تهذيب أحكام الحج في السفر وشيء من آدابه وأحكامه
عبد الرحمن بن محمد الهرفي
4. ما يجب فيها دم على التخيير:
من فعل شيئا منها فيخير بين ذبح شاة والذبح والتوزيع في الحرم، ولا يأكل منها شيئا، أو إطعام ستة مساكين توزع في الحرم، أو صوم ثلاثة أيام في أي مكان.
وهي:
• تغطية رأس الرجل بملاصق، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المُحرِم الذي وقصته راحلته بعرفة: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تُخَمِّروا رأسَه)) – أي: لا تُغطوه – (متفق عليه).
فلا يجوز للرجل أن يُغطي رأسَه بما يلاصقه كالعمامة والقُبع والطاقية والغُترة ونحوها، فأما غير الملاصق كالشمسية وسقف السيارة والخيمة ونحوها فلا بأسَ به لقول أم حصين - رضي الله عنها -: حجَجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة، وانصرف وهو على راحلته ومعه بلالٌ وأسامة أحدُهما يقود راحلته، والآخر رافعٌ ثوبه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يُظلله من الشمس. (رواه مسلم).
ولا بأس أن يحمل متاعه على رأسه وإن تغطى بعض الرأس لأن ذلك لا يُقصد به الستر غالباً، ولا بأسَ أن يغوص في الماء ولو تغطى رأسه بالماء.
• مس الطيب: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في المُحرم الذي وقَصَتْهُ راحلته وهو واقف بعرفة: ((لا تُقربوه طيباً)) وعلل ذلك بكونه يُبعث يوم القيامة مُلبياً، والحديث صحيح. فدل هذا على أن المُحرِم ممنوع من قُربان الطيب.
ولا يجوز للمحرم شمُّ الطيب عمداً إلا إن كان يريد شراء طيب فلا مانع والعبرة بالنيات، ولا يستعمل الصابون المُمَسك إذا ظهرت فيه رائحة الطيب، ويجوز استعمال الشانمبو والصابون والدهون ذوات الروائح الكيماوية، وأما الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه فلا يضُرُّ بقاؤه - سواء على جسده أو على إحرامه بعد الإحرام - لقول عائشة - رضي الله عنها -: "كنت أنظرُ إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرم" (متفق عليه).
• لبس ما خيط على هيئة عضو للرجل وهو أن يلبس ما يلبس عادةً على الهيئة المُعتادة، سواء كان شاملاً للجسم كله، كالبرنس والقميص، أو لجزء منه كالسراويل والفنايل والخفاف والجوارب وشراب اليدين والرجلين، لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: ما يلبس المُحرِم من الثياب؟ قال: ((لا يلبسُ القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف ولا ثوباً مسَّه زعفرانٌ ولا ورس)) (متفق عليه).
وإن لم يجد الإزار يلبس السراويل ولا يقطعهما، وكذا إن لم يجد النعال يلبس الخفاف ولا يقطعهما أيضاً؛ لأن الأمر بالقطع منسوخ كما رجحه شيخ الإسلام.
• تقليم الأظافر: يجوز تقليم الظفر المكسور؛ لأنه يؤذي.
• مباشرة الزوجة لشهوةٍ بتقبيل أو لمسٍّ أو ضمٍّ أو نحوه لقوله - تعالى -: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)، ويدخل في الرّفث مقدمات الجماع كالتقبيل والغمز والمُداعبة لشهوة.
فلا يحل للمحرم أن يُقبِّل زوجَته لشهوة، أو يمسها لشهوة، أو يغمزها لشهوة، أو يداعبها لشهوة.
ولا يحلُّ لها أن تمكنه من ذلك وهي مُحرمة، وإن أنزل أحدهما فدى.
• قص الشعر: قال - تعالى -: (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وألحق جمهور أهل العلم - رحمهم الله تعالى - شعرَ بقية الجسم بشعر الرأس، وعلى هذا فلا يجوز للمحرمِ أن يُزيل أي شعر كان من بدنه.
وقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - فدية حلق الرأس بقوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام مقداره ثلاثة أيام، وأن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي، وتكونُ سليمة من العيوب المانعة من الإجراء.
وقد أجاز شيخ الإسلام الأخذ من الشعر لمن أراد الحجامة لما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم، ولا تتم الحجامة إلا بالأخذ من الشعر.
وكل هذه الكفارات فيمن تعمد فعلها، أما من أخطأ فلا، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "الصحيح أن من فعل محظورا ناسيا فلا فدية عليه، ولو كان إزالة شعر أو ظفر بل لو كان صيدا؛ لقوله - تعالى -: (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً) وليس في ذلك إتلاف حق آدمي حتى يقال: الإتلاف يستوي فيه المتعمد وغيره، وإنما ذلك في أموال الآدميين ونفوسهم، وأما حقوق الله فإنه يترتب على الإثم"(10).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين: "وإذا فعل المُحرم شيئاً من المحظورات السابقة من الجماع أو قتلِ الصيد أو غيرهما فله ثلاث حالاتٍ:
الأولى: أن يكون ناسياً أو جاهلاً أو مُكرَهاً أو نائماً، فلا شيء عليه، لا إثم ولا فدية ولا فساد نسك، لقوله - تعالى -: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، وقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، وقوله: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
فإذا انتفى حُكم الكفر عمن أُكره عليه، فما دونه من الذنوب أولى.
وهذه نصوصٌ عامةٌ في محظورات الإحرام وغيرها، تفيدُ رفع الحكم عمن كان معذوراً بها.
وقال الله - تعالى - في خُصوص المحظورات في الصيد: (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)، فقيَّد وجوب الجزاء بكون القاتل متعمداً، والتعمدُ وصفٌ مناسب للعقوبة والضمان، فوجب اعتباره وتعليق الحكم به، وإن لم يكن متعمداً فلا جزاء عليه ولا إثم، لكن متى زال العذر فعلم الجاهل، وذكر الناسي، واستيقظ النائم، وزال الإكراه وجب عليه التخلي عن المحظور فوراً.
فإن استمر عليه مع زوال العذر كان آثماً، وعليه ما يترتب على فعله من الفدية وغيرها.
مثال ذلك: أن يُغطي المُحرمُ رأسه وهو نائم، فلا شيء عليه ما دام نائماً، فإذا استيقظ لزمه كشف رأسه فوراً، فإن استمر في تغطيته مع علمه بوجوب كشفه كان آثما، وعليه ما يترتب على ذلك.
الثانية: أن يفعل المحظور عمداً لكن لِعُذرٍ يبيحُه، فعليه ما يترتب على فعل المحظور ولا إثم عليه لقوله – تعالى -: (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
الثالثة: أن يفعل المحظور عَمداً بلا عُذرٍ يبيحه، فعليه ما يترتب على فعله مع الإثم.
في صفة العمرة:
العمرةُ: إحرامٌ وطوافٌ وسعيٌ وحلقٌ أو تقصيرٌ.
فأما الإحرامُ فهو نية الدخول في النسك والتلبس به، والسنة لمريده أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته بدهن عودٍ أو غيره، ولا يضرهُ بقاؤه بعد الإحرامِ لما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يُحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص المسكِ في رأسِه ولحيته بعد ذلك.
والاغتسال عند الإحرام سُنَّةٌ في حق الرجال والنساء، حتى المرأة الحائض والنفساء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عُميس حين ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة في حَجَّة الوداع أمرها فقال: ((اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي)) (رواه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -).
ومتى ما انتهى من لبس الإحرام يعين إحرامه، فإن أراد التمتع قال: لبيك عمرة متمتع بها إلى الحج، وإن أراد القران قال: لبيك عمرة وحجا، وإن أراد الإفراد قال لبيك حجا.
ويجوز أن يشترط بقوله: "إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" وليس هو بسنة؛ فإن اشترط فله ما اشترط على ربه - جل وعلا -، والنساء خاصة تعرض لهن العوارض الكثيرة خاصة مع ضعفهن في هذه الأزمنة فلو اشترطت المرأة فهو أحسن.
