور النهضة العلمية للمسلمين إنما كانت مواكبة لأيام عزهم وصونهم لحمى دينهم وامتثالهم لأحكامه، ولو كلف أحدهم النظر في كتب التاريخ الإسلامي لتجلت له الحقائق، التي خضع لها تاريخ العلوم الغربية، فدونت الشهادات بذلك من أيدي المنصفين منهم.
لقد زاوج الإسلام بين العلم والعمل، والحياة والكون، في نظام واحد عجيب، بل كسر الإسلام أصنام الجهل، وحطم أغلال الفكر والنظر، فحث على السير في الكون وتأمل صنع الله وبديع خلقه، وامتن بالتسخير ورغب في البحث والانتفاع، ووعد بتبصير الآيات والشواهد في الآفاق والأنفس، فما أخذت أمة بأسباب العلم والنظر إلا وفتحت لها آفاق من العلم والمعرفة، وإنما كان تخلف المسلمين حين تخلوا عن دينهم، فتولت عنهم دنياهم حين أخلدوا إلى الشهوات وهتك الحرمات.
نحن أمة طريق دنياها بدينها، وهذه سنة الله للإسلام الذي ارتضاه وأكمله وأتمه لنا، فحري بمن امتطى هواه وتمنى على الله الأماني، أن يفتش في نفسه وينظر أين الإسلام من قلبه وبيته وزوجه وولده وعمله وماله وقلمه؟ ثم ليحتكم إلى الإسلام إن كان عاقلاً، وليهتف بالدين إن أراد الدنيا، ولا يعمل معوله في دينه لإقامة دنياه، فتزهده الدنيا ويهلكه الدين، فيخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، قال - تعالى -: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103-104].
وقبل بيان الحكم الشرعي لما نحن بصدده، نذكّر أنفسنا وإياهم بمراقبة الله الذي يحصي الأعمال، ونذكرهم بأن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، كما ندعوهم إلى كلمة سواءً بيننا وبينهم بأن نحتكم جميعاً إلى كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ينظر كل كاتب إلى ما كتب؛ أهو لله أم للنفس والهوى.
نسأل الله أن يهديهم للحق والصواب، وأن يأخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وأن يكفيهم ويكفي المسلمين شر أنفسهم.
وهذا أوان الشروع في بيان الحكم الشرعي للاختلاط، مؤيداً بالدليل الشرعي، مستمداً التوفيق والسداد من العلي القدير.
إن الاختلاط محرمٌ شرعاً؛ سواءً في التعليم أو العمل، وسائر الاجتماعات الخاصة والعامة، ولا عهد لأهل الإسلام باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب؛ والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها:
الدليل الأول: قول الله - تعالى - في سورة النور: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)[النور: 30-31].
فهذه الآية محكمةٌ بينةٌ في بيان مقصدٍ من مقاصد الشارع؛ وهو تزكية المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم وحفظ فروجهم.
فإذا نظرنا إلى الاختلاط المنظم الذي يراد منه التقريب بين الجنسين ساعات طويلة وشهور مديدة، (وليس مجرد اجتماع في مكان عام لا لبث فيه سوى لحظات يقضي فيها كل حاجته ويمضي) هل هو محقق لهذا المقصد ومتفق معه أو منافٍ له؟
سيكون جواب المنصف: إن هذا منافٍ له أشد المنافاة، حتى قالت إحدى الغربيات: "إن الاختلاط جريمة في حق الإنسانية"، والحق ما شهدت به الأعداء.
وقد خلصت دراسة حديثة من جامعة (هارفارد) بأن المدارس النسائية (مقارنة بالمدارس المختلطة) تُحقق أهدافاً تربوية ودرجات عليا في العلوم والقراءة والقيم الذاتية، وتغيب المشاكل السلوكية والعلاقات بين الجنسين، والتخلف عن الحضور وغير ذلك.
وهذا ما يراد لنا أن نكتشفه ولكن بعد التجربة العملية والتضحية بالكثير، مع الإغماض عن التجارب والدراسات الحديثة؛ فضلاً عن اطراح الأحكام الشرعية والآداب المرعية. والله المستعان.
الدليل الثاني: قول الله - تعالى -: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) [النور: 31].
إن من كمال الشريعة السمحة عدم التفرقة بين المتماثلات وعدم الجمع بين المتنافيات، وكل مسلم صحيح الديانة، مستقيم العقل، سليم القلب؛ يعرف حكم الاختلاط بمجرد تأمله هذه الآية الكريمة.
فهل يظن عاقل أن الشارع الحكيم ينهى المرأة لابسة الخلخال من تحت الثياب أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع الرجال حسه، ثم يبيح لها أن تجلس معه وتدرس بجواره مع ما يصاحب ذلك (ولا بد) من سماع صوتها، ورؤية شيء من جسدها، وربما الاحتكاك بها؟ إن الشارع منـزّه عن ذلك من غير شك -والحمد لله-.
الدليل الثالث: في العلم والتعليم؛ فقد أخرج البخاري (101)، ومسلم (2633) من حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال:((قال النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنتين؟ فقال: واثنتين)).
