تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: المسائل العشر الكبرى التي خالف فيها القراء المتأخرون إجماع المتقدمين من القراء

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي المسائل العشر الكبرى التي خالف فيها القراء المتأخرون إجماع المتقدمين من القراء

    بسم الله الرحمن الرحيم
    المسائل العشر الكبرى التي خالف فيها القراء المتأخرون إجماع المتقدمين من القراء.
    (تنبيه ورجاء)
    أيها القارئ المبارك إن هذا البحث فيه أدلة وقرائن ونظر ونصوص وعقل ونقل.
    فإن كنت ممن طبيعته وعلمه وعقله يحتمل ذلك فهنيئاً لك وأهلاً ومرحباً بك.
    ومن كان ممن يصعب عليه أمثال هذه الأمور ولا يجد الصواب والطمأنينة إلا حيث نشأ عليه أو وجد عليه الشيوخ والآباء فالأفضل له أن لا يقرأ هذا البحث والمأمول أن ينصرف فيريح ويستريح, ويبحث عن مركب آخر يصطاد فيه ما يشاء من العلم فالعلم بحر زاخر.
    المقدمة
    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين, وأيده بالفرقان والكتاب المبين, وجعله خالداً محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
    وسخر له أئمة بررة أفنوا أعمارهم في صيانته والدفاع عنه وفي تعلمه وتعليمه وفهمه.
    فجزاهم الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء وأوفاه.
    أما بعد:
    فمما يجب أن يكون متفقاً عليه عند كل مؤمن أن ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين والقراء العشرة ورواتهم وأصحابهم في شأن القرآن والقراءات هو الذي يجب الأخذ به وهو محل الاحتذاء والتأسي لمن جاء بعدهم لزوماً لا اختياراً, مهما عظم الاختلاف بعد ذلك.
    وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أخي الكريم أنه لا يمكن أن يوجد دارس لمسائل القراءة والقراءات يريد أن يعرف الحق والصواب بصدق وتجرد ولا يأبه بغير الحق والصواب إلا أن يجد بوناً شاسعاً بين ما عليه كثير من القراء المتأخرين وبين السلف والقراء الأولين من العشرة وغيرهم في مسائل غير قليلة.
    وإن كان لا يهمه إلا الحق والصواب فسيرى هذا بيناً واضحاً دون غموض ولا عناء.
    وها أنا قد كتبت عشر مسائل قد خالف فيها المتأخرون إجماع المتقدمين من السلف والقراء, ذكرت كل ذلك بأدلته وشواهده وقرائن كثيرة.
    كتبته نصحاً لكل من قرأه يريد المعرفة, ودفاعاً عن المفاهيم الصحيحة فيما يتعلق بأمر القراءة والقراءات والأحرف السبعة.
    أسأل الله أن يجعله خالصاً لوجهه وأن يتفضل علي بالقبول والأجر إنه قريب سميع مجيب.

    المسألة الأولى:
    القراءة بقراءات متعددة ثلاث أو خمس أو سبع أو عشر.

    اشتهر عند المتأخرين عن عصور السلف والقراء تفضيل تعلم قراءات متعددة وحفظها والقراءة بها.
    وهذا أمر لا يعرف له وجود في عصر الصحابة والتابعين والقراء والسلف.
    وما وجد إلا في القرن الرابع وما بعده كما سيأتي.
    وإليك التوضيح.
    كان السلف في القرون الأولى ومنهم القراء العشرة ورواتهم وتلاميذهم يكتفون بقراءة واحدة, ولا يدور بخَلًدِهم أن المؤمن يطلب منه أن يقرأ بقراءات مختلفة.
    وكانوا لا يقرؤون ولا يقرئون بقراءات متعددة لا سبعاً ولا عشراً ولا غير ذلك, ولذلك يقال: قراءة نافع وقراءة عاصم وقراءة ابن كثير...
    وقراءة قالون وقراءة حفص وقراءة البزي... وهكذا.
    ولم تكن هذه طريقة القراء السبعة ورواتهم فحسب بل إن الالتزام بقراءة واحدة هي الطريقة التي كان عليها جميع الناس في عهد الصحابة والتابعين والقرون الثلاثة المفضلة.
    ولا يعلم أن أحداً منهم في تلك الأزمنة جمع القراءات ليحفظها ويقرأ بها كلها.
    وكان بعض القراء العشرة المشهورين وغيرهم من القراء في ذلك الزمن يتلقون القرآن من عدد من القراء, فيجمعون اختلافاً كبيراً بينهم, ثم يختار القارئ لنفسه من بين القراءات قراءة واحدة يلتزمها ويعرف بها وتنسب إليه.
    وما كان الواحد منهم يرحل إلى غيره ليأخذ مجموعة قراءات ليقرأ بها جميعاً.
    قال الإمام حمزة رحمه الله: كان الرجل بالكوفة إذا أراد أن يتعلم القرآن اختلف إلى المسجد يشاورهم ويسترشدهم حتى إذا اجتمع رأيهم على رجل قلده، وقرأ عليه.
    وهذا الإمام نافع رحمه الله يقول: "قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته, وما شك به واحد تركته, حتى ألفت هذه القراءة.
    نعم بدأ جمع القراءات كتابة في القرن الثالث لكن ليس ذلك لتحفظ كلها ويقرأ بها جميعاً, وإنما لتعلم ويختار منها, بدليل أن بعض من جمع القراءات من الأئمة جمع عشرات ومئات من الروايات فهل أراد أن تحفظ كلها؟ كلا.

