لطائف من سيرة الإمام أحمد رحمه الله
صالح بن فريح البهلال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً-.
أما بعد:
فإن من منة الله على عباده أن: "جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هَدوه، يَنْفُون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين"[2].
فهم ورثة الأنبياء في العلم، حيث لم يورثوا سواه.
وهم نجوم الدُّجى يَهتدي بها السالكون إلى الله والدار الآخرة.
وهم مصابيح الظلام إذا استعجمت الأمور واستغلقت أبوابها، يفتحون أبوابها، ويجلون غامضها، ويحسرون عن لثامها.
وهم برد الزمان إذا تلهبت مقايظه، واشتد أُواره.
فوجودهم ضرورة للناس، وإلا ضل الناس وأضلوا، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدرُ كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ففز بعلم، ولا تطلب به بدلاً *** فالناس موتى، وأهل العلم أحياء
ولذا اهتم الناس بكتابة سير أهل العلم، واعتنوا بأقوالهم وأحوالهم على مر الأزمنة.
ولا شك أن إمعان النظر في سير هؤلاء العلماء، يعطينا فوائد حساناً منها:
أن نعرف كيف ارتفع القوم، فنتأدب بآدابهم، ونستفيد من تجاربهم، ونشحذ هممنا عند ذكر قصصهم؛ فنركض إلى المعالي، ونرخص الأمور الغوالي، ونكسر الغرور والعجب الذي يهجم في قلوب بعضنا إذا أتقن علماً، أو حفظ متناً، فتزكو النفس بذلك وتصفو، ويثوب إليها نشاطها وعزيمتها ومن هنا قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: "سِير الرجال أحب إلينا من كثير من الفقه".
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات
حديثنا عن رجل من أولي العرفان، وأرباب الاجتهاد، حديثنا عن رجل قد رسخت قدمه في العلم، فكأنما هو والعلم قد قدا من أديم واحد، بل كأنما قد شقا من نبعة واحدة، فهما أخوا صفاء، وهما أليفا مودة، حديثنا عن بحر العلماء الزاخر، وبدرهم الزاهر؛ أبي عبدالله أحمد بن حنبل؛ إمام أهل السنة، الذي انقطع للعلم، وأنفق فيه أوقاته، حتى استبطن دخائله، واستقصى أطرافه، فمهر فيه وحذق، هذا الإمام الذي صبَّر نفسه في ذات الله، فلم ترعه النوائب، ولم تنل من صبره الملمات، هذا الإمام الذي قال فيه الإمام الشافعي المتوفى سنة 204: "هو إمامٌ في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة"[3].
وتأمل أن الإمام الشافعي قال هذا الكلام في الإمام أحمد وهو لم يجاوز الأربعين، فقد توفي الشافعي، وعمر أحمد أربعون، هذا الإمام الذي كتب له القبول في الأرض، فصار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد، فـ- رحمه الله - رحمة واسعة.
وهذا أوان البدء في عرض سيرته، مكتفياً منها بخلاصتها، ومواطن العبرة والقدوة فيها؛ لأن الوقت في بسطها يطول، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، والله المستعان.
أولاً: تاريخ مولده ووفاته:
ولد الإمام أحمد في بغداد في العشرين من شهر ربيع الأول عام 164هـ وتوفى في بغداد ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر، من شهر ربيع الأول عام 241هـ وكان عمره يوم مات سبعة وسبعين عاماً، وأحد عشر شهراً واثنتين وعشرين ليلة.
قال أبو الحسن ابن الزاغوني: "كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه، فوجد كفنه صحيحاً لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة" [4].
وقال الذهبي: "استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مئة ببغداد، عامَ على مقابر مقبرة أحمد، وأن الماء دخل في الدهليز علوَّ ذراع، ووقف بقدرة الله، وبقيت الحصُر حول قبر الإمام بغبارها، وكان ذلك آية"[5].
ثانياً: تميز الإمام أحمد في صغره:
لقد نشأ الإمام أحمد يتيماً؛ إذ فقد أباه وعمره ثلاث سنين، فكفلته أمه، وكان وحيد أبويه، لكن لم يضره ذلك اليتم، ولم يكلمْه ذلكم الفقد، فقد نشأ على هيئة حسنة من الصلاح والألمعية، وإليكم ما يدل على هذا:
- يقول أبو بكر المروذي[6]: "قال لي أبو عفيف -وذكر أحمد بن حنبل- فقال: كان في الكتاب معنا وهو غليم، نعرف فضله، وكان الخليفة بالرَقَّة، فيكتب الناس بالرَقَّة، فيكتب الناس إلى منازلهم الكتب -أي يكتب الجند والولاة إلى أهليهم الكتب- فيبعث نساؤهم إلى المعلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل؛ ليكتب لهم جواب كتبهم، فيبعثه، فكان يجيء إليهن مطأطئ الرأس، فيكتب جوابهن، فربما أملين عليه الشيء من المنكر، فلا يكتبه لهن"[7].
فهذه الحادثة تدل على تبكير صلاحه وورعه؛ إذ أنه مع صغر سنه يغض بصره عن الحرام، وإن كان من في سن مثله لا يبالي بالنساء، ولا يبالين به، بل ويمتنع عن كتابة المنكر الذي يمليه النساء؛ رداً على خطاب أوليائهن.
جرى ناشئاً للحمد في كل حلْبةٍ *** فجاء مجيىء السابق المتمهل
ولقد كانت ألمعية هذا الإمام المبكرة، وصلاحه المتقدم يثير دهشة من يراه، فهذا أبو سراج بن خزيمة يقول: قال أبي: -وذكر أحمد، وجعل يعجب من أدبه، وحسن طريقته- فقال ذات يوم: أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل يتيم، انظر كيف يخرج؟! وجعل يتعجب! [8].
بلغت لعشر مضت من سِنِيِّ *** ك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور **** وهم لداتك أن يلعبوا
لقد كان هذا الإمام وهو في صغره دراك غايات، طلاع ثنايا، فقد كان يحيي الليل، وذلك فيما ذكره عنه إبراهيم بن شمَّاس[9]، فلم يكن وهو غلام ليدع هذه السنة العظيمة، مما يدل على مدى التوفيق الإلهي الذي يحيط به، فلقد صدقت فراسة الحافظ الهيثم بن جميل البغدادي في أحمد؛ إذ قال: (إن عاش هذا الفتى سيكون حجة على أهل زمانه)[10].
فلله دره على فراسته هذه، فقد كان حجة على أهل زمانه ومن بعدهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
________________
[1] أصلها محاضرة ألقيت في جامع الراجحي في بريدة بتاريخ 15/11/1428هـ.
[2] اقتباس من الخطبة التي افتتح بها الإمام أحمد - رحمه الله - كتابه: (الرد على الزنادقة والجهمية).
[3] طبقات ابن أبي يعلى 1/5.
[4] تهذيب التهذيب 1 / 65.
[5] سير أعلام النبلاء 11 / 231.
[6] قال الخطيب في تاريخ بغداد 4/423: "هو المقدم من أصحاب أحمد؛ لورعه وفضله، وكان يأنس به، وينبسط إليه، وهو الذي تولى إغماضه لما مات، وغسله، وقد روى عنه مسائل كثيرة".
[7] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، ص (23).
[8] المناقب لابن الجوزي، ص 23.
[9] سير أعلام النبلاء(11 / 228).
[10] المناقب لابن الجوزي، ص(99)