الهدي فضله وأحكامه




الهدي ذلكم النسك العظيم الذي يؤديه حجاج بيت الله الحرام متقربين به إلى ربهم جل جلاله؛ مقتفين فيه أثر رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم, متوجين نسكهم هذا وسائر طاعاتهم بالإخلاص لله سبحانه، فنقول وبالله التوفيق:
الهدي:

هو ما يُهدى من النعم إلى الحرم تقرباً إلى الله عز وجل، قال عمر رضي الله عنه: "يا أيها الناس, حجُّوا وأهدوا فإن الله يحب الهدي" (مصنف عبد الرزاق-8164)، وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، وكان هديه تطوعاًَ.
الأفضل فيه:

أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم، واتفقوا على أن الأفضل الإبل، ثم البقر، ثم الغنم على هذا الترتيب؛ لأن الإبل أنفع للفقراء لعِظَمِهَا, والبقر أنفع من الشاة كذلك، واختلفوا في الأفضل للشخص الواحد: هل يهدي سُبْعَ بدنة، أو سُبْعَ بقرة، أو يهدي شاة؟ والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء, والله أعلم.
أقل ما يجزئ في الهدي:

للمرء أن يُهدي للحرم ما يشاء من النعم, وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل, وكان هديه هدي تطوع، وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة؛ فإن البقرة أو البدنة تجزئ عن سبعة فعن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ" (رواه مسلم برقم 2324).
أقسام الهدي:

ينقسم الهدي إلى مستحب وواجب:
فالهدي المستحب: للحاج المفرد، والمعتمر المفرد.
والهدي الواجب يلزم الآتي:
1 الحاج القارن.
2 الحاج المتمتع.
3 ومن ترك واجباً من واجبات الحج كرمي الجمار، والإحرام من الميقات, والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، أو منى، أو ترك طواف الوداع.
4 من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام غير الوطء كالتطيب والحلق.
5 وصاحب الجناية في الحرم كالمتعرض لصيد، أو قاطع شجرة.
شروط الهدي:

يشترط في الهدي الشروط الآتية:
1 أن يكون ثنياً إذا كان من الإبل أو البقر أو المعز، أما الضأن فإنه يجزئ منه الجذع (وهو ما له ستة أشهر) فما فوقه وكان سميناً، والثني من الإبل ماله خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة تامة، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه.
2 أن يكون سليماً، فلا تجزئ فيه العوراء، ولا العرجاء، ولا الجرباء، ولا العجفاء.
إشعار الهدي وتقليده:

الإشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة، إن كان لها سنام حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك علامة لكونها هدياً فلا يتعرض لها، والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها ليعرف بها أنه هدي، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قلد الهدي، ولذا استحب العلماء التقليد، وأما الإشعار فمختلف فيه، والحكمة فيهما تعظيم شعائر الله، وإظهارها، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته، وتذبح له، ويتقرب بها إليه.
ركوب الهدى:

يجوز ركوب البدن، والانتفاع بها لما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ((ارْكَبْهَا)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ! قَالَ: ((ارْكَبْهَا وَيْلَكَ)) فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ. (رواه البخاري برقم1604، ومسلم برقم 1322)، وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، ومشهور مذهب مالك، وقال الشافعي: يركبها إذا اضطر إليها.
وقت الذبح:

اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي, فعند الشافعي أن وقت ذبحه يوم النحر وأيام التشريق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ)) (رواه أحمد برقم 16751وصححه الألباني)، فإن فات وقته ذبَح الهدي الواجب قضاء، وهذا رأي الأحناف بالنسبة لهدي التمتع والقران, وأما دم النذر والكفارات والتطوع فيذبح في أي وقت، وعند مالك وأحمد وقت ذبح الهدي سواء أكان ذبح الهدي واجباً أم تطوعاً هو أيام النحر, وقيل غير ذلك.
مكان الذبح:

الهدي سواء أكان واجباً أم تطوعاً لا يذبح إلا في الحرم, وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه، والسنَّة النحر بمنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بها، وحيث نحر من الحرم أجزأه لحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ)) (رواه أبو داود1939، وصححه الألباني).
والأَوْلى بالنسبة للحاج أن يذبح بمنى، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة؛ لأنها موضع تحلل كل منهما.
ويستحب أن تنحر الإبل وهي قائمة، معقولة اليد اليسرى لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما البقر والغنم فيستحب ذبحها مضطجعة, ويستحب أن يذبحها بنفسه إن كان يحسن الذبح، وإلا فيندب له أن يشهده إذا وكل غيره.
وإذا نحر الهدي فرَّقه على المساكين من أهل الحرم، وإن قسمها فهو أحسن وأفضل؛ لأنه بقسمتها يكون على يقين من إيصالها إلى مستحقها، ويكفي المساكين مؤنة النهب والزحام عليها.
ولا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا قَالَ: ((نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا))" (رواه مسلم 2320)(6/470)، ولا يجوز بيع شيء منها، وإن كان الجازر فقيراً فأعطاه لفقره سوى ما يعطيه أجره جاز؛ لأنه مستحق الأخذ منها لفقره لا لأجره فجاز كغيره، ويقسم جلودها وجلالها كما جاء في الخبر؛ لأنه ساقها لله على تلك الصفة؛ فلا يأخذ شيئاً مما جعله لله.
الأكل من لحوم الهدي:

أمر الله بالأكل من لحوم الهدي فقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (سورة الحج:27)، وهذا الأمر يتناول بظاهره هدي الواجب، وهدي التطوع.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك: فذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى جواز الأكل من هدي المتعة، وهدي القران، وهدي التطوع، ولا يأكل مما سواها.
وقال مالك: يأكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه، وفوات الحج, ومن هدي المتمتع، ومن الهدي كله، إلا فدية الأذى، وجزاء الصيد, وما نذره للمساكين، وهدي التطوع إذا عطب قبل محله.
وعند الشافعي: لا يجوز الأكل من الهدي الواجب مثل الدم الواجب في جزاء الصيد، وإفساد الحج، وهدي التمتع والقران، وكذلك ما كان نذراً أوجبه على نفسه، أما ما كان تطوعاً فله أن يأكل منه، ويهدي، ويتصدق.
مقدار ما يأكله من الهدي:

للمهدي أن يأكل من هديه الذي يباح له الأكل منه بمقدار ما يشاء أن يأكله بلا تحديد، وله كذلك أن يهدي أو يتصدق بما يراه, وقيل: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، وقيل: يقسمه أثلاثاً، فيأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث[1].
والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه.

[1] استفيد الموضوع بتصرف من المراجع الآتية: فقه السنة لسيد سابق, والمغني لابن قدامة, وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

منقول