    وأما التوجه للقراءة بقراءات متعددة فلم يعرف إلا في القرن الرابع الهجري, ثم كثر واشتهر في القرن الخامس فما بعده.
    فحين ألف أبو بكر ابن مجاهد كتابه "السبعة" في أول القرن الرابع الهجري واقتصر فيه على سبعة قراء فقط استحوذ على كثير من الناس بعد ذلك الوقت أن قراءات هؤلاء القراء السبعة هي الأحرف السبعة الواردة في الحديث, ثم بدأ التوجه لحفظها والقراءة بها جميعاً.

    ولو استعرضت أكبر كتاب في تراجم القراء وهو "غاية النهاية" لابن الجزري رحمه الله - وقد ذكر فيه ما يقرب من أربعة آلاف ترجمة للقراء- فإنك لا تجده يذكر عن عامة قراء القرن الأول والثاني والثالث إلا أنهم كانوا يقرؤون أو يقرئون فحسب, أو يروون القراءة رواية أو يروون الحروف أو نحو ذلك.

    إذاً لا يمكن أن ترى في عهد القرون الأولى أثراً لذكر القراءة بالقراءات والأحرف جميعاً, لا في عهد الصحابة رضي الله عنهم ولا من بعدهم, والذين اختلفوا في زمن عثمان رضي الله عنه كما في خبر حذيفة رضي الله عنه إنما كانوا يختلفون كل يقرأ بقراءة مختلفة عن الآخر, فلم يوجد من بينهم من يقرأ بجميع القراءات, ولو كان كذلك ما حصل الاختلاف.
    وحين بلغ عثمان رضي الله عنه اختلافهم لم يرسل لهم من يخبرهم بفضل جمع تلك القراءات المختلفات وحفظها وقراءتها جميعاً, بل حصل ما هو معروف من إلغاء كثير منها, والإبقاء على الأصل وهو ما أنزله جبريل بحرف قريش.

    وطريقة هؤلاء السلف الكرام تتسق تماماً مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن.
    فغاية ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل على تلك الأحرف تهويناً وتسهيلاً على الأمة.
    ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم البتة أنه أمر أحداً من أصحابه رضي الله عنهم أن يجلس لتعليم تلك الأحرف وجمعها والاهتمام بها وإتقانها, بل أمر أن يقرأ كل حسب ما يسهل عليه.

    ومن أراد أدلة وبراهين أخرى وقرائن وتوضيحات وإحصائيات ونظرة تاريخية ونقول عن الأئمة والقراء فليقرأ هذا البحث المفصل الذي قد تناول الموضوع من كافة جوانبه, ومن ذلك الإجابة الشافية على بعض النقول الموهمة التي قد يستدل بها على أن القراء يقرؤون بقراءات متعددة.
    وهو بعنوان "عشرة أدلة على أفضلية الاقتصار على قراءة واحدة وعدم القراءة بالسبع أو العشر".
    https://vb.tafsir.net/tafsir55798/#.XURUAfLXKYm

    المسألة الثانية:
    التعظيم الشديد والغلو في شأن الأحرف والقراءات.
    اشتهر عند المتأخرين عن عصور السلف والقراء التعظيم الشديد والغلو في شأن الأحرف والقراءات.
    وهذا أمر لا يعرف له وجود عند أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء أو السلف.
    وإنما حصل هذا فيمن جاء بعدهم.
    وإليك التوضيح.

    من المعلوم أن الحكمة من نزول القرآن على أحرف كثيرة إنما هي التهوين والتسهيل على الأمة, ليقرأ كل مسلم ما يتيسر له من تلك الأحرف واللهجات.
    وقد فهم الصحابة ذلك بكل وضوح, فلم يروا الأحرف والقراءات إلا رخصة للتوسعة على الناس لمن احتاج إليها.
    وبناء على هذا الفهم الصحيح السهل الواضح صار أمر الأحرف والقراءات عند الصحابة والقراء والقرون المفضلة أمراً عادياً غير ذي بال.
    وخذ شاهداً على ذلك.
    حديث أبي المنهال قال: (بلغنا أن عثمان رضي الله عنه قال يوماً وهو على المنبر: أذكر الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف) لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف), فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم) أخرجه أبو يعلى في الكبير كما في "مجمع الزوائد" (7/152)
    إن عثمان رضي الله عنه يحتاج إلى إثبات أن القرآن أنزل على أحرف إلى أن يشهد معه أحد, فقام رجال فشهدوا معه, وهذا لا يدل إلا على شيء واحد, وهو أن مسألة الحروف والقراءات عند الصحابة ليست ذات بال عندهم, ولم يشغلهم أمرها.
    وهذا عمر يختلف مع هشام بن حكيم في القراءة, ويخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن القراءتين صحيحتان فلا يهتم عمر بتلك الحروف التي اختلفت قراءته فيها مع هشام, ولم يفكر في تعلمها أو السؤال عنها, وهكذا لم يفعل هشام بن حكيم.
    ولم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهما في ذلك, إن الأمر عندهم واضح, إنها رخصة فحسب.
    ومثل ذلك تماماً ما حصل مع أبي بن كعب رضي الله عنه وصاحبيه حين سمعهما في المسجد يقرآن بقراءات مختلفة عن قراءته, فلم يفكر أحد منهم أن يحفظ القراءة الأخرى أو يسأل عنها.
    ولم يرد حرف واحد لا صحيح ولا ضعيف أن الصحابة كانوا يتتبعون ويجمعون تلك القراءات المختلفة ويدونونها ويحاولون حفظها, ولم يفهم أحد من الصحابة رضي الله عنهم من إنزال القرآن على سبعة أحرف أن جمع هذه الأحرف مراد أو مرغب فيه.
    بل إن عمر رضي الله عنه حين عَلِم أن عبد الله بن مسعود يقرئ بغير حرف قريش الذي به أنزل القرآن أنكر عليه وأمره بالإقراء بحرف قريش فحسب, مع أن قراءة ابن مسعود هذه من الأحرف السبعة قطعاً, فإن ابن مسعود لا يمكن أن يقرئ بها وهي ليست من الأحرف.
    وكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش, ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام. أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (8/278)
    ومما يدل بكل وضوح على أن أمر القراءات لا يتعدى مسألة الرخصة والتهوين أنه حين صار ذلك سبباً للاختلاف والشقاق عمد عثمان رضي الله عنه كما هو مشهور ومعروف إلى إلغاء كثير من الأحرف والقراءات وأبقى على حرف واحد, وهو حرف قريش الذي به نزل القرآن, وكان ذلك بإجماع الصحابة.
    إن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) إلا الرخصة فحسب, أي: أنها رخصة وتسهيل لمن احتاج إلى ذلك, ولذلك تراهم لا يعظمون تلك الأحرف والقراءات ولا يهتمون بها, بل هم في غفلة وفي شغل عنها.

