اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي
- د. مها خير بك ناصر
كثرت الدراسات اللغوية في العصر الحديث، ووضعت نظريات لغوية، تبحث في اللغة، تأصيلاً وتحديثاً، تعريفاً وتنظيماً.
أولاً: كلمة ومفتاح :
واللغة العربية ما زالت تفتقر إلى دراسة تحميها من رغبة الآخر في انقراضها؛ وهذه الفرضية يحاول بعض العرب التأكيد على صحتها، واصفاً لغتنا بالعجز عن التطور، واستيعاب العلوم الحديثة، وعدم قدرتها على مواجهة العولمة، وما تسعى إليه من تمدد وانتشار؛ مما يجعل البعض يقف خائفاً متهيباً هذه المواجهة، منتظراً وقوع ما خطط له الآخر الغريب عن طبيعتنا، وعن قيمنا ومفاهيمنا.
مما لا شك فيه أنّ العولمة تجد طريقها في مجتمعات مفرَّغة من الأصالة والجذور التاريخيّة؛ لأنَّ المخزون الثقافي لهذه المجموعات ضحلٌ، ولا يمكنه تسخير الفكر العالمي لمصلحته القومية، بالتفاعل الصحيح في مختبرات وطنية سليمة من الشوائب والتشويش.
إنّ المخزون الثقافي والحضاري لأمتنا قوة كامنة في أصالة تكوينها، وهو يمنحنا الحصانة الثقافية، التي ترعى قدراتنا وطاقاتنا، وتكسبها فاعلية الحركة للبحث عن الجوهري بلغة عربية، عُرِفَت عبر تاريخها الطويل بمقاومة التيارات، وإثبات الذات، بفضل تمسك أبنائها بها، وبفضل مقوماتها، وخصائصها المتميزة، التي جعلت منها لغة حية قادرة على احتواء منتج الفكر الإنساني، وأداة تعبير وتواصل بين العرب والمستشرقين الذين أكدوا على عظمة اللغة العربية، وعلى أهمية دورها القوميّ والإنساني، وعلى فاعليتها، وأصالتها المتجذرة في التاريخ، هذه الأصالة رأى فيها أحد المستشرقين عريناً، التجأ إليه العرب في أثناء محن التاريخ فقال: "إن العرب في ظل الاستعمار لجأوا لحماية هويتهم وأصالتهم إلى اللغة العربية"(1).
ثانياً: دور اللغة العربية القوميّ :
كانت اللغة العربية ملاذاً لكلّ المفكرين العرب، وما تزال، وبها أثبتوا إبداعاتهم وابتكاراتهم، وبها نشروا الفكر الإسلامي والثقافي العربية، التي ما زالت آثارها في العلوم الحديثة.
يرى الدكتور أسعد علي أنّ اللغة "منزل الكائن البشري، ومرآة فكره، يلجأ إليها لتأكيد وجوده، وينطلق بها لتحقيق رغباته، ولكنّ المنازل تغنى بسكانها، والمرايا تصفو وتجمل بالعيون الناظرة إليها، والوجوه المصورة عليها، فإذا هاجر السكان، أو ماتوا، خلت المنازل، وافتقر غناها، فهم روحها التي بها تحيا"(2).
فاللغة العربية مرتبطة ارتباطاً مصيرياً وحتمياً بأبنائها. فعندما كان العرب في عصورهم الذهبية، أغنت اللغة العربية العالم بالعلوم والمعارف، وأثبتت قدرتها على الانتشار والتوسع والاستيعاب والتواصل الفكري الإنساني. ولكنّ الفرد العربيّ يعيش اليوم أزمة هروب من الذات، وينغمس في حالة تغريب عن أصالته ووجوده، فانعكست الأزمة سلباً على الواقع اللغوي، ووصمت اللغة بالعجز والقصور عن مواكبة التطور العلميّ والحضاريّ؛ والعجز الحقيقيّ، في رأي بعض المفكرين العرب، ليس في اللغة بل بالقيمين عليها، والدليل على ذلك الواقع العربيّ: "عندما كان العرب أقوياء كانت لغتهم قوية، فابتكروا آلاف الكلمات والمصطلحات ومئات العلوم واتسعت لغتهم لكل جديد مهما كان مصدره(3)"؛ فالعجز كامن في ممارسات الإنساني العربيّ، وليس في اللغة التي تحتاج في نماء مفرداتها وتطور دلالاتها، إلى نخبة تؤمن بقدراتها الذاتية، وقابليتها للاكتساب والتطويع، وهذا مرتبطٌ بإعادة الثقة بالانتماء وبطاقات اللغة؛ لأنّ العلاقة بين الإنسان العربي ولغته علاقة تكاملية حتمية فلا وجود له من دونها، ولا وجود لها من دونه، ولذلك نجد أنَّ تخلفنا عن ركب الحضارة ناتج عن جهل المثقف العربي بخصائص لغته التي بها تُدوَّن العلوم والمعارف والمصطلحات، وتُحْفَظْ ثمار الفكر، وتسجَّل الملاحظات وأشكال الابتكارات، وتتحدد قيمة المنتج "لأن انشغال الفكر بالابتكار أو الانتشار المعين تصحبه عادة صور لغوية مهزوزة أو غائمة، وهي بمثابة القوالب أو الأطر التي تصلح لاحتواء الفكر"(4).
