وَألْحق أصحاب أبي حنيفَة بذلكَ وَجهًا آخر وَهُوَ النّسخ بِزَوَال الْعلَّة.
وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ أصحابنا فِي تَخْلِيل الْخمر بَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أبا طَلْحَة عَن تخليلها.
فَقَالُوا: هَذَا كَانَ أول مَا حرم الْخمر وألفوا شربهَا فنَهَى عَن تخليلها تَغْلِيظًا وتشديدا، وَقد زَالَ هَذَا الْمَعْنى فَزَالَ الحكم.
وَالْجَوَاب: أن يبين أن ذَلِك لم يكن لهَذِهِ الْعلَّة بل كَانَ ذَلِك بَيَانا لحكم الخمر كإيجاب الْحَد وَتَحْرِيم الشّرْب وَالْمَنْع من البيع وَغير ذَلِك. وعَلى أنا لَو سلمنَا أنه حُرِّم لهَذِهِ الْعلَّة إلا أنه حرمهَا بقول مُطلق يَقْتَضِي تَحْرِيمه فِي الأزمان كلهَا فلَا يجوز نسخه بِزَوَال الْعلَّة. كَمَا أنه شرع الرمل والاضطباع فِي الْحَج لإظهار الْجلد للْكفَّار وَقد زَالَ هَذَا المعْنى وَالْحكم بَاقٍ.
أقول: ومما يلحق بالنسخ وليس بنسخ أن يدعي نسخ الخبر بأنه ورد لعلة كانت موجودة عند الحكم، وقد زالت العلة فوجب أن يزول الحكم. وهذا ما يسميه الحنفية النسخ بزوال العلة.
مثاله: استدلال أصحابنا في تخليل الخمر بأنه صلى الله عليه وسلم نهى أبا طلحة عن تخليلها فقد روى أبو داود عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: أهرقها. قال: ألا نجعلها خلا؟ قال: لا.
فيقول الحنفي: هذا إنما ورد في أول ما حرّمت الخمر، وكانوا قد ألفوا شربها، فنهوا عن تخليلها، وأمر بإراقتها تغليظا لأمرها ليرتدع الناس عن شربها وينزجروا عن تناولها، وقد انتهى الناس واستقر هذا الأمر فزال المعنى فزال الحكم فيجوز تخليل الخمر.
والجواب: أن يبين أن ذلك لم يكن لهذه العلة فإن الصحابة كانوا لا يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج مع النهي إلى تغليظ بل كان بيانا لحكم الخمر -وهو أنه يحرم تخليلها- كإيجاب الحد بشربها، والمنع من شربها، والمنع من بيعها وشرائها والعمل بنقلها ونحو ذلك، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال في الحد أيضا أنه إنما شرع لقرب عهدهم بها فأوجب ليرتدعوا عنها، وقد زال بتقادم العهد بالتحريم، فيجب أن يزول الحد!.
ثم على فرض التسليم أنه صلى الله عليه وسلم منع من التخليل لهذا المعنى إلا أنه حرمها بقول مطلق غير مقيد بوقت فيقتضي تحريمه في جميع الأزمان فلا يجوز نسخه بزوال العلة، إذْ يجوز أن يزول المعنى المقتضي للتحريم ويبقى الحكم، كما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرَّمل- الهرولة في الطواف-والاضطباع- أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على يساره فيبدي الأيمن ويغطي الأيسر- في الحج لإظهار الجلد للكفار حين قالوا: إن حُمَّى يثرب نهكت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم([1] ) . وقد زال هذا المعنى، ثم لم يزل الرمل والاضطباع.
([1] ) الحديث في الصحيحين، وليس فيه أمر بالاضطباع وإن ورد أنهم اضطبعوا في حجهم. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: تنبيه: لم أقف في شيء من طرقه على الاضطباع بصيغة الأمر. اهـ