ثم يلبي بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
هذه تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما زاد: لبيك إله الحق لبيك.
والسنة للرجال رفع الصوت بالتلبية لحديث السائب ابن خلاد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يَرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية)) (أخرجه الخمسة).
ولأن رفع الصوت بها إظهارٌ لشعائر الله وإعلانٌ بالتوحيد.
وأما المرأة فلا ترفع صوتها بالتلبية ولا غيرها من الذكر؛ لأن المطلوب في حقها التستر وتسمع من حولها من النساء.
في صفة الحج:
الإحرامُ بالحجِّ: إذا كان ضُحى يومِ التروية - وهو اليومُ الثامنُ من ذي الحجة - أحرم من يريد الحجَّ بالحجِّ من مكانه الذي هو نازلٌ فيه.
ولا يُسَنُّ أن يذهبَ إلى المسجد الحرام أو غيره من المساجد فَيُحرم منه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه فيما نعلم.
ففي الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: ((أقيموا حلالاً حتى إذا كان يومُ التروية فأهلوا بالحج...)) الحديث.
ولمسلمٍ عنه - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نُحرِم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح"، وإنما أهلوا من الأبطح؛ لأنه مكان نزولهم.
ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة، فيغتسل ويتطيب ويصلي سنة الوضوء، ويُهل بالحج بعدها، وصفة الإهلال والتلبية بالحج كصفتهما في العمرة، إلا أنه في الحج يقول: لبيك حجاً، بدل: لبيك عمرة، ويشترطُ: أن مَحلِّي حيث حبستني، إن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط.
الخروج إلى منى:
ثم يخرج إلى منى فيُصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك، وهذا سنة ولا يجب.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صلى رسول – صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان صَدْراً من خلافته، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يجمع في منى بين الصلاتين في الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء"، ولو فعل ذلك لنُقلَ كما نُقل جمعه في عرفة ومزدلفة.
ويقصر أهل مكة - حرسها الله - وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلي بالناس في حجة الوداع في هذه المشاعر ومعه أهل مكة - حرسها الله -، ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان الإتمام واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح حين قال لهم: ((أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر)) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشنقيطي وغيرهم، ولكن هل القصر للنسك أو للسفر؟ فيه خلاف، والصحيح أنه للنسك فيقصر حتى أهل العوالي اللذين هم بقرب منى.
الوقوف بعرفة:
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سارَ من منى إلى عرفة فنزل بنَمِرَة إلى الزوال إن تَيسر له، وإلا فلا حرج عليه؛ لأن النزول بنمرة سنةٌ لا واجب.
فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين، يجمع بينهما جمعَ تقديم كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ففي صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: وأمر - يعني رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بقُبة من شعر تُضرب له بنمرة، فسار رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غَرَبت الشمسُ... الحديث.
وإنما كان الجمع جمع تقديم؛ ليتفرغ الناس للدعاء، ويجتمعوا على إمامهم، ثم يتفرقوا على منازلهم، فالسنة للحاج أن يتفرغ في آخر يوم عرفة للدعاء والذكر والقراءة ويحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول:
- اللَّهُمّ لا تجعلني بدعائك ربِّ شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خيرَ المعطين.
- اللَّهُمّ اجعل في قلبي نوراً، وفي سَمعي نوراً وفي بصري نوراً.
- اللَّهُمّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شرِّ ما يلج في الليل، وشَرِّ ما يلجُ في النهار، وشرِّ ما تهبُّ به الرياحُ، وشرِّ بوائق الدهر.
- اللَّهُمّ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النار.
- اللَّهُمّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
- اللَّهُمّ إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن دَرك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتةِ الأعداء.
- اللَّهُمّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزن، والعجز والكسل، والجُبن والبُخل، وضِلَعِ الدينِ وغَلبة الرجال، وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا.
- اللَّهُمّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شرِّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر.
- اللَّهُمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبَرَد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.