    ولم يكن هذا حال الصحابة رضي الله عنهم دون غيرهم من أهل القرون الفاضلة بما فيهم القراء العشرة ورواتهم وغيرهم.
    بل هذا حال الجميع, فقد كانوا في وقت تنتشر فيه الأحرف والقراءات انتشاراً عظيماً, فكانوا يواجهون ذلك السيل من القراءات بالاختيار, ثم ينتهي كل شيء.
    لا تشغلهم تلك الاختلافات عن القرآن نفسه, لأنهم يملكون التصور الصحيح لأمر الأحرف كما ملكه الصحابة والتابعون.

    وهذا ما خالف فيه المتأخرون من القراء, من القرن الخامس فما بعده, حيث عظموا هذه الأحرف وصار الكلام فيها وعنها وعن تفاصيلها يطغى على القرآن وعلى الغاية التي أنزل من أجلها القرآن, واعتقدوا أن تعملها يساوي تعلم القرآن, واعتقدوا أنها كلها منزلة من الله, وأن جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بها كلها, وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ الصحابة بتفاصيل تلك الأحرف والقراءات كلها, وهذا لم يقل به أحد من المتقدمين في القرون المفضلة أو القراء كما سيأتي توضيح ذلك في المسألة التالية.
    من هنا عظم المتأخرون تلك الأحرف والقراءات وغلوا فيها, ووضعوها في منزلة فوق منزلتها الحقيقية التي دلت عليها نصوص الشريعة.

    المسألة الثالثة:
    أن الأحرف والقراءات كلها منزلة أنزلها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.

    اشتهر عند بعض المتأخرين عن عصور السلف والقراء أن الأحرف السبعة كلها نزل بها جبريل, وكلها أقرأها للنبي صلى الله عليه وسلم, وكلها أقرأها النبي للصحابة.
    وهذا أمر لا يعرف عن الأولين ولم يصرح به أحد منهم.
    وأول من رأيت ذكره ابن قتيبة في القرن الثالث ثم أبو عمرو الداني في القرن الخامس ثم اشتهر بعد ذلك

    والحقيقة أن جبريل لم ينزل إلا بحرف واحد, وأما الأحرف والقراءات الأخرى فهي رخصة وتسهيل.
    وقد جاءت هذه الرخصة بقراءة القرآن على أحرف كثيرة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنتين فقط.
    فكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ واحد بلغة قريش مع الإذن لأي أحد أن يقرأه على أكثر من وجه وبغير لغة قريش شريطة أن لا يتغير المعنى الذي أراده الله تعالى, وذلك للضرورة في تلك الحقبة حين دخل الناس في دين الله أفواجاً, وبدأ الإسلام ينتشر في عموم الجزيرة العربية تمهيداً لانتشاره في الأقطار المجاورة للجزيرة, فدخل في الإسلام قبائل وجماعات وأمم لهجاتها وطريقتها في الكلام مختلفة متباينة, فكيف سيقرؤون القرآن وقد نزل بلهجة قريش!
    وكيف سيحافظون على النص المنزل وسيحفظونه كما نزل وهم أمة أمية فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام, مع عدم اعتيادهم على الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بأمور معاشهم وغير ذلك.

    فرخص بأنواع من الاختلاف في الألفاظ توسعة عليهم, كالاختلاف في الإعراب, وفي الحروف, والإفراد والتثنية والجمع, والتقديم والتأخير, والزيادة والنقصان, والتذكير والتأنيث, وتصريف الأفعال وغير ذلك, رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر.
    وكان يقول لهم: (أنزل على سبعة أحرف) أي: لا تقتصروا في قراءته على طريقة واحدة, فهو منزل على أن يقرأ على أكثر من وجه كما أنه يجوز أن يقرأ بغير لغة قريش, بل كل يقرؤه على لغته ولهجته, لأن الكل لغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين.
    ولتأكيد هذا الأمر الذي قد يبدو غريباً عند الصحابة رضي الله عنهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله أحياناً قليلة بنفسه, فيقرئ عمر بطريقة, ويقرئ هشام بن حكيم بألفاظ أخرى غير التي أقرأها لعمر, وهكذا حصل مع غيرهما.
    فالقراءات القرآنية الكثيرة المختلفة إنما هي ناشئة عن اختلاف الناس في القراءة, وهو أمر سائغ جائز بإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم, بل بطلب وإلحاح منه إلى ربه عز وجل رحمة بالأمة, فمن هنا اختلفت القراءة وتنوعت, والأصل لفظ واحد عربي قرشي, فقد أنزل القرآن بلغة قريش كما سبق.
    ومن المستحيل في هذه المدة اليسيرة المتبقية من عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرئهم هو بنفسه بجميع القراءات واللهجات, كما أنه لو كان الأمر كذلك لانقلبت الرخصة إلى تشديد والتيسير إلى تعسير, كما سأبين لاحقاً.
    ولما كثر الاختلاف بسبب ذلك في زمن عثمان t عمل على كتابته على حرف واحد وهو حرف قريش, وأمر بإلغاء جميع الحروف الأخرى لأن الحاجة إليها ضعفت, في حين أنها أضحت تشكل سبباً للاختلاف والتنازع, ولو كانت الأحرف كلها منزلة من عند الله وأقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتلفها عثمان وأنى له ذلك.
    وقد بقي من الأحرف والقراءات شيء يسير وهو الذي يسمح به الرسم العثماني.
    وهذا القول وهو أن الذي كان ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرؤوه النبي على الصحابة حرف واحد فقط مع الرخصة أن يقرأ على أكثر من حرف لا تجد أحداً من القراء الأولين أو السلف يقول بخلافه, ولا تجد أحداً منهم يصرح بأن الأحرف القرآنية والقراءات كلها أنزلها جبريل وكلها أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة.
    ما عرف قائل بذلك إلا في القرن الخامس فما بعده.
    فقط أشار إليه ابن قتيبة في القرن الثالث, ثم أبو عمرو الداني والبغوي وابن حزم في القرن الخامس, ثم ابن عطية والسخاوي في القرن السادس, ثم اشتهر بعد ذلك.
    أما سائر الناس في القرون الأولى والسلف والقراء وأهل العلم فقد نصوا على أن الذي كان ينزل به جبريل هو حرف واحد ورخص للناس أن يقرؤوه بلهجاتهم.