ثالثاً: الفكر العربيّ واللغة :
تعاني مؤسساتنا التربوية من قصور في التعبير عن الابتكارات العلمية والتطور التكنولوجي، ويقف أفرادها عاجزين عن الدخول في حقول المعرفة العلمية، والتعبير عن خبراتهم بألفاظ عربية؛ لأن الملكة اللغوية، التي تشكل العامل الأهم في استثمارات مبتكرة إبداعية، غير قادرة على مواكبة متطلبات العصر، فينقل أبناؤنا أفكارهم، وابتكاراتهم بلغة غير لغتهم؛ لأننا لا نهيّئ لهم "اتصالاً وثيقاً باللغة العربية وليس لأنّ العربية عاجزة عن استيعاب هذه الألفاظ، ولقد استطاعت العربية في فترة مبكرة من تاريخها أن تستوعب من هذا القبيل ما هو أكبر ـ في زمانها ـ مما هو في زماننا، وقد كان ذلك ميسوراً لدى العلماء العرب لأنّهم كانوا يعرفون خصائص لغتهم"(5).
يرتبط إنتاج اللغة بالفكر الذي يستوعب الشكل والمعنى الجوهري، ثم يحوّل هذه المرئيات ألفاظاً تشير إلى المعنى الحاصل في العقل أي "الصورة الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان، فكلّ شيء، له وجود خارج الذهن، فإنّه إذا أدرك، حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبِّر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أمام اللفظ المعبَّر به عن هيئة تلك الصورة الذهنية في إفهام السامعين وآذانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ"(6).
فالصورة الذهنية المتشكلة في الفكر هي الرابط بين اللفظ "الدال"، والشيء الخارجي " المدلول عليه" الحقيقي، فهي إذاً ـ أي الصورة الذهنية ـ الفكرة المتولدة عن الظاهر المرئي والمعبَّر عنه بالصورة اللفظية الخارجية أو الصادرة أو المنعكسة عن الفكرة، فالتعبير اللغوي مرتبطٌ بالمحيط الاجتماعي، وبالقدرات الذاتية للمختبر الذهني اللغوي؛ لأن الألفاظ انعكاسٌ صادرٌ عن اختراق شعاع الصورة المرئية للحواس العقلية، فيتم التعبيرُ عن المعنى الممكن الإحاطة به، من خلال العلاقة بين الرمز والمرموز إليه، المرئي بالشكل والصورة والإدراك العقلي، فعملية تشكلُّ المعنى تتم في ترتيب رياضي هندسي مثلث الرؤوس والزوايا والأضلاع، وهذه العلاقة لا تُدْرَك إلا بالعقل؛ لذلك يستحيل تحقق الإبداع إلا باللغة القومية. ولذلك يمكن القول إنّ عجزنا عن استيعاب مقومات اللغة العربية أفقدنا طاقاتنا الابتكارية.
تشكِّل العلاقة بين الدال والمدلول والمنتج العقلي معادلة رياضية، فأي تغيير في حدِّ من حدود المعادلة يؤدّي إلى تبدُّلِ حتمي في الحدود الأخرى، مما يقود إلى الاعتقاد بضرورة اعتماد هذه المعادلة أساساً في دراسة النظريات اللغوية، فلا تُدرس اللغة إلا من ضمن معطيات اللغة المنبثقة عن حدود المعادلة السابق ذكرها، وكلّ "محاولة تهدف إلى اعتبار اللغة شيئاً يمكن قياسه من الخارج من دون نظرة داخلية بالفكر إنما تبوء بالفشل... وليست اللغة رصفاً من الألفاظ ولا جمعاً لمفردات دون وعي أو انتباه. اللغة "قضايا" مفيدة دالة، والقضية "حكم" ومتى قلنا "بالحكم" فقد قلنا بالربط الفكري"(7). فاللغة أوجدها فكر مبدع، أدرك حقيقة العلاقات بين الشكل والجوهر، رمَز إليها بألفاظ تشير إلى معانيها، وركبَّ منها قضايا تتمظهر في أجسادٍ نصية، تتمايز بتمايز الفكر المُنْتِج.
