وقفات إيمانية مع العشر الأول من ذي الحجة

د. مؤمن عبدالرحمن


أيام عشر ذي الحجة فضَّلها الله -سبحانه وتعالى-، وأودع فيها من الخيرات الشيء الكثير لعباده، ولاشك أن حياة المسلم كلها خير إذا اغتنمها في عبادة الله والعمل الصالح، وكلها خير من حين يبلغ سن الرشد إلى أن يتوفاه الله، إذا وفقه الله لاغتنام أيام حياته في الأعمال الصالحة التي يعمر بها آخرته، فمن حفظ دنياه بطاعة الله حفظ الله له آخرته، ووجد ما قدمه مدخرًا عند الله -عز وجل- ومضاعفًا، ومن ضيع ديناه ضاعت آخرته، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين؛ فكل حياة المسلم خير، ولكن من فضل الله -عز وجل- أن جعل أوقاتًا فضلها على غيرها من الأيام، ليزداد فيها المسلم أعمالا صالحة، ويحصل على أجور مضاعفة، فهناك شهر رمضان المبارك، وما فيه من الخيرات، والأعمال الصالحة والمضاعفة للأجور، وفي شهر رمضان ليلة خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر، ولنا مع هذه العشر وقفات.

مواسم الطاعات

- الوقفة الأولى: ما أجل نعمة الله علينا، وما أرحمه بنا، -سبحانه وتعالى-! يوم أن جعل لنا مواسم لطاعته، وأوقاتا نتعرض لنفحاته فيها، يرفع الله لنا بها الدرجات، ويضاعف الحسنات، ويكفر عن السيئات {َوإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم 34، والعبد المؤمن يتنقل بين تلك المواسم والأوقات وكله رجاء أن يقبل منه ربه ما قدم يوم أن جد واجتهد، وعلم وعمل، وأخلص وأصدق، وهو على يقين أنه متى ما قدم ذلك فله الجنة قال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} سورة النساء (124}، وقال -تعالى-:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} طه(112)، ويندرج تحت هذه النعمة الربانية تجديد العهد بربه؛ ذلك أن الإنسان تصيبه الغفلة وتؤثر فيه الفتن، ويسلبه الشيطان كل خير، فتأتي هذه المواسم فيؤوب ويتوب ويرجع ويعود، بنفس مقبلة، ودمعة هاطلة، وتوبة صادقة، فلك الحمد يا ربنا على ما أنعمت به علينا ولك الحمد أولاً وآخراً ولك الحمد من قبل ومن بعد.

فرصة عظيمة

- الوقفة الثانية: هذه العشر فرصة عظيمة في هذه الحياة، ومكسب وفير في هذه الدنيا، والمؤمن مطالب بأن يكون نهّازاً للفرص، حريصاً على اغتنامها وكسبها، جاداً في طلب ما تحمله من خير ونعمة، وهذه العشر قد تجلّى خيرها وفضلها في قول الحبيب -عليه الصلاة والسلام-: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» يعني العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري، وتعود هذه الأفضلية الرفيعة لما فيها من عبادات متنوعة وقرابين للرب مختلفة، قال ابن حجر في الفتح: «والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها وهي الصلاة والصدقة والصيام والحج ولا يتأتى ذلك في غيره» أ. هـ كلام ابن حجر.

ويتجلّى فضل هذه الأيام أيضاً كونها أفضل أيام الدنيا؛ فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر»؛ فهي دعوة لك أخي المؤمن بأن تستعد في الاستقبال، وأن يرى الله منك تجاهها خير الحال، واعلم بأنها أيام تذهب من عمرك سريعاً، وتأخذ منك كثيراً فاللهَ اللهَ في البدار، وخذ الكتاب بقوة؛ فإنك وإن عشتها هذا العام، قد لا تكون ممن يعيشها في العام القادم.

منعطف خير

- الوقفة الثالثة: اجعل من هذه العشر يا عبد الله منعطف خير في حياتك، ونظرا إلى ما تقدمه لله الآن، وكيف أنت عند نهايتها؟ من المهم جداً أن تكون أقرب إلى الله عند نهايتها منك عند بدايتها، ويلزم أن يظهر على وجهك وعلى عملك وعلى قلبك تأثرك بها، وإلا فما الفائدة إذاً أن تمر عليك هذه العشر الفضليات ولا تصنع منك رجلا عابدا منيباً خاشعاً لله -تعالى-، ولا بد أيضاً أن تتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً وذلك بتغيير نمط حياتك السلبي، أو مضاعفة ما كنت تفعله من عبادات صالحة، أو أن تكسر روتين حياتك المعتاد بما يصلح من القول العمل. قال -تعالى-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الحجر(99).

كيفية الاستقبال

- الوقفة الرابعة: فما دمنا مقدمين على استقبال هذه العشر المباركات، فإن الكثير منا يجهل كيفية هذا الاستقبال؛ لذا على المؤمن أن يخطط ويعمل على استقبال كل دقيقة في أفضل أيام الدنيا، وعليه أيضاً أن يعد البرامج ويرسم الجداول التي تعينه على ذلك الاستثمار الإيماني الرائع؛ فالعشر ميدان للأعمال الصالحات دون استثناء.