    يقول الدكتور صبري الأشوح في كتابه "إعجاز القراءات" ص (283) : "القول بأن الأحرف والقراءات متواترة كلها, مسموعة من فم النبي صلى الله عليه وسلم كلها, موحى بها كلها هو ما لم يقل به أحد من القدماء"اهـ
    وما ذهب إليه ابن قتيبة وأبو عمرو الداني وغيرهما ترده الأدلة الكثيرة.
    كالنص الصريح على أن القرآن أنزل بلسان قريش.
    وكون الذي كان يكتب حين نزول الوحي إنما هو حرف واحد, وهو لغة قريش, ولم يكن يكتب بأي لهجة أخرى.
    وإلغاء عثمان لبقية الأحرف وإلزام الناس بحرف واحد, وهذا يستحيل وجوده لو كانت الأحرف كلها منزلة من عند الله.
    كما يؤيده أن الرخصة بالقراءات والأحرف المختلفة لم يأت إلا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث, فلا يتصور في هذا الزمن القصير أن يقرئهم بكل تلك القراءات المختلفة.
    وقد صرح بهذا القول الصحيح الموافق لما عليه السلف والأولين جماعة من أهل العلم, كالطحاوي, وابن جرير الطبري, وأبي شامة, وابن التين, وابن تيمية, وابن حجر, وغيرهم.
    وقال به جماعة من المعاصرين.
    كالدكتور محمد حسن جبل.
    والدكتور عبد الصبور شاهين.
    والدكتور عبد الهادي حميتو.
    والدكتور صبري الأشوح.
    وغيرهم.
    والأدلة على ذلك كثيرة منها:
    حديث أبيّ رضي الله عنه قال: (لقي رسول الله جبريل، فقال: إني بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ العاسي، والعجوزة الكبيرة، والغلام, قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف). أخرجه أحمد.
    فقوله: (مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف) واضح جداً أنه رخصة مفتوحة لأولئك الشيوخ والعجائز والغلمان والذين لم يقرؤوا كتاباً قط أن يقرؤوه دون أن يتلقوا ذلك ويعلموه, ولو طلب من كل أولئك العجزة والشيوخ والغلمان أن يتعلموا القراءة ويحفظوها كما نزل بها جبريل لانتفت الرخصة, ولم يحصل ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن الأدلة:
    أن القراءات المختلفة لو كانت كلها منزلة من عند الله لم يكن بوسع الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يلغيها ويبقي على حرف قريش, فهذا من أوضح الأدلة على أن الأحرف السبعة إنما هي لهجات مختلفة رخص لكل أهل لهجة أن يقرأ بلهجته, وكانت رخصة مؤقتة.

    ومن الأدلة:
    أن عثمان رضي الله عنه حين أمر بكتابة المصحف قال للرهط القرشين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم). أخرجه البخاري (4702)
    وكذلك قال عمر رضي الله عنه, فحين عَلِمَ أن ابن مسعود رضي الله عنه يقرئ بغير حرف قريش أرسل إليه: (إن الله أنزل القرآن بلسان قريش, فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش, ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام). أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (8/278)
    وهذه نصوص صريحة واضحة, ولو نزل جبريل بجميع القراءات والأحرف ما كان لقول عثمان أو عمر رضي الله عنهما أي معنى.

    ومن الأدلة:
    أن كثيراً من أهل العلم الراسخين من القراء والمفسرين واللغويين وغيرهم قد تكلم في بعض القراءات, وخطأ بعضها, وفاضل بينها, وهذا أمر مشهور معلوم, كالإمام الأعرج عبد الرحمن بن هرمز, ويحيى بن يزيد الفراء, وأبي عبيد القاسم بن سلام, وأبي حاتم السجستاني, ومحمد بن جرير الطبري, وابن مجاهد وهو من جمع قراءات القراء السبعة, وأبي محمد بن عطية, وابن قتيبة, وأبي شامة, وأبي الحسن الأخفش, وأبي العباس المبرد, وأبي إسحاق الزجاج, وأبي جعفر النحاس, وأبي علي الفارسي, وغيرهم, حتى بعض القراء السبعة, وكثير منهم مع كونه إماماً في التفسير أو اللغة كان إماماً في القراءات أيضاً.
    وهذا صريح في أنهم كانوا يرون أن تلك القراءات المختلفة ليست كلها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك ينقدون ويخطئون ويضعفون ويفاضلون, فينقدون كل لهجة ضعيفة, أو تشوبه مخالفة للغة الفصحى, ولا يجدون أي حرج في ذلك, لأنهم على يقين وطمأنينة أن الذي أنزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الفصاحة والبيان واللسان العربي المبين, فهم يعتقدون أن تلك القراءات الكثيرة المختلفة ليست كلها من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنما هي قراءات أذن للناس أن يقرؤوا بها في زمن الرخصة.