فالدعاء يومَ عرفة خيرُ الدعاء.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير)).
وإذا لم يُحط بالأدعية الواردة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بما يعرفُ من الأدعية المباحة. فإذا حصل له مَللٌ، وأراد أن يستجم بالتحدث مع رفقته بالأحاديث النافعة، أو مُدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكُتب المفيدة، خُصوصاً ما يتعلق بكرم الله - تعالى - وجزيل هباته، ليقوي جانب الرجاء في هذا اليوم، كان حَسنا ثم يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء.
وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبلاً القبلة، وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله؛ لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع يديه، فإن كان في إحداهما مانعٌ رفع السليمة، لحديث أُسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: كنت رِدفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خِطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافعٌ الأخرى. (رواه النسائي).
ويُظهر الافتقار والحاجة إلى الله - عز وجل -، ويُلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة.
ولا يعتدي في دعائه بأن يسأل ما لا يجوز شرعاً، أو ما لا يُمكن قَدَراً، فقد قال الله - تعالى -: « (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وليتجنب أكل الحرام فإنه من أكبر موانع الإجابة.
وإذا تيسر له أن يقف في موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات فهو أفضل، وإلا وقف فيما تيسر له من عرفة، فعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحرتُ ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجَمعٌ - يعني مزدلفة - كلها موقف)) (رواه أحمد ومسلم).
ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، وقد نُصبت عليها علامات ظاهرة، فإن كثيراً من الحجاج يتهاونون بهذا فيقفون خارج حدود عرفة جهلاً منهم، وتقليداً لغيرهم، وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة ليس لهم حج؛ لأن ((الحج عرفة))(11)، لما روى عبد الرحمن بن يَعمر: أن أُناسا من أهل نجد أتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو واقفٌ بعرفة فسألوه فأمر مُنادياً ينادي: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثةَ أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلاً ينادي بهن. (رواه الخمسة).
فتجب العناية بذلك، وطلب علامات الحدود حتى يتيقن أنه داخل حدودها.
والسنة الوقوف بعرفة من الضحى وحتى غروب الشمس، ويَمتد وقتُ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدركَ))، فمن وقف أي جزء منه صح حجه ولا يلزمه أي شيء -على الصحيح من أقوال أهل العلم- وهو قول إمام أهل السنة الإمام أحمد، واختاره الشنقيطي - رحمهما الله - قال الشنقيطي: "أظهر الأقوال أنه يصح الوقوف بعرفة ليلاً أو نهاراً لو قبل الزوال؛ لعموم حديث عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ - رضي الله عنه -: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ)) ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط.
فإن طلع الفجر يوم العيد قبل أن يقف بعرفة فقد فاته الحج.
فإن كان قد اشترط في ابتداء إحرامه: إن حبسني حابس فمَحلِّي حيث حَبَستني، تحلل من إحرامه ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط فإنه يتحلل بعمرة فيذهب إلى الكعبة، ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق، وإن كان معه هدي ذبحه، فإذا كان العام القادم قضى الحج الذي فاته، وأهدى هدياً، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لما روى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر أبا أيوب وهبّار بن الأسود حين فاتهما الحج فأتيا يوم النحر أن يُحِلا بعمرةٍ ثم يرجعا حلالاً ثم يَحجا عاماً قابلاً ويهديا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال الموفق ابن قدامة: "إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة، أجزأهم ذلك، فإن اختلفوا فأصاب بعض وأخطأ بعض وقت الوقوف لم يجزئهم؛ لأنهم غير مندوبين في هذا".(13).
المبيت بمزدلفة:
ثم بعد الغروب يدفع الواقف بعرفة إلى مزدلفة فَيُصلي بها المغرب والعشاء؛ يُصلي المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين.
وفي الصحيحين عن أُسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: "دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة فنزل الشِّعب، فبال ثم توضأ، ولم يُسبِغ الوضوء، فقلت: يا رسول الله، الصلاة! قال: ((الصلاة أمامك)) فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كلُّ إنسانٍ بعيره في منزله ثم أُقيمت العشاء فصلاها".