خصائص عشرة ذي الحجة

- الوقفة الخامسة: خصائص عشرة ذي الحجة: - لهذه الأيام العشر خصائص أذكر منها:

1- أن الله -سبحانه وتعالى- أقسم بها في كتابه الكريم قال -تعالى-: {وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} الفجر (1- 2)، ولا شك أن قسم الله -تعالى- بها يبين شرفها وفضلها، وجمهور المفسرين على أنها في الآيات عشر ذي الحجة، وقال ابن كثير -رحمه الله- وهو الصحيح.

2- أن الله -سبحانه وتعالى- سماها في كتابه (الأيام المعلومات) وشرع فيها ذكرى على الخصوص قال -تعالى- {ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ...} الحج (28) وقد ذكر بعض المفسرين أن الأيام المعلومات هي العشر الأولى من ذي الحجة.

3- أن الأعمال الصالحة فيها أحب إلى الله -تعالى- من غيرها عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشرة فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد» رواه أحمد.

4- أن فيها يوم (التروية) وهو اليوم الثامن منها وتبدأ فيه أعمال الحج.

5- إن فيها يوم (عرفة)، وهو يوم عظيم ويعد من مفاخر الإسلام، وله فضائل عظيمة؛ لأنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، ويوم العتق من النار، ويوم المباهاة؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله -عز وجل- فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة»...الحد ث رواه مسلم.

6- أن فيه (ليلة جمع) وهي ليلة مزدلفة التي يبيت فيها الحاج ليلة العاشر من ذي الحجة بعد دفعهم من عرفة.

7- أن فيها فريضة الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام.

8- أن فيها (يوم النحر) وهو اليوم العاشر من ذي الحجة الذي يعد أعظم أيام الدنيا كما روي عن عبد الله ابن قرط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أعظم الأيام عند الله -تبارك وتعالى- يوم النحر، ثم القر» رواه أبو داود.

9- أن الله جعلها ميقاتاً للتقرب إليه سبحانه بذبح القرابين كسوق الهدي الخاص بالحاج، وكالأضاحي التي يشترك فيها الحاج مع غيره من المسلمين.

10- أنها أفضل من الأيام العشر الأخيرة من رمضان لما أورده شيخ الإسلام أبن تيميه -رحمه الله-؛ فقد سئل عن ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟

فأجاب «أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة» أ. هـ كلامه -رحمه الله.

الأعمال المستحبة

- الوقفة السادسة: هناك من الأعمال المستحب فعلها في هذه العشر، ويجب التنبيه عليها ومنها:-

1- ضرورة التوبة إلى الله -تعالى- والرجوع إليه، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والإقبال على فعل الصالحات.

2- أداء الصلوات الخمس في أوقاتها فهي من أجل الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، وعلى المؤمن أن يحافظ عليها جماعة مع المسلمين، وأن يكثر من النوافل في هذه العشر؛ فإنها من أفضل القربات.

3- الصيام سواء صيام تسع ذي الحجة جميعها أو بعضها ولاسيما يوم عرفة، روى مسلم عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده «وعن حفصة قالت: أربع لم يكن يدعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاث من كل شهر وركعتين قبل الغداة» رواه أحمد والنسائي.

4- العمرة والحج هما أفضل ما يعمل في عشر ذي الحجة.

5- التكبير والتحميد والتهليل والذكر قال -تعالى-: {ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ...} الحج(28)

ويجهر به الرجال، وتسر به النساء، والتكبير نوعان:

أ*- المطلق وهو المشروع في كل وقت من ليل أو نهار، ويبدأ من أول شهر ذي الحجة ويستمر إلى آخر أيام التشريق.

ب*- المقيد وهو الذي يكون عقب الصلوات والمختار أنه عقب كل صلاة أياً كانت، ويبدأ من صبح عرفة إلى صلاة عصر أخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.

وقد استحب العلماء كثرة الذكر في العشر لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن أحمد -رحمه الله- وفيه: «فأكثروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد»، وذكر البخاري -رحمه الله- عن ابن عمر وعن أبي هريرة -رضي الله عنهم- أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبرون فيكبر الناس بتكبيرهم.

رسالة لمن أراد الحج

- الوقفة السابعة: وهي رسالة أوجهها لمن أراد فريضة الحج وهو عازم أيضاً هذا العام على تأخيرها مع استطاعته وقدرته البدنية والمالية وأقول له: إلى متى التسويف والتأجيل؟ إلى متى وأنت بين اغترارك بالدنيا وبين طول الأمل؟ ألا ترى ملك الموت يقتلع أرواح من بجانبك من أهلك وصحبك؟ أتضمن العيش إلى عامك القادم وأنت صحيح معافى وذو جدة؟ احذر يا أخي أن تؤخر الحج! والله في العزم من الآن على أن تكون من حجاج بيت الله الحرام من هذا العام.