    ومن الأدلة:
    أنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أقرأهم جميع تلك القراءات المخالفة للهجة قريش لنقل في النصوص واشتهر وتواتر ذكره والنص عليه, فعدم نقله إلا في روايات قليلة نادرة جداً يدل على أن الأمر بخلاف ذلك, وأن النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أمره ما كان يقرأ ويعلم إلا بلهجة قريش.

    ومن الأدلة:
    أنه لما اختلف عمر وهشام بن حكيم في شأن القراءة لم يكونا على علم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف إلا بعد أن قرأ كلاهما على النبي صلى الله عليه وسلم فصحح لهما, ولو كان النبي يقرئ بكل الأحرف واللهجات لاشتهر وما كان ليخفى على مثل عمر رضي الله عنه.
    فليس من المعقول أن يحصل إقراء النبي صلى الله عليه وسلم بقراءات متنوعة ثم لا يعلم به صحابي مثل عمر رضي الله عنه.

    ومن الأدلة:
    أن الرخصة بالأحرف إنما جاءت قبل وفات النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنتين فقط.
    فمتى سيقرأ النبي على أصحابه بكل الأوجه واللهجات والقراءات!
    إن من يعلم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم, ويتصور أحواله وكيف كان يقضي وقته بين المشاغل الكثيرة المتنوعة, والدعوة والجهاد والتعليم والتوجيه واستقبال الوفود والحج والزوجات ومشاكل الناس وغير ذلك كثير يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتأتى له أن يمضي كثيراً من أوقاته في تعليم القراءات المتنوعة.

    يقول الدكتور محمد حسن جبل رحمه الله في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات" ص (60) : "الذين يشترطون أو يظنون ضرورة تلقي القراءة اللهجية من الرسول صلى الله عليه وسلم أي توقف جوازها على ذلك يقعون في خطأين:
    الأول: إبطال كون القراءة باللهجات تيسيراً على الأمة, وذلك أن توقف تلك القراءة على التلقي تلزم كل من يريد القراءة بلهجته بأن يتلقاها عن الرسول صلى الله عليه وسلم, وفي ذلك ما فيه من ضرورة لقاء الرسول, والاستماع إليه وهو يقرأ بتلك اللهجة, أو القراءة أمامه صلى الله عليه وسلم بلهجة القارئ, وذلك مستحيل, لأن أصحاب هذه اللهجات غير القرشية من الصحابة آلاف, ومنتشرون في البلاد, والنص القرآني الكريم طويل, ليس عبارة واحدة أو عبارات محدودة, والرسول صلى الله عليه وسلم له مشاغله الجمة, مع كون ذلك أولاً وأخيراً تحصيل حاصل, لأن قراءة الإنسان بلهجته أمر فطري.
    والثاني: أن اللهجات العربية جد كثيرة (نحو مائة وثلاثين لهجة), والرسول لا يتسع وقته لذلك, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم له مشاغله العظيمة"اهـ

    وقال الدكتور صبري الأشوح في كتابه "إعجاز القراءات" ص (25) : "لو كانت جميع القراءات إقراء من النبي صلى الله عليه وسلم وليست إقراراً منه فأين يذهب إذن معنى الرخصة والتيسير والتوسعة, إن هذه القراءات المتعددة ستكون تعسيراً.
    أيُّ المهمتين أسهل, نقل وحفظ القرآن بقراءة واحدة أم بعشرات القراءات؟!
    وهل يعقل أن يطلب من أي عقل بشري أن يؤمن بأن النبي قد قرأ بنفسه كل هذا الخضم الهائل من القراءات؟!"اهـ

    أما الاستدلال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت).
    وقوله: (أنزل القرآن على سبعة أحرف).
    فهذا النص ليست على ظاهره, فمعناه ليس كما يتبادر منه, فله معنى آخر كما سيأتي, بدليل الأدلة الكثيرة المخالفة لهذا النص, وليس كل نص يفهم على ظاهره.
    وإلا لزم أن نعتقد أن بدء الخلق أصعب على الله من إعادته.
    لأن الله تعالى يقول: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن يكون القمر في السموات.
    فإن الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن الله يشك تعالى الله عن ذلك.
    فإن الله تعالى يقول: (وَأَرْسَلْنَاه إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً حين طلب من الله أن يريه كيف يحيى الموتى.
    والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم).
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن الإنسان يعذب بفعل لم يفعله.
    فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن من يسرق بيضة فإنه تقطع يده.
    فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وهكذا أدلة ونصوص كثيرة جداً, ولا يعقلها إلا العالمون.

    إذا المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل على سبعة أحرف) أي: أنزل على أن يقرأ على أحرف وأوجه كثيرة, فإن الصحابة الذين قيل لهم هذا الكلام لا يَشُكُّون أن القرآن إنما أنزل على لسان قريش, فهم عايشوا الرسول ويرون الوحي يتنزل ويكتب صباحاً ومساءً ويقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات كل ذلك بلسان قريش.
    وهذا ما يفسر عدم سؤال الصحابة للنبي عن هذه الأحرف وعن المراد بها, وهي مسالة حيرت العلماء أيما حيرة طيلة القرون السابقة إلى اليوم.
    ولذلك قال: (أنزل على سبعة أحرف) ولم يقل: (أنزلت سبعة أحرف)
    ومثل ذلك قوله: (هكذا أنزلت) المراد به التأكيد على أن القراءة هكذا صواب, فهو كالمنزل تماماً بل هو المنزل, لأن الله تبارك وتعالى أذن أن يقرأ بالوجهين جميعاً, فمن قرأه هكذا أو هكذا فقد قرأ القرآن الذي أنزله الله, فهو إذاً هكذا أنزل.

