نجوم في سماء الاحتساب
عادل محمد هزاع الشميري



لقد أخرج الله - تعالى - للعالم من يكون سبباً في حفظه من الانهيار، وصمام أمان يصد عنه الأخطار، ونجوم هداية ينيرون الطرق المظلمة بأجل الأنوار، يقول - تعالى - في كتابه العظيم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...) الآية [آل عمران: 110]، نعم هم من جندوا أنفسهم لخدمة هذا الدين، وعملوا لرفع رايته وإن أدى ذلك إلى إسقاط الجماجم وسكب الدماء.
إننا في هذه الأسطر سنعيش بإذن الله - جل في علاه - مع نجوم تلألأت وشع نورها في سماء الاحتساب، نجوم هدت الناس إلى سبيل الوهاب، نجوم ردت جيوش المنكر منهزمة بأصدق شهاب، فسبحان من جعلهم زينة للأرض، وهداية للضال، وصلاحاً للفاسد، ورجوماً للشياطين: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ... ) الآية [الملك: 5]، (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل: 16].
إن سماء الاحتساب سماء رحبة واسعة برز فيها الكثير الكثير من المحتسبين، ولذلك لن نستطيع استيعابهم، ولا حصرهم، ومن نعرف أكثر ممن لا نعرف، لكنها مواقف إيمانية نعيش فيها مع بعض المحتسبين ممن لنا فيهم أسوة حسنة، ممن حملوا على عاتقهم هم هذا الدين، وليس من سيذكر هو خير من احتسب بل اختيار لا يعتمد في الذكر، أو التقديم، أو التأخير على أفضلية، بل لن نذكر خير من احتسب وصبر، وخير من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أطل نجم أو ظهر قمر، فذكر احتسابه - عليه الصلاة والسلام - لا تكفيه الحروف والكلمات؛ فحياته - بأبي هو وأمي - كلها دعوة واحتساب، حتى وهو في سكرات الموت - عليه الصلاة والسلام - لم يترك الاحتساب، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم))"[1]، فهو إمام المحتسبين، وسيد النجوم العاملين من الدعاة والمصلحين: (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب: 46].
فهذه مواقف جليلة من أناس مضوا إلى باريهم، بعد أن خطوا التاريخ بأنفاسهم، وسطروا المجد بتضحياتهم، فتركوا لنا من الأحداث ما نشحذ به عزائمنا، وتعلو به هممنا، وتسمو به غاياتنا، لقطات من حياتهم عاشوها لله، وفي الله، ولأجل دين الله، نستنير بنورها، وننهل من معينها، ونستنشق عبيرها.
* ابن مسعود - رضي الله عنه - واحتسابه في دعوة مغنٍ:
هذا ابن مسعود - رضي الله عنه - بحكمته الفذة التي تعلمها من معلمه النبي - عليه الصلاة والسلام -، وحبة لهداية الخلق، ولما يحمل من إخلاص يطاول الجبال فإنه قد صيّر الله على يده مغنٍ مطرب، يشرب الخمر إلى محدث يحمل كلام النبوة في صدره، وعابد يترنم بكلام ربه في وتْره، يقول زاذان الكندي وهو - صاحب القصة -: "كنت غلاماً حسن الصوت، جيد الضرب بالطنبور، فكنت مع صاحب لي، وعندنا نبيذ، وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود، فدخل، فضرب الباطية؛ بدَّدَها، وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فألقى في نفسي التوبة، فسعيت أبكي، وأخذت بثوبه، فأقبل علي، فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل، وأخرج لي تمراً"[2]، وأصبح بعد ذلك من العلماء العباد، يقول الذهبي - رحمه الله - في ترجمته: "أحد العلماء الكبار"[3]، وقال عنه أحد السلف: "رأيت زاذان يصلي كأنه جذع"[4]، يا ألله! كم من الأجور لابن مسعود يوم أن احتسب عندما رأى المنكر، وقدَّم ما يمكنه أن يقدِّم من الإنكار والنصيحة، واستقبل التائب، ورحَّب له، بل بشره بمحبة الله - تعالى -له، وأكرمه.
فانظر إلى الحرقة للدين التي تتوهج بها نفس ابن مسعود - رضي الله عنه - وأرضاه، وانظر إلى رفقه ولينه بالتائب الذي كان قبل لحظات في عداد المغنِّين والمطربين، وانظر إلى إرشاده ابن مسعود لهذا التائب وتوجيهه له في أن يكون من أهل القرآن، ومن أهل العلم وقد كان.
