إنك لا تهدي من أحببت
عاطف شمس



الخطبة الأولى
جاءني رجل يبدو الحزن على ملامح وجهه، وقال: ولدى ماذا أفعل مع ولدي، إنه يضيع، يفلت من يدي، لقد صاحب أشرارا، جعلوه يدخن السجائر، ثم الآن البانجو، قلت: هدئ من روعك، عليك بكل الوسائل لمنعه من رفقة السوء، فالصاحب ساحب، وادعو له بالهداية والتوفيق مع كل صلاة لك.
فالهداية –إخوتي في الله- قسمان: هداية توفيق وهداية إرشاد، أما هداية التوفيق فبيد الله وحده، لذا خاطب سيد الأولين والآخرين، قائلا: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)[القصص 56].
أما هداية الإرشاد فهذه للأنبياء والمرسلين والعلماء والدعاة، قال - تعالى -: (إنك لتهدى إلى صراط مستقيم) [الشورى 52].
هذا هو عنصر الخطبة الرئيسي أما العنصر الفرعي فهو أن نعلم أن أركان الإيمان ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره - حلوه ومره.
والقضاء والقدر -إخوتي في الله- كم زلت فيه أقدام وطاشت عقول والحمد لله أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق الضالة والقضاء والقدر ببساطة هو أن الله علم كل ما سيحدث فكتب ولما شاء قضى وقدر، لذا فهناك مشيئة كونية أو إرادة كونية ومشيئة شرعية أو إرادة شرعية.
المشية أو الإرادة الكونية لا فكاك لأي إنسان عنها أبدا، المشيئة الشرعية أو الإرادة الشرعية هي افعل ولا تفعل، وهذه للإنسان فيها مشيئة وإرادة فضلت العقول هنا، وهناك فقالت فرقة ضالة أن المشيئة والإرادة كونية لا فكاك أبدا عنها، فقالوا: الإنسان إذا مسير لا إرادة له ولا اختيار له وهم الجبرية، وفرقة ضالة أخرى قالت بالمشيئة والإرادة الشرعية فقط، فقالوا: الإنسان يفعل في الكون ما لا يعلمه الله أو أن بالكون أشياء لا يعلمها الله إلا بعد حدوثها وهم القدرية، فهل تقول: إنهم كانوا أغبياء كلا بل بعضهم كان مضرب المثل في الذكاء، ويرحم الله الذهبي وهو يترجم لأحد الزنادقة وكان ذكيا، لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى.
ويقول بن تيمية عنهم "المتكلمون" لو نظرت إليهم والشيطان مستحوذ عليهم رحمتهم ورفقت بهم لقد أوتوا ذكاءا وما أوتوا زكاءا، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة: (فما أغنى عنهم سمعهم ولا إبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) [الأقحاف 26].
فكرت مليا في مشكلة الأخ الذي سألني عن ولده، وكيف أنه يسير في طريق الضلال، ولا يستطيع أن يرده عنه، فتذكرت ما قلته سابقا من الإرادة الكونية والشرعية والهداية بقسميها هداية التوفيق وهداية الإرشاد، ورجعت إلى كتاب ربى - جل وعلا - فوجدت بغيتي، وسبحان من أنزل القران من فوق سبع سماوات، وقال فيه: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام 38] فماذا وجدت؟ وجدت ابنا يرى أباه كافرا فحاول معه بكل السبل فلم يستطع؛ إنه إبراهيم الخليل - عليه السلام -، وانظر -يا رعاك الله- كيف خاطب أباه: (يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) [مريم 41-44] كم مرة يقول: يا أبت، ليستدر عاطفة الأبوة، لعل أباه يسلم ويهتدي لكن لم تجدي مقولته شيئا، وعاش أبوه على الكفر: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء).
وهاهو النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه عمه أبو طالب فحضر فوجد عتاة المشركين بجوار عمه، فقال: يا ابن أخي تعلم منزلتك عندي وهاهم أشراف قومك جاءوا تأخذ منهم ويأخذون منك، فقال النبي أريد منهم كلمة واحدة، فقالوا: لا بل عشر، فقال: أريد أن تقولوا لا إله إلا الله فصفقوا بأيديهم قائلين أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك عجب، وقال النبي لعمه الذي دافع عنه أربعين سنة ورعاه وكفله بعد وفاة جده وكان يود من كل قلبه أن يؤمن عمه بحيث أن أبا بكر رضوان الله عليه يوم اسلم أبوه، قال: كنت أود إسلام أبى طالب فقالوا: كيف فقال لأن إسلام أبى طالب يسعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويفرح قلبه وإسلام أبى يسعدني ويفرحني وسعادة رسول الله عندي أهم من سعادتي.
قال النبي لعمه: قلها أنت ولو مرة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلماه حتى قال: بل على ملة عبد المطلب ومات كافرا فحزن النبي حزنا شديدا وقال: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزل قوله - تعالى -: (ما كان للنبي والذين امنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم) [التوبة 113] (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء).
وهاهو نوح - عليه السلام - يعرض الإسلام على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فما امن معه إلا قليل وظلت زوجته على الكفر، بل وأشاعت بين الناس أنه مجنون (ذكره القرطبي) وكلما سخر قومه منه تقول مستهزئة متى ينتصر ربك لك يقول عندما يفور التنور فتذهب إلى قومها وتخبرهم بما يقول فيتضاحكون عليه ويقولون تصنع سفينة في الصحراء هل ستأتي بالبحر هنا أم تذهب بالسفينة إليه تعيش معه زوجته ترى جميل أفعاله وحسن خلقه ولم تؤمن وماتت كافرة: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء).