    ومن أراد أدلة وبراهين أخرى وقرائن وتوضيحات وإجابات شافية ونصوص عن الأئمة وأهل العلم فليقرأ هذا البحث الذي قد تناول الموضوع من كافة جوانبه.
    وهو بعنوان: هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل (بحث ونقل وعقل)
    https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=376787

    المسألة الرابعة:
    أن عثمان حين كتب المصحف جرده من النقط والشكل ليحتمل عدداً من القراءات المختلفة.

    اشتهر عند المتأخرين عن عهد السلف والقراء أن عثمان حين كتب المصاحف جرده من النقط والشكل بقصد الإبقاء على بعض القراءات؟
    والحقيقة خلاف ذلك, ولذلك لا يعرف عن أحد من الأولين أنه ذكر ذلك أو صرح به.
    وأول من قال به الإمام أبو عمرو الداني رحمه الله في القرن الخامس ثم اشتهر بعده كما سيأتي

    إن الدلائل الكثيرة والقرائن ونصوص الأئمة تدل على أن عثمان رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم حين كتبوا المصاحف لم يريدوا إلا إثبات قراءة واحدة, وهو حرف قريش الذي نزل به جبريل, ولذلك قال عثمان للكتبة: (اكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم), وهو الحرف الذي كان جبريل يتنزل به على النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد صرح بذلك الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله.
    حيث قال في "الإبانة" ص (34) : "فلا بد أن يكون عثمان رضي الله عنه إنما أراد لفظاً واحداً أو حرفاً واحداً لكنا لا نعلم ذلك بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحت روايته مما يحتمله ذلك الخط لنتحرى مراد عثمان ومن تبعه من الصحابة وغيرهم.
    ولا شك أن ما زاد على لفظ واحد في كل حرف اختلف فيه ليس مما أراد عثمان, فالزيادة لابد أن تكون من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن, فإن لم تكن كذلك وقد صح أن عثمان لم يردها كلها إذ كتب المصحف إنما أراد حرفاً واحداً فهي إذا خارجة عن مراد عثمان وعن السبعة الأحرف...
    وقد أجمع المسلمون على قبول هذه القراءات التي لا تخالف المصحف.
    ولو تركنا القراءة بما زاد على وجه واحد من الحروف لكان لقائل أن يقول: لعل الذي تركت هو الذي أراد عثمان، فلا بد أن يكون ذلك من السبعة الأحرف التي نزل بها القرآن على ما قلنا"اهـ

    وهذا النص من كتاب "الإبانة" للإمام مكي رحمه الله صريح في أن عثمان رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام إنما أرادوا لفظاً وقراءة واحدة بالحرف الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولم يكن الإمام مكي رحمه الله منفرداً بهذا القول بل قال نحو ذلك جماعة من الأئمة كما سأشير بعد قليل.
    وهذا القول هو الذي يؤيده النظر الصحيح والفهم العميق لمقاصد الصحابة وكل ما ورد عنهم من وقائع وأحوال.
    ومما يؤيد هذا القول ويؤكده أن عثمان رضي الله عنه إنما كانت غايته من كتابة مصحف واحد إلغاء الخلاف وتوحيد الناس على قراءة واحدة, ولو كان يريد أن يثبت مصحفاً يحوي كلمات تحتمل قراءات متعددة ولم يبين بالضبط نوع تلك القراءات وليس في الرسم ما يحدد كيفية نطقها بوضوح فإنه بذلك لم يلغ الخلاف فكأنه لم يصنع شيئاً, وهذا بعيد جداً.

    فعثمان إنما كانت غايته إلغاء الخلاف وتوحيد الناس على قراءة واحدة.
    ومن الأمور اليقينية أن القرآن كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ واحد, وكان يكتب أمام النبي بلفظ واحد وطريقة واحدة, وهذا الذي كتب في وقت النبي هو الذي جمع على عهد أبي بكر, فقد اعتمد في جمعه على ما كتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ الواحد, وانتقلت الصحف نفسها إلى حفصة وأخذها عثمان من حفصة فكتبها.
    قال أبو عبد الرحمن السلمي كما في "المرشد الوجيز" ص (68) : "كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه"اهـ

    يقول الدكتور غانم قدوري في كتابه "رسم المصحف" ص (472) : "المصحف العثماني لم يكتب إلا لتمثيل القراءة العامة المشهورة في المدينة آنذاك"اهـ

    فعثمان رضي الله عنه يعلم أن القرآن أنزل بلسان قريش, وأن تلك الصحف لم تكتب إلا بلسان قريش, فلم يكن في باله وقصده إلا أن يثبت هذه القراءة, وهي قراءة النبي التي نقلت عنه, وهي القراءة العامة التي كان يقرؤها في الصلاة, ويقرؤها على الصحابة, وكان يأمر كتاب الوحي بكتابتها, ثم جمعت في عهد أبي بكر, ونسخت فيما بعد في مصاحف عثمان.
    وإذا كان جمعهم على حرف واحد وهو حرف قريش الذي نزل به جبريل والذي كان يكتب بين يديه صلى الله عليه وسلم, ويقرؤه النبي في الصلاة وغيرها, فيعني هذا أن عثمان حين جمع المصحف ما أراد إلا كتابة هذا الحرف, ولم يرد أن يختلف الناس في القراءة مذاهب شتى, وإن كان هذا حصل تلقائياً حين كان رسم المصحف غير منقوط ولا مشكول لأن الكتابة حينذاك لم تكن تنقط أصلاً, فصارت القراءات المختلفة سائغة بأصل الرخصة أن يقرأ القرآن على أحرف متعددة, فالقرآن أنزل بلسان عربي مبين, وكل هذه القراءات المختلفة لا تخرج عن اللسان العربي المبين.