وهذا يفيد أن مجلس الرسول - عليه الصلاة والسلام - في التعليم بلا اختلاط؛ وإلا لما قالت النساء ما قلن.
ولو كان ذلك جائزاً لما تأخر نساء الصحابة عن تلقي العلم، ولما طالبن بمجلسٍ يخصهن به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهن من هن في الحرص على الخير.
ولذا كان تبويب البخاري - رحمه الله - على هذا الحديث: "باب: هل يجعل للنساء يوماً على حِدة في العلم".
الدليل الرابع: في التعليم أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (98) من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسمع النساء، وفي رواية: ((ثم أتى النساء، فوعظهن وأمرهن بالصدقة... )). وقد بوّب عليه: "باب عظة الإمام النساء وتعليمهن".
وهذا يدل على أن مجلس النساء متميزٌ عن الرجال وخاصٌ بهن.
الدليل الخامس: في الصلاة والانصراف منها؛ فقد أخرج البخاري (870) من حديث أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم"، قال: "نُرى -والله أعلم- أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال".
قلت: -والقائل هو ابن شهاب، كما في (837، 849)، وهذا الذي قاله قالته قبله- "راوية الحديث أم سلمة - رضي الله عنها –"، ففي رواية في صحيح البخاري (850) قالت: "كان يسلم، فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
فتبين أن جلوس النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من أجل انصراف النساء قبل الرجال؛ لئلا يؤدي هذا إلى اختلاط الرجال بالنساء.
مع أن وقت الانصراف من الصلاة قصير، فأين هذا من اختلاط الشباب والفتيات لساعات عديدة وأشهر طويلة؟
الدليل السادس: في الصلاة أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (872) من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان يصلي الصبح بِغَلَس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعرفن من الغلس، أو لا يعرف بعضهن بعضاً". وقد بوّب عليه: "باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد".
فهذا يفيد أن النساء كن ينصرفن فور انتهاء الصلاة، لذلك قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لا يُعرفن من الغلس" ولم تذكر الرجال؛ لأنهم يمكثون حتى تنصرف النساء.
الدليل السابع: في الصلاة أيضاً؛ أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أمر بترك باب في المسجد خاص بهن لدخولهن وخروجهن:
قال أبو داود (462): "باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال": عن عبد الله بن عمرو وأبو معمر، عن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تركنا هذا الباب للنساء)). قال نافع: "فلم يدخل منه ابن عمر –رضي الله عنهما- حتى مات". وقال غير عبد الوارث: "قال عمر"، وهو أصح. حدثنا (463) محمد بن قدامة بن أعين، عن إسماعيل، عن أيوب، عن نافع قال: "قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بمعناه. وهو أصح". ا.هـ من أبي داود.
قلت: "يعني أن الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر - رضي الله عنه –".
وقد أخرجه في موضع أخر (571) فقال: "باب التشديد في ذلك"، وقد بوب قبل ذلك: "باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد"، وذكر حديث عائشة (569) - رضي الله عنها -: "لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منع نساء بني إسرائيل". ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- (570): عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)).
ثم روى أبو داود (464) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير، عن نافع قال: "إن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان ينهى أن يُدخل من باب النساء".
قلت: "رواية عبد الوارث أخرجها الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو نعيم في أخبار أصبهان، والباغندي في أماليه، وابن بشران؛ جميعم من طريق عبد الله بن عمرو".
وأما ما يتعلق بالترجيح بين الروايتين؛ فعبد الوارث وابن علية متقاربان في أيوب، فكلامهما من كبار الحفاظ، لذا قدم بعض الحفاظ ابن علية، وقدم آخرون عبد الوارث، وأما رواية: بكير -وهو ابن الأشج- عن نافع أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان ينهى أن يدخل من باب النساء، فليست صريحة في أن عمر –رضي الله عنه- هو الذي أمر بذلك،؛ إذ هي محتملة أن يكون الذي أمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتنفيذاً لذلك كان عمر - رضي الله عنه - ينهى أن يدخل الرجال من باب النساء.
وإذا كان الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر -رضي الله عنه-، فهو من الخلفاء الراشدين الذين أمر - عليه الصلاة والسلام - بالعمل بسنتهم، فقال في الحديث الصحيح: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)).
ومن المعلوم أن القرآن الكريم كان ينزل بموافقة عمر -رضي الله عنه-، ولذا كان - عليه الصلاة والسلام - يستشيره في الأمور، وفي هذا الخبر أن ابن عمر –رضي الله عنهما- عمل بذلك فلم يدخل من هذا الباب الذي خصص للنساء حتى توفاه الله - عز وجل -.
وفي هذا الحديث مشروعية جعل أبواب خاصة للنساء في المساجد، ويلحق به دور التعليم والعمل وغيرهما.
والحكمة في ذلك ظاهرة؛ وهي ألاّ يختلط الرجال بالنساء، مع أن مدة الدخول والخروج قصيرة، فكيف إذا كان هذا الاختلاط في أوقات طويلة؟
يتبع