فالسنة للحاج أن لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بمزدلفة اقتداءً برسول الله –صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يخشى خروج وقت العشاء بمنتصف الليل فإنه يجب عليه أن يُصلي قبل خروج الوقت في أي مكانٍ كان.
ويبيت بمزدلفة، ولا يُحيي الليل بصلاة ولا بغيرها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بِجَمعٍ ولم يُسَبح بينهما شيئاً ولا على إثر كل واحدة منهما.
وفي صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر.
ويجوز للضعفة من رجال ونساء أن يدفعوا من مزدلفة بعد مضى نصف الليل.
ففي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بعث بي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بسَحَرٍ من جَمعٍ في ثِقَلِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يُقَّدِّمُ ضَعفةَ أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون، فمنهم من يَقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رَمَوا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخَصَ في أولئك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وأما مَن ليس ضعيفاً ولا تابعاً لضعيف، فإنه يبقى بمزدلفة حتى يُصلي الفجر اقتداءً برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومن خرج قبل ذلك فقد أخطأ ولا شيء عليه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: استأذنت سودة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة تدفع قَبله، وقبل حَطمة الناس وكانت امرأة ثَبِطَةً، فأَذِنَ لها، وحَبَسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه، ولأن أكون استأذنتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سَودةُ فأكون أدفعُ بإذنه أحبَّ إلي من مَفروحٍ به.
وفي رواية أنها قالت: فليتني كنتُ استأذنتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كما استأذنته سودة.
فإذا صلى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وهلّله، ودعا بما أحب حتى يسفر جداً.
وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وقفتُ ههنا وجمعٌ كلها موقف)).
السيرُ إلى منى والنزول فيها:
ينصرف الحجاج المقيمون بمزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس عند الانتهاء من الدعاء والذكر، فإذا وصلوا إلى منى عملوا ما يأتي:
1 - رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى التي تلي مكة - حرسها الله - في منتهى منى، فيلقطُ سبع حصيات مثل حصا الخَذفِ، أكبر من الحمص قليلاً، ثم يرمي بهن الجمرة، واحدةً بعد واحدةٍ، ويرمي من بطن الوادي إن تيسر له فيجعل مكة عن يساره والجمرة الوسطى عن يمينه، لحديثِ ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه انتهى إلى الجمرة الكُبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: "هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورةُ البقرة" (متفق عليه).
ويُكبر مع كل حصاةٍ فيقول: الله أكبر.
ولا يجوزُ الرمي بحصاة كبيرة ولا بالخفاف والنعال ونحوها، وكل هذا من البدع والخرافات والضلال.
ويَرمي خاشعاً خاضعاً مُكبراً الله - عز وجل -، ولا يفعل ما يفعله كثيرٌ من الجهال من الصياح واللغط والسب والشتم؛ فإن رَمي الجمار من شعائر الله: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمارِ لإقامة ذكر الله))، ولا يندفع إلى الجمرة بعنف وقوة، فيؤذي إخوانه المسلمين أو يضرهم.
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: "لا يجوز رمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل من ليلة النحر وكذا طواف اَلإِفَاضَة".
2 - ثم يذبح الهدي إن كان معه هدي، أو يشتريه فيذبحه.
وقد تقدم بيان نوع الهدي الواجب وصفته ومكان ذبحه وزمانه وكيفية الذبح، فلْيُلاحَظ.
3 - ثم يحلق رأسه إن كان رجلاً، أو يقصِّره، والحلق أفضل؛ لأن الله قدمه فقال: (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)، ولأنه فِعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه – "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونَحَرَ، ثم قال للحلاق: ((خُذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر ثم جعل يُعطيه الناس" (رواه مسلم).
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمُحَلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثاً، وللمُقَصرين مرة، ولأن الحلق أبلغ تَعظيماً لله - عز وجل - حيث يُلقي به جميعَ شعرِ رأسِه.