    ومما يؤيده ويؤكده أيضاً أنه لم يرد عن عثمان رضي الله عنه أو أحد من كتاب المصحف أي إشارة لهذا الغرض, ولم يرد عن عثمان أنه وجَّهَ الكتبة إلى أن يكون الرسم محتملاً لقراءات متعددة, بل التوجيه صريح من عثمان أن يكتب بلسان قريش, وهو قد نزل بلسانهم, وذلك بقوله لهم: (اكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم).
    فكان الكتبة لمصاحف عثمان حين يرسمون الكلمات لا يريدون إلا تمثيل نطق واحد معين.

    والقول بأن المصحف كتب هكذا ليكون محتملاً لأكثر من قراءة إنما جاء متأخراً بعد زمن الصحابة رضي الله عنهم حين كثرت القراءات وكان الرسم محتملاً لقراءات متعددة, وكان أول من قال به أبو عمرو الداني كما سيأتي.
    أما عثمان والصحابة رضي الله عنهم فلم يشيروا لذلك لا من قريب ولا من بعيد, بل النص الوارد عنهم يدل بكل وضوح على أنهم ما يريدون إلا قراءة واحدة.
    قال الدكتور غانم قدوري في كتابه "رسم المصحف" ص (110) : "تضافرت الأسباب والدوافع التي جعلت عثمان رضي الله عنه يفكر في جمع الناس على مصحف موحد في رسمه وهجائه, يجمعهم على قراءة واحدة, القراءة العامة التي كان يقرؤها عامة الصحابة, وهي القراءة التي كتب عليها زيد القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلم, وفي خلافة الصديق"اهـ
    ولكن صحت هذه القراءات المختلفة عن القراء باعتبار أصل الرخصة أن القرآن يقرأ على أكثر من حرف.
    ومما يؤيده ويؤكده أيضاً أنه لو كان رسم المصحف جرد من النقط ليحتمل أكثر من قراءة لما جردوا كل كلمات القرآن ولاقتصروا على تجريد كلمات معينة, وهي التي تشتمل على أكثر من قراءة.

    وأما القول بأن الصحابة كتبوا المصحف من غير نقط ليكون محتملاً لأكثر من قراءة فأول من قال به أبو عمرو الداني رحمه الله المتوفى في القرن الخامس, حيث يقول في كتابه "المحكم في نقط المصاحف" ص (3) : "وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها والقراءة بما شاءت منها".
    (والغريب أن أبا عمرو الداني قد خالف قوله هذا, فقد نص في أكثر من موضع من كتبه على أن العرب لم تكن أصحاب شكل ونقط كما سيأتي).

    وقول أبي عمرو الداني الذي انفرد به ولم يعرف قائل له قبله قد تلقفه ابن الجزري وغيره فاشتهر حتى لا يكاد يعرف غيره.
    حتى إن ابن تيمية رحمه الله ذكره كما في "الفتاوى" (13/402)

    وأيضاً مما يؤيد ويؤكد أن عثمان رضي الله عنه إنما أراد حرفاً واحداً وقراءة واحدة أن العلماء نصوا على أن عثمان إنما جمع الناس على حرف واحد.
    وإذا أردت الاطلاع على أقوالهم فارجع إلى هذا البحث ففيه توضيح وبسط لهذه المسألة المهمة.
    وهو بعنوان (تحرير مسائل الأحرف السبعة).
    https://vb.tafsir.net/tafsir57062/#.XURUFvLXKYm

    فقد ذكرت في ذلك البحث قول الإمام ابن جرير الطبري, ومكي بن أبي طالب, وأبي شامة, والحارث المحاسبي, وابن التين, وأبي جعفر الطحاوي.
    وذكرت هناك اعتراضين على هذا القول والجواب عنهما.
    الاعتراض الأول:
    أنه لو كان عثمان والصحابة ما أرادوا الإبقاء على بعض الاختلاف في القراءة لما كتبوا المصحف مجرداً من النقط والشكل, ولكتبوه منقوطاً مشكلاً واضحاً حتى لا يحصل الاختلاف, فإنهم لم يكونوا ليغفلوا عن أن كتابته هكذا من أقوى الأسباب للاختلاف في القراءة, وهذا من أبين الأدلة على أنهم أرادوا الإبقاء على الاختلاف الذي لا يتنافر مع رسم المصحف.

    الاعتراض الثاني:
    أنه قد ثبت زيادات أحرف في بعض المصاحف التي كتبت زمن عثمان t ووجهت للأمصار, وهذا مما يدل على أن مصاحف عثمان كتبت مراعية لاختلاف القراءات ومن أمثلة ذلك:
    (سارعوا) (وسارعوا) (يقول) (ويقول) (الذين) (والذين) (يرتد) (يرتدد)
    (وأوصى) (ووصى) (خيراً منها) (خيراً منهما) (فتوكل) (وتوكل) (بما كسبت) (فبما كسبت) (ما تشتهي الأنفس) (ما تشتهيه الأنفس) (ولا يخاف عقباها) (فلا يخاف عقباها), وغير ذلك.
    وقد ذكرت الجواب عن هذين الاعتراضين هناك بالتفصيل, والله الموفق والهادي.

    المسألة الخامسة:
    أن القراءات كلها متواترة.
    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن القراءات كلها متواترة, وهذا لا يعرف في عصر السلف والقراء.