إذاً، فاللغة نتاج الإدراك العقلي؛ والإدراك العقلي السليم متجسد بمنهجية المنطق، وما يولده من علاقات لغوية، لها دلالاتها في عملية التواصل.
تكتسب الألفاظ دلالاتها في السياق من معانيها المعجمية، ودلالاتها الصرفية والنحوية ذات الخصائص الثابتة التي تمنحها هويتها الشخصية. وهذه الخصائص أثبتها علماء اللغة عن طريق الاستقراء العلميّ لنصوص عربية، ثم هداهم الاستقراء إلى وضع فرضيات بنوا عليها نظرياتهم وقوانينهم اللغوية. فكانت هذه القوانين المعيار الدقيق في الحكم على النصوص وقدرة أصحابها على التعامل الصحيح مع اللغة.
تعتبر القوانين أساساً في البناء الهندسيّ اللغويّ، وعاملاً رئيساً في تنظيم وحداتها الصغرى والكبرى، وحارساً أميناً على سلامة العمليات اللغوية، فاحتفظت هذه القوانين بأسرارِ جمالية البناء النسقي للغة العربية وأشكالها الفنية، وحافظت في الوقت عينه على أصولها وأسسها وأنظمتها. فلم تتغير مذ كان للغة العربية هويتها الذاتية والمستقلة(8), ولم تتأثر القوانين بالألفاظ التي زال استخدامها، أو بالألفاظ التي تغيّرت دلالتها مع التطور اللغويّ، أو مع الألفاظ الأعجمية التي دخلت لغتنا وصارت جزءاً منها، ولم يؤثر التبدُّل الشكلي اللغوي في بنيتها النحوية أو الصرفية.
من هذا المنطلق نحن لا نخاف على لغتنا من زحف العولمة، كونها لغةً حيّة، محصَّنة بقوانين تشكلها الداخلي والتي تساعدها على استيعاب ما تنتجه العولمة، وما تقدمه من مصطلحات، يمكن تطويعها ومنحها بعضاً من خصائص اللغة الذاتية، وإكسابها هوية عربية، فتضاف بذلك ألفاظٌ جديدة إلى العائلة اللغوية العربية، وتنمو المفردات، وتتطوَّر الدلالة اللفظية، فينحسر الخوف من المصطلحات الجديدة بالتداول والاستخدام.
أثبتت لغتنا عبر تاريخها بأنها لغة تطويع وتطبيع، وهي قادرة على استيعاب العلوم بألفاظٍ عربية بعد تطعيم اللفظ الأعجمي بجينات ألسنية عربية، تم التوصل إليها بأسلوب علمي قائم على القياس فما جاء قابلاً للقياس دخل في حقل التداول المعجمي العربي. ولم يغفل علماء اللغة الأوائل ذلك فقالوا: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب (...) وما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها"(9).
بهذه المقومات نواجه تحديات العولمة؛ وذلك مرتبط بقدرتنا على كشف جوهر الخصائص اللغوية التي وضعها شيوخنا الأوائل، فنعود إلى الأصول، وما قامت عليه من منطق علمي؛ لنكون قادرين على النهوض بلغتنا، وفق قوانينها الصحيحة، فلا جديد من دون قديم يؤسس للانطلاق نحو المستقبل.
رابعاً: اللغة العربية بين الأصالة والتجديد:
ترتبط اللغة بالبيئة، والإقليم، والطبائع البشرية فهي ملكة مقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم(10) ولا تكون اللغة إلا حيث يتواجد أفراد المجتمع الواحد الذين يكسبونها خصائص تركيبية ودلالية، تتوافق والإدراك العقلي لديهم، وسلوكهم الاجتماعي، فتتمثل الألفاظ في نظام تركيبي، له بنية خاصة، ونظام صوتي متشكل من الأصوات العرفية المنطوقة، ومن تتابعات الأصوات التي تستخدم، أو التي يمكن أن تستخدم في التعامل بين الأفراد، أو عند مجموعة من البشر.
واللغة العربية، لها أصول، تأسست عليها في الشكل الصوتي والبنية التركيبية، وهذه الأصول راسخة ثابتة في أصالتها، وثباتها بيّنٌ في تمسّكها بالشكل الصوتيّ والصرفيّ والنحويّ، إذ "لا يُخفى في العربية صوت من أصواتها مهما تتقلب تصاريف موادها المختلفة، فمادتها الأصلية محفوظة، ورابطتها اللغوية مصونة (...) إن لغتنا العربية تحتفظ بثبات أصواتها، وتبقى فيها المادة الأصلية المشتق منها واضحة مهما تبَدُ مشتقاتها الفرعية متغيرة عنها(11).
وهذه الأصالة قادرة بثباتها ورسوخها أن تكون منطلقاً للتجديد؛ لأن التجديد يفترض حدوثه وجود أصل فيه حياة وقوة كامنة، فيعيد فعل التجديد القوة والنشاط للأصلي(12), ويبعثه في أشكال جديدة لا عهد لنا بها، وهذا الجديد يكون في شكله الأولي على غير مثال، كونه إبداعاً، والإبداع مغايرة وخصوبة ونماء.
هذه الحركة التجديدية الإبداعية مرتبطة بعبقرية فكرية مؤسسة على فهم كامل لقواعد اللغة وقوانينها وأسرارها، فهي مرتبطة بالأصالة اللغوية من حيث الجوهر، ومتجاوزة لأشكالها، التي نظر إليها علماء النحو المحدثون كموروثٍ مقدس لا يمكن المساس به.
مما لا شك فيه أنّ الدراسة الموضوعيّة العلميّة للنحو العربي ترشد الدارس إلى الأصول النحوية التي بنيت على التفسير والتعليل، وتعطيه صورة حقيقية عن المجهود الذي بذله علماؤنا الأوائل، في جمع اللغة وتقعيدها على منهج علميّ، قوامه المنطق الرياضي. فلقد كان أبو الحسن الرمّاني متفنناً في علوم النحو واللغة والفقه والكلام على مذهب المعتزلة، وكان يمزج كلامه بالمنطق(13).
لم يُجمِّد علماء العرب اللغة في قوالب جاهزة، وفي بطون الكتب، بل قاموا باستقراء نصوصها، ووضع مفرداتها في الاستعمال، بما تقتضيه قواعد تراكيبها، فأغنوا اللغة بالمفردات والمصطلحات وأساليب التعبير، وأصَّلوا مَهَمَّة اللغة في خلق المعرفة اللغوية ونشرها، والتي تكشف عن سلامة النطق والتعبير وسهولة استخدام المصطلحات العلمية، وأثبتوا قدرتها على التعبير عن الفكر وما يطرحه من موضوعات، أو ما يبحثه من حقائق, "فلو أنَّ علماءنا المحدثين عمدوا إلى مثل هذا النهج لضمنا ثروة لغوية عربية تتناسب تماماً مع ما ينتجون من علم، أو يقدمون من فن(14)".
أثبتت اللغة العربية قدرتها على التلقي، والتفاعل، والتطور، فانبثق عن أصالتها فعل حركي متجه نحو المستقبل المتجدِّد والمتطور، فكانت لغة علم وحضارة إنسانية تنبض بالإخصاب والتوليد والتجديد الإبداعي الوثيق الصلة بأصالته الإبداعية، فنتج عن ذلك إيمان قوي بقدرتها على العطاء والإبداع، لأنَّ اللغة هي المفعِّل الحقيقي للإبداع، وإبداعية اللغة مرتبطة بقوانين النظام الداخلي لتراكيبها "فهو أساس الوصف النحوي السليم، وهو نظام يقرر المعاني على المستوى النحوي في مصطلحات وظيفية مناسبة للغة موضوع البحث"(15).
لم يصدر النحو العربي عن انفعال عاطفي، بل عن ابتكار علميّ، له خصائصه، ومنهجه الرياضي القائم على مجموعة من القواعد، فكان علماً، له أصوله وقدراته ونظراته المؤسسة على مبادئ المنطق الرياضي، وما يقتضيه من ملاحظة المعطيات والظواهر اللغوية وإظهار التشابه بينها، ثم صوغ المعلومات من هذه المعطيات، ووضع الفرضيات المستمدة من المعلومات المكتشفة، ثم التأكد من ملاءمة الفرضيات للواقع اللغوي بإجراء ملحوظات جديدة، فإذا ثبت عدم تناقضها صيغت نظرية لغوية تفسّر ديناميكية اللغة وعملها، ثم صارت قانوناً يفسّر قضايا اللغة كلها. فكان النحو العربي مجموعة من القواعد المعيارية جاءت ثمرة تفكير علميّ منطقيّ عند علمائنا اللغويين.
يتبع