ويجب أن يكون الحلق أو التقصير شاملاً لجميع الرأس لقوله - تعالى -: (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).
وأما المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أُنملة فقط ولا تزيد على ذلك.
فإذا فعل ما سبق حَلَّ له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء فيحل له الطيب واللباس وقص الشعر والأظافر وغيرها من المحظورات ما عدا النساء، قال ابن قدامة: عن أحمد أنه إذا رمى الجمرة فقد حل... ولم يذكر الحلق، هذا يدل على أن الحل بدون الحلق، وهذا قول عطاء ومالك وأبي ثور وهو الصحيح إن شاء الله - تعالى -، لقوله في حديث أم سلمة – رضي الله عنها -: ((إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء)) وكذلك قال ابن عباس – رضي الله عنهما -(14)، والسنة أن يتطيب لهذا الحِلِّ، لقول عائشة - رضي الله عنها -: "كنت أُطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت". (متفق عليه واللفظ لمسلم).
وفي لفظ له: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُحرم ويومَ النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيبٍ فيه مِسكٌ".
4 - الطواف بالبيت وهو طواف الزيارة والإفاضة؛ لقوله - تعالى -: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم ركب - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر... الحديث.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حَجَجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يومَ النحرِ... الحديث. (متفق عليه).
وإن قطع طوافه لأمر مشروع كالصلاة -الفرض أو الجنازة-، أو شرب ماء، أو استراح قليلا فيكمل من حيث توقف ولا يشترط أن يبدأ من أول الشوط، قال سماحة الشيخ الشنقيطي: "إن قطع الطواف لحاجة - كصلاة الجنازة أو حاجة ضرورية - فأظهر قولي العلماء عندي أنه يبتدئ من الموضع الذي وصل إليه ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل القطع".
ولا يشترط للطواف طهارة وإن كانت هي الأكمل والأفضل، ولا ينبغي من المؤمن أن يبدأ الطواف وهو على غير طهارة، قال سماحة الشيخ محمد بن عثيمين: "الذي تطمئن إليه النفس أنه لا يشترط في الطواف الطهارة من الحدث الأصغر، لكنها بلا شك أفضل وأكمل وأتبع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي أن يخل بها الإنسان لمخالفة جمهور العلماء في ذلك، لكن أحياناً يضطر الإنسان إلى القول بما ذهب إليه شيخ الإسلام، مثل لو أحدث أثناء طوافه في زحام شديد، فالقول بأنه يلزمه أن يذهب ويتوضأ ثم يأتي في هذا الزحام الشديد -لا سيما إذا لم يبق عليه إلا بعض شوط-، ففيه مشقة شديدة، وما كان فيه مشقة شديدة ولم يظهر فيها النص ظهوراً بيناً، فإنه لا ينبغي أن نلزم الناس به، بل نتبع ما هو الأسهل والأيسر؛ لأن إلزام الناس بما فيه مشقة بغير دليل واضح منافٍ لقوله - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر).
سعي الحج:
وإذا كان مُتمتعا أتى بالسعي بعد الطواف؛ لأن سعيه الأول كان للعمرة، فلزمه الإتيان بسعي الحج.
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا ثم طافوا طوافاً آخرَ بعد أن رجعوا من مِنى لحجهم، وأما الذين جَمَعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً".
وفي صحيح مسلم عنها أنها قالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عُمرته لم يطف بين الصفا والمروة. وذكره البخاري تعليقاً.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ثم أَمَرَنا - يعني رسول – صلى الله عليه وسلم - عشية التروية أن نُهِلَّ بالحج، فإذا فَرغنا من المناسك جِئنا فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حَجُّنا وعلينا الهدي" (ذكره البخاري في: باب: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام).
وإذا كان مفرداً أو قارناً فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم لم يُعِدِ السعي مرة أخرى لقول جابر - رضي الله عنه -: "لم يَطفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافَه الأول" (رواه مسلم)، وإن كان لم يَسْعَ وجب عليه السعي؛ لأنه لا يتمُّ الحج إلا به كما سبق عن عائشة - رضي الله عنها -.