    فما كانوا يذكرون ولا يشترطون إلا صحة القراءة وصحة سندها, وموافقتها للرسم وللعربية.
    ولم يعرف عند أحد من السلف والقراء اشتراط التواتر أو وصف القراءات بها إلا بعد ذلك, فلم يعرف إلا عند المتأخرين.

    قال ابن الجزري رحمه الله في "النشر" (1/13) : "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند, وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر, وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن, وهذا مما لا يخفى ما فيه... وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم, وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف"اهـ

    ولا بد أن يعلم أن القول بعدم تواتر القراءات لا يعني أن القرآن غير متواتر, فلا يمكن أن يقول أحد بعدم تواتر القرآن, فإنه متواتر تواتراً قطعياً لا ريب فيه عند أحد من المسلمين.
    فإن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان, وليسا شيئاً واحداً كما نص على ذلك كثير من أهل العلم.

    وكثير ممن يجزم بتواتر القراءات من المتأخرين ينظر إلى شهرة هذه القراءات عن القراء في كتب القراءات وتواتر بعضها عنهم, فيطلق القول بتواتر القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    ومن المعلوم أن القراء السبعة والعشرة وغيرهم إنما أخذوا قراءتهم من أفراد وبأسانيد ليست متواترة, وهذا أمر لا يجهله من عرف كيفية وصول القراءات إلى الأئمة العشرة رحمهم الله.
    فهذا الإمام نافع رحمه الله يقول: "قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته, وما شك به واحد تركته, حتى ألفت هذه القراءة".
    فقد قرأ على سبعين من القراء واختار من جميعهم قراءة, فهؤلاء السبعون لم تكن قراءتهم واحدة, فإن نافعاً ذكر أنه يختار من قراءاتهم, فقراءاتهم مختلفة إذاً.
    فقراءة نافع التي اختارها إذاً لم يقرأ بها كاملة بهذا الاختيار أحد قبله, فلا يمكن أن يقال: إن جميع تفاصيل قراءته متواترة.
    وهذا ورش قرأ على نافع ونقل قراءته إلى مصر ومن ثم انتقلت غرباً, مع أن ورشاً لم يوافقه أحد من الرواة عن نافع في قراءته, ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش.
    وهذا ابن كثير قرأ على عبد الله بن السائب ومجاهد, وقرأ عليه البزي وقنبل بواسطة.
    فأين التواتر؟!
    وهذا ابن عامر إنما أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب, والمغيرة قرأ على عثمان t كما قيل.
    فأين التواتر؟!
    قال ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/591) : "وقد ورد في إسناده تسعة أقوال, أصحها أنه قرأ على المغيرة بن أبي شهاب".
    وهذا أبو عمرو البصري أخذ عنه الدوري والسوسي بواسطة, فقد أخذا عن يحيى اليزيدي, عن أبي عمر البصري رحمه الله.
    فأين التواتر؟!
    وهذا حمزة رحمه الله أخذ عنه خلف وخلاد بواسطة, فقد أخذا عن سليم بن عيسى الكوفي, عن حمزة.
    فأين التواتر؟!
    وهذا حفص لم يقرأ إلا على عاصم, وعاصم إنما أخذ قراءته عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن عثمان وعلي رضي الله عنهما.
    فأين التواتر بين حفص وعاصم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
    وكذلك شعبة إنما قرأ على عاصم, عن زر بن حبيش, عن ابن مسعود رضي الله عنه.
    فأين التواتر؟!

    وإذا أردت التوسع والبسط في هذه المسألة ومعرفة الأدلة ونقول أهل العلم فانظر هذا البحث الذي كتبته بعنوان (تواتر القراءات بين الظن والتوهم والواقع اليقين).
    https://vb.tafsir.net/tafsir57131/#.XURUG_LXKYm

    وذكرت فيه قول جماعة كثيرة من أهل العلم والقراء كلهم ينصون على عدم تواتر القراءات.
    كالإمام الطوفي, وأبي شامة, وابن تيمية, والذهبي, وابن الجزري, والزركشي, والقسطلاني, وابن حجر, والشوكاني, وجماعة من المعاصرين.

    المسألة السادسة:
    أن اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة مسند كله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن الصفات المختلفة في أداء التلاوة عند القراء العشرة وغيرهم كله منقول بالسند عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا أمر لم يقل به أحد من القراء أو السلف وما عرف إلا عند المتأخرين.
    والأئمة القراء الكرام لم يقل أحد منهم أو من تلاميذهم: إن جميع تفاصيل طريقة أدائهم للقراءة قد أخذوها بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    فالقراء الكرام أنفسهم لم يدعوا ذلك أبداً, وعلى من يقول بذلك أن يأتي بحرف واحد من أولئك القراء يدل على أنهم نقلوا صفة الأداء بكل تفاصيلها بالسند كما نقلوا الحروف والكلمات والإعراب.

    والحقيقة أن الاختلاف في صفات أداء التلاوة إنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم, واختلاف لهجاتهم وأدائهم للحروف, وتأثرهم بطبيعة لهجات القبائل العربية.
    كأنواع المدود والغنن والإمالات والإدغامات والترقيقات والتفخيمات والتغليظات والروم والإشمام والهمز والتسهيل والبدل وغير ذلك.
    وهم بهذا التصرف والتنوع لا يخرجون عن اللسان العربي, فالقرآن إنما أنزل باللسان العربي المبين.
    وقد دل على ذلك براهين كثيرة جداً منها:
    أولاً:
    أنه لا يوجد أي دليل يدل على أن صفات الأداء بكل تفاصيلها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    غاية ما يذكره المتأخرون هو ما ورد عن السلف أن (القراءة سنة متبعة) وهذا قطعاً ليس المراد به ما يتعلق بصفات الأداء, إنما المراد بقولهم هذا ما يتعلق بالكلمات والحروف