هذه رسالة مختصرة حول أحكام الجهل بمسائل التوحيد وكشف الشبهات والاشكالات فيها،
وقد تكلم أئمة الدعوة النجدية إلى عصرنا هذا حول هذه المسألة وبينوها بياناً شافياً ، إذ أن صراعهم مع الناس كان منصباً حول مسائل التوحيد والشرك، فلذلك كان كلامهم في تقرير مثل هذه المسائل أكثر من غيرهم، كما كان لشيخ الإسلام وابن القيم نصيبٌ وافرٌ من الكلام حول هذه المسائل لظهور الشرك في الأعصار المتأخرة وانتشاره مع ظهور التصوف والرفض وعبادة الأولياء.
وقد خاض بعض الباحثين في هذه المسائل وتكلموا بمعزلٍ عن الدليل، وبجهل بمواقع الخطاب ومقاصد العلماء، فجاءوا بأصول مخالفة لما درج عليه العلماء، وصاروا يتكلمون في عذر أهل الشرك وعبدة القبور والأولياء ممن يعيشون بين أوساط المسلمين، ويسمعون داعي التوحيد، والقرآن بين أيديهم، وهم متمكنون من العلم وقد تهيأت لهم أسبابه، إلا أنهم معرضون عن تدبر القرآن وتفهمه، إما استكباراً عن الانقياد لأهل الحق، وإما اتباعاً للآباء والأجداد وما ألفوه، وإما اشتغالاً بالدنيا عن أصل الدين وأساسه.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: (وهنا خاض قوم من المعاصرين خوضاً سيئاً في منهج الدعوة، هل كان منهج دعوة الشيخ محمد وأئمة الدعوة هل كانوا يعذرون بالجهل أو لا يعذرون بالجهل؟ ونحو ذلك من الألفاظ، وهذه لم تكن أصلاً عندهم بهذا اللفظ؛ نعذره بالجهل أو لا نعذره، وإنما كانت المسألة مرتبطة بأصل شرعي آخر وهي: هل بلغته الحجة؟ أو لم تبلغه الحجة؟ والحجة المناسبة وغير المناسبة) ا. هـ [محاضرة منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في العقيدة]
وقد قسمت هذا البحث إلى مسائل حاولت من خلالها توضيح هذه المسألة، واكتفيت في كل مسألة بنقل ما يُحصّل المقصود ويبيّن المراد من نصوص بعض الأئمة، ولم أرد الاستيعاب وإلا لطال المقام، وبحمد الله فإن كتب العلماء قد استفاضت في ذكر هذه المسائل لا سيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة النجدية بما لا مزيد عليه.
المسألة الأولى:
أمور الدين تنقسم إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية
أمور الدين ليست على حد سواء، فمنها أمور ظاهرة معلومة من الدين ضرورة كمسائل التوحيد ومعرفة الله – تعالى -بصفاته، ومنها مسائل قد تخفى على بعض الناس كدقيق الصفات ومسائل الرؤية ونحو ذلك. فالجهل في الأمور الظاهرة يختلف عن الجهل في الأمور الخفية.
ومن أعظم المسائل الظاهرة المعلومة من الدين ضرورة توحيد الله – تعالى -وإفراده بالعبادة، فإن العبد مفطور على معرفة الله – تعالى -والإقرار بربوبيته وألوهيته، والله – تعالى -قد أوضحه في كتابه، وبيّنه النبي – صلى الله عليه وسلم – بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هو زبدة الرسالة وأساس الملة وركن الدين الأعظم.
قال – تعالى – (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30]
وقال – تعالى – (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[الأعراف: 172-173]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان دلالة الفطرة على توحيد الله – تعالى -وإبطال الشرك: (جميع بني آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه وجعل علما ضروريا لهم لا يمكن أحدا جحده.
ثم قال بعد ذلك: (أن تقولوا)أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا: (إنا كنا عن هذا غافلين)عن الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثير من الناس غافل عنها.
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه، بل لا بد أن يكون قد عرفه، وإن قُدِّر أنه نسيه، ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيراً فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد….
إلى أن قال: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد:
إحداهما: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم)فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل، فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم.
وقوله: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون): وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية.
كما قال صلى الله عليه سلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)) فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها، وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
هذا لا يناقض قوله – تعالى -: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله – تعالى -في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل، ولا الإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب – تعالى -مع هذا لم يكن معذباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً) ا. هـ [درء التعارض 4/332]
وقال الطبري: (ثم لن يعدوا جميع أمور الدين- الذي امتحن الله به عباده معنيين:
أحدهما: توحيد الله وعدله.
والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام وأقضية وأحكام.