وإذا طاف طواف الإفاضة وسعى للحج بعده أو قبله إن كان مُفرداً أو قارناً فقد حلَّ التحلل الثاني، وحلَّ له جميع المحظورات؛ لما في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ونحر هَديَه يومَ النحر، وأفاضَ، فطافَ بالبيت، ثم حلَّ من كل شيء حُرِمَ منه".
فإن قدَّم بعض الأعمال على بعض فلا بأس لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيلَ له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: ((لا حرج)) (متفق عليه).
وللبخاري عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل يومَ النحر بمنى؟ فيقول: ((لا حرج)) فسأله رجلٌ فقال: حلقتُ قبل أن أذبحَ، قال: ((اذبح ولا حرج)) وقال: رميت بعد ما أمسيت قال: ((لا حرج)).
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن تقديم الحلقِ على الرمي، وعن تقديم الذبح على الرمي، وعن تقديم الإفاضة على الرمي، فقال: ((ارمِ ولا حرج))، قال: فما رأيته سُئل يومئذٍ عن شيء، إلا قال: ((افعلوا ولا حَرَجَ)).
وإذا لم يتيسر له الطواف يومَ العيد جاز تأخيره، والأَولى أن لا يتجاوزَ به أيامَ التشريق إلا من عُذرٍ كمرضٍ وحيضٍ ونفاسٍ؛ لأن أشهر الحج تنتهي بآخر أيام التشريق.
الرجوعُ إلى منى للمبيت، ورَميُ الجمار:
يرجع الحاج يوم العيد بعد الطواف والسعي إلى منى، فيمكثُ فيها بقيةَ يوم العيد وأيام التشريق ولياليها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث فيها هذه الأيام والليالي، ويلزمه المبيت في منى ليلةَ الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر إن تأخر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - باتَ فيها. وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)).
ويجوز ترك المبيت لعذرٍ يتعلق بمصلحة الحج أو الحجاج؛ لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فَأَذِنَ له.
وعن عاصم بن عدي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ... الحديث. (رواه الخمسة وصححه الترمذي).
ويرمي الجمرات الثلاث في كل يومٍ من أيام التشريق كل واحدة بسبع حصيات مُتعاقبات، يكبر مع كل حصاة ويرميها بعد الزوال (15).
فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف (الصغرى)، ثم يتقدم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمال، فيسهِّل فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي جمرةَ العقبةِ، ثم ينصرف ولا يقفُ عندها.
هكذا رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل كذلك.
وإذا لم يتيسر له طول القيام بين الجمار، وقَفَ بقدر ما يتيسر له؛ ليحصل إحياء هذه السنة التي تركها أكثرُ الناس، إما جهلاً أو تهاوناً بهذه السنة.
ولا ينبغي ترك هذا الوقوف فتضيع السنة، فإن السنة كلما أُضيعت كان فعلها أوكد لحصول فضيلة العمل ونَشر السنة بين الناس.
وإذا رمى الجمارَ في اليوم الثاني عشر فقد انتهى من واجب الحج فهو بالخيار إن شاء بقي في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال، وإن شاء نفر منها لقوله - تعالى -: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
والتأخرُ أفضلُ؛ لأنه فعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أكثر عملاً حيث يحصل له المبيت ليلة الثالث عشر، ورمي الجمار من يومه.
لكن إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى فلا يتعجل حينئذٍ؛ لأن الله - سبحانه - قال: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فقيَّد التعجل في اليومين، ولم يُطلق، فإذا انتهت اليومان فقد انتهى وقتُ التعجل، واليوم ينتهي بغروب شمسه.
وفي الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول: "من غَرَبت له الشمس من أواسط أيام التشريق وهو بمنى فلا يَنفر حتى يرمي الجمار من الغد"، لكن إذا كان تأخره إلى الغروب بغير اختياره مثل أن يتأهب للنفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفرُ ولا شيء عليه، ولو غربت الشمس قبل أن يخرج من منى.
الاستنابة في الرمي:
رمي الجمار نسك من مناسك الحج، وجزءٌ من أجزائه، فيجب على الحاج أن يقومَ به بنفسه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، سواءٌ كان حجه فريضة أم نافلة، لقوله - تعالى -: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
فالحج والعمرة إذا دخل فيهما الإنسان وجب عليه إتمامهما وإن كانا نفلاً، ولا يجوز للحاج أن يُوكل مَنْ يرمي عنه إلا إذا كان عاجزاً عن الرمي بنفسه لمرضٍ أو كِبَر أو صِغَر أو نحوها، فيوكّل من يثق بعلمه ودينه فيرمي عنه سواء لقَطَ المُوَكل الحصا وسلمها للوكيل، أو لقطها الوكيلُ ورمى بها عن موكله.
وكيفية الرمي في الوكالة أن يَرمي الوكيل عن نفسه أولاً سبعَ حَصيات، ثم يَرمي عن موكله بعد ذلك، فَيُعينه بالنيةِ.
ولا بأس أن يَرمي عن نفسه وعمن وكله في موقفٍ واحدٍ، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز ابن باز والشيخ محمد ابن عثيمين.
طواف الوداع:
إذا نَفَرَ الحاج من منى وانتهت جميع أعمال الحج، وأراد السفر إلى بلده فإنه لا يخرجُ حتى يطوف بالبيت للوداع سبعةَ أشواط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف للوداع وكان قد قال: ((لتأخذوا عني مناسككم)).
ويجبُ أن يكون هذا الطوافُ آخر شيء يفعلهُ بمكة - حرسها الله - لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان الناس ينصرفون في كلِّ وجهٍ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرنِّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيت)) (رواه مسلم).
فلا يجوز البقاء بعده بمكة - حرسها الله -، ولا التشاغل بشيء إلا ما يتعلق بأغراض السفر وحوائجه؛ كشد الرحل وانتظار الرفقة، أو انتظار السيارة، إذا كان قد وَعَدَهم صَاحبها في وقتٍ معين فتأخر عنه، ونحو ذلك.
فإن أقام لغير ما ذُكر وَجَبَ عليه إعادة الطواف ليكون آخرَ عهده بالبيتِ.
ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنُّفساء لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض" (متفق عليه).
وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حاضت صفية بنت حُيَيّ بعدما أفاضت، قالت عائشة: فَذَكرت حَيضتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أحابستنا هي؟)) فقلت: يا رسول الله إنها قد كانت أفاضَت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فَلتنفر)). والمريض الذي لا يقدر على الطواف حكمه حكمهما.
--------------------
(1) المفردات -
(2)العمدة: 2/73
(3) الفتح: 3/482
(4) رجح الدكتورعبد الله الطيار أنها الخريبات.
(5) الممتع: - 7/58 - عناية المشيقح.
(6) مجموع الفتاوى: 26/98
(7) منسك الشنقيطي: - 1/166، وقد أطنب الشيخ في ذكر الأدلة.
(8) شرح المهذب: - 7/163
(9) الذي يظهر لي أنه لا يمكن لاختلاف الخلقة. والله أعلم
(10) المجموعة الكاملة: - 4/2/139.
(11) سألني أحد الإخوة أن صاحب الحافلة أوقفهم خارج حدود عرفة وقريبا منهم، وقال: فطلبت منه الذهاب بنا لعرفة فقال: الوقف هنا يصح، فذهبت ومعي عدد يسير من الناس، والأكثر بقوا في مكانهم فما حكم حجهم؟ وبلا ريب أن حجهم باطل.
(12) قال ابن حجر في التلخيص: (3/888): أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي بألفاظ مختلفة وصحح هذا الحديث الدارقطني والحاكم والقاضي ابن العربي.
(13) المغنى: 5/429.
(14) المغني: 5/308.
(15) قال شيخنا الشيخ صالح الدرويش: (رمي الجمار للمتعجلين قبل الزوال جائز، وهو الأصل؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - رمي العقبة ضحى، ولا فرق بين العقبة وغيرها.