* ابن عباس - رضي الله عنهما - واحتسابه على الغلاة:
عندما ظهرت بدعة الخوارج وكثر أتباعهم، خرج ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس - رضي الله عنهما - إليه محتسباً داعياً إياهم إلى الهدى ودين الحق، ففتح الله بصدقه القلوب، وهدى بعلمه العقول، يحكي لنا ابن عباس - رضي الله عنهما - القصة، فيقول: "لما اجتمعت الحرورية - يعني الخوارج - يخرجون على علي جعل يأتيه الرجل، فيقول: يا أمير المؤمنين، إن القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم، قلت: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة، فلا تفتني حتى آتى القوم.
فدخلت عليهم وهم قائلون، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن الإبل، عليهم قمص مرحضة، فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ قلت: ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية، ثم قرأت هذه الآية: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَات ِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32]، فقالوا: ما جاء بك؟ قال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله؛ جئت لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف: 58]، فقال بعضهم بلى فلنكلمه، فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثاً، فقلت: ما هن؟ قالوا: حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله - تعالى -: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [الأنعام: 57]، هذه واحدة، وماذا أيضاً؟ قالوا: فإنه قاتل، فلم يسبِ، ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم، قلت: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين، قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله، وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا؟ أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع.
قلت: أما قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95]، وقال في المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35]، فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فناشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين، وفي إصلاح ذات بينهم أفضل؟ أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم، وفي بضع امرأة؟! قالوا: بلى؛ هذا أفضل، قال: أخرجتم من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب، ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة؟ فإن قلتم: نسبيها، فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا، فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلاتين! أخرجتم من هذه؟ قالوا: بلى.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان، وسهيل بن عمرو، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتب يا علي: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله)، فقال أبو سفيان، وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك!.
قال رسول الله: (اللهم إنك تعلم أني رسولك، يا على، اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، وأبو سفيان، وسهيل بن عمرو).
قال: فرجع منهم ألفان، وبقى بقيتهم، فخرجوا، فقُتِلوا أجمعون"[5].
عن أي شيء نتكلم في هذا المحاورة الفريدة، وفي هذه المناظرة العجيبة؟ هل نتكلم عن همة ابن عباس - رضي الله عنهما - في الاحتساب، وتبليغ دين الله، وتعليم الجاهلين؟ أم نتكلم عن العلم الذي هو عدة المحتسبين، ومدد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذي لا غنى لداعية عنه؟ أم نتكلم عن الرحمة في الدعوة، والرفق في الأسلوب، والحكمة في تبليغ الرسالة؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات عملية من كل من أوقف نفسه في قوافل المحتسبين، وأعدَّ طاقة لخدمة هذا الدين.
* أبو بكرة - رضي الله عنه - يستعذب الموت في سبيل الاحتساب:
يحكي عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه فيقول: "تزوج - يعني أباه أبا بكرة - امرأة فماتت، فحال إخوتها بينه وبين الصلاة عليها، فقال: أنا أحق بالصلاة عليها، قالوا: صدق صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه دخل القبر، فدفعوه بعنف، فغشيَ عليه، فحمل إلى أهله، فصرخ عليه عشرون من ابن، وبنت، وأنا أصغرهم، فأفاق، فقال: لا تصرخوا؛ فوالله ما من نفس تخرج أحب إلي من نفسي، ففزع القوم، وقالوا: لم يا أبانا؟ قال: إني أخشى أن أدرك زماناً لا أستطيع أن آمر بمعروف، ولا أنهى عن منكر، وما خير يومئذٍ"[6].
أي كلام هذا الذي يقال؟! خروج النفس أحب إلي أبي بكرة من أن يدرك زماناً لا يؤمر فيه بالمعروف، ولا ينهى فيه عن منكر! فماذا نحن قائلون؟.
فألله الله في السير على ما سار عليه هؤلاء الأعلام من الحرقة لهذا الدين، وحمل همِّه، والتضحية من أجله، والسعي في إرساء قواعده في كل النفوس، ورفع رايته بالحكمة والمستطاع، والله يكتب أجر العاملين، ولا يضيع عمل المحسنين.
والله أعلم، وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_______________
[1] رواه ابن ماجه بر قم (2697)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (7/237).
[2] سير أعلام النبلاء (4/280).
[3]المصدر السابق.
[4]المصدر السابق.
[5]انظر الاعتصام للشاطبي (2/187-189)، قال الشاطبي: "حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال... " ثم أورد القصة.
[6] سير أعلام النبلاء (3/7)