فأما توحيده وعدله فمدركة حقيقة علمه استدلالاً بما أدركته الحواس، وأما شرائعه فمدركة حقيقة علم بعضها حساً بالسمع، وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالاً على وجهين:
أحدهما: معذور فيه بالخطأ والمخطئ، ومأجور فيه على الاجتهاد والفحص والطلب،…
والآخر منهما غير معذور بالخطأ فيه مكلف قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفَّرٌ به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة على صحته متفقة غير مفترقة، ومؤتلفة غير مختلفة، وهي مع ذلك ظاهرة للحواس،…
وأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقة عليه غير مختلفة، ظاهرة للحس غير خفية، فتوحيد الله – تعالى -ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله….) ا. هـ [التبصير في معالم الدين ص112-118]
وعلى هذا فالجهل بأمور التوحيد ليس كالجهل بغيرها من المسائل ولو كانت من العقائد، لأن الفطرة شاهدة بذلك دالة عليه.
وفي الحديث القدسي:((خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)) [مسلم 2865]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن رؤوس المتكلمين: (وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتداً: إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه، إما ردة نفاق وإما ردة كفر، وهذا كثير غالب؛ لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال.
وإذا كان في المقالات الخفية فقد يُقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً بُعث بها، وكفَّر من خالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله: من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيرا من رءوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون) ا. هـ [مجموع الفتاوى 17/54]
وقال أيضاً: (مسألة: «فمن جحد وجوبها بجهله عرف ذلك وأن جحدها عنادا كفر».
هذا أصل مضطرد في مباني الإسلام الخمسة وفي جميع الأحكام الظاهرة المجمع عليها من مكلف إن كان الجاحد لذلك معذوراً، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو قد نشأ ببادية هي مظنة الجهل بذلك لم يكفر حتى يُعَرَّف أن هذا دين الإسلام، لأن أحكام الكفر والتأديب لا تثبت إلا بعد بلوغ الرسالة، لا سيما فيما لا يُعلم بمجرد العقل قال الله – تعالى -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال – تعالى -: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقال- تعالى-:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً) وقال – تعالى -:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) وقال – تعالى -:(لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) فالإنذار لمن بلغه القرآن بلفظه أو معناه فإذا بلغته الرسالة بواسطة أو بغير واسطة قامت عليه الحجة وانقطع عذره.
فأما الناشئ بديار الإسلام ممن يعلم أنه قد بلغته هذه الأحكام فلا يقبل قوله أي: لم أعلم ذلك، ويكون ممن جحد وجوبها بعد أن بلغه العلم في ذلك، فيكون كافراً كفراً ينقل عن الملة) ا. هـ [شرح العمدة ص51]
وقال ابن القيم: (وقوله: «حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد» هذا إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي، وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم، ودليل على أن من مات مشركاً فهو في النار وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوماً من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرناً بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان – سبحانه – لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم) ا. هـ [زاد المعاد 3/588]
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب بعدما نقل كلام ابن تيمية السابق في التفريق بين المقالات الظاهرة والخفية: (فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم، فلاناً وفلاناً بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة؛ هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عون، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته أبي حديد) ا. هـ [الدرر السنية 10/71]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بعد نقل كلام ابن تيمية أيضاً: (فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: «قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها»، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ بل قال: «ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين»، فحكم بردتهم مطلقاً، ولم يتوقف في الجاهل فكلامه ظاهر في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: «أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال»، وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلاً، «لم يمكن تكفيرهم حتى يُبيّن لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه سلم »، ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم، لأنهم جهال، كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلاً؛ بل قال: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه سلم فلم ينتهوا، أو إن كانوا جهالاً) ا. هـ [الدرر السنية 10/355]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في معرض رده على من لم يحكم بالكفر في المسائل الظاهرة بالشبهة ببعض كلام ابن تيمية: (بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم، فإنها تفيد قلة ذلك، كما في المسائل التي لا يعرفها إلا الآحاد، بخلاف محل النزاع أي مسائل التوحيد- فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلا ما أقرّ به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته – تعالى -، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفى به دليلاً مُبطلاً للشبهة، كاشفاً لها، منكراً لمن أعرض عنه ولم يعمل بمقتضاه من عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حَكَم على المعينين من المشركين في جاهلة العرب الأميين لوضوح الأدلة وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق:((ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمداً يبشرك بالنار))، هذا وهم أهل فترة، فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية في إيجاب التوحيد والأمر به، وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم…) ا. هـ [منهاج التأسيس ص102]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:(وبهذا تعلم غلط هذا العراقي، وكذبه على شيخ الإسلام، وعلى الصحابة والتابعين في عدم تكفير غلاة القدرية وغلاة المعتزلة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، والرافضة. فإن الصادر من هؤلاء كان في مسائل ظاهرة جلية، وفيما يعلم بالضرورة من الدين، وأما من دخل عليه من أهل السنَّة بعض أقوال هؤلاء، وخاض فيما خاضوا فيه من المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، أو من كان من أهل الأهواء من غير غلاتهم، بل من قلدهم وحسن الظن بأقوالهم من غير نظر ولا بحث فهؤلاء هم الذين توقف السلف والأئمة في تكفيرهم، لاحتمال وجود مانع بالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته قبل قيام الحجة عليهم، وأما إذا قامت الحجة عليهم، فهذا لا يتوقف في كفر قائله. ) ا. هـ [الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق ص383]