الزوجة الأخرى امرأة لوط فقد كفر به قومه وقالوا: (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) [العنكبوت 29].
فلما نزلت الملائكة في صورة شباب حسان خشي إن لم يضيفهم هو يضيفونهم وهم شرار يفعلون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، هرعت زوجته إلى الفسقة في ناديهم وقالت في بيت لوط شباب ما رأيت مثل وجوههم قط جمالا، فهرعوا إليه فناشدهم قائلا: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) [هود 78].
لكنهم أصروا على فعل الفاحشة فقال - عليه السلام -: (لو أن لي بكم قوة أو أوى إلى ركن شديد)[هود 80].
فطمأنته الملائكة وأعلمته أن عذابهم ساعة الصبح وقيل أن جبريل رفع مدنهم على جناح له حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وقلب قراهم عاليها سافلها ثم تساقطت عليهم حجارة معلمة كل حجر عليه اسم من سيصيب وقد يسأل احدنا سؤالا لم عذب الله قوم لوط بهذا العذاب وقلب بيوتهم والإجابة إخوتي في الله لأنهم قلبوا الفطرة السليمة أن الرجل يميل للمرأة فلما قلبوا الفطرة السليمة قلب الله عليهم قراهم والجزاء من جنس العمل قال - تعالى -: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) ولم تؤمن امرأة لوط: (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء).
وهنا نتذكر آسية امرأة فرعون التي تعيش في أعظم القصور وبين يديها جواري يخدمونها وعبيد وفراش وثير وحياة رفاهية - وزوجها من إنه فرعون الذي حشر الناس فقال لهم أنا ربكم الأعلى واستخف قومه فأطاعوه - وآمنت زوجة فرعون هي والماشطة ورأى فرعون الماشطة تلتقط المشط قائلة بسم الله فقال أنا قالت ربى وربك الله فأمر بها فألقاها في النار هي وأولادها.
والأخوة في الله أعظم من أخوة النسب وتعلو على المناصب والفوارق الطبقية لذا دافعت امرأة فرعون عن الماشطة فقالت له: لك الويل لقد تجرأت على الله فقال: هل جننتي مثل الماشطة فقالت: ما بي من جنون لكنني أمنت بالله - تعالى - رب العالمين فأمر بها فعذبها زبانيته.
تركت القصور والخدم والعبيد والجواري والذهب والمجوهرات لله - عز وجل - فآمنت به وكفرت بزوجها، وهنا قالت: (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين) [التحريم].
وما استطاعت أن تهدى زوجها وما استطاع هو أن يضلها: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء).
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
ما استطاع إبراهيم هداية أبيه، وما استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هداية عمه، وما استطاع نوح هداية زوجته، وما استطاع لوط هداية زوجته، وما استطاع فرعون إضلال زوجته، فهداية التوفيق بيد الله وحده، وها نحن مع نوح مرة أخرى إن ولده (كنعان) كافر تأثر بفكر أمه ولم يؤمن وقال البعض لم يكن اسمه كنعان ونقول لا يهم ما اسمه ولا نتكلف بل إذا جاءنا دليل صحيح عن اسمه واسم زوجة عزيز مصر وأسماء أهل الكهف - نتكلم به وإن لم يأتنا دليل صحيح فنقول - معرفة أسمائهم بلا دليل صحيح هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر.
ابن نوح كافر ونوح يعلم يقينا أنه عندما يفور التنور سيركب المؤمنون السفينة ويهلك الله كل الكافرين وولده منهم لذا فإن نوحا بعد أن ركب السفينة وبدأ الماء ينهمر من السماء وتشققت الأرض عيونا والتقى الماء (من السماء والأرض) على أمر قد قدر رأى نوح ولده يعلو فوق قمة جبل يحتمي من الماء فأخذته عاطفة الأبوة: (يا بني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين) [هود 42] فقال الولد مصرا على الكفر: (ساوى إلى جبل يعصمني من الماء) [هود 43] فقال له نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) [هود 43].
وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وتحركت عاطفة الأبوة مرة أخرى تذكر أن الله وعده أن ينجيه وأهله: (ونادي نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين) [هود 45].
(قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) [هود 46].
يجب أخي في الله أن تستنفذ السبل عليك بالنصيحة والدعاء لمن تحب أن يهديه الله وعيك خاصة بدعاء السحر فلقد قال فيه العلماء سهام السحر لا تخيب.
إن ولدك أو زوجتك فافعل كل ما تستطيع فإن لم تستطع فاعلم أن هداية التوفيق بيد الله وحده لا بيد أحد.
رسالة سلوى لكل مجروح بفساد ولده، رسالة سلوى لكل من له ولد لا يصلى ولا يصوم ويرتكب المحرمات، رسالة سلوى لكل زوجة ترى فساد زوجها وإدمانه للمخدرات أو الشات أو المواقع الإباحية، نقول لهؤلاء: (إنك لا تهدى من أحببت لكن الله يهدى من يشاء) ولا تترك وسيلة فيها الخير لمن تحب إلا فعلتها ثم اسأل الله أن يهديه..
اللهم اهد أبناءنا وبناتنا ونساءنا وآباءنا وأمهاتنا إلى الخير، وخذ بنواصيهم إلى الخير، اللهم جنب بلاد المسلمين الوباء والبلاء، ووفق الحكام إلى ما تحب وترضى من تحكيم دينك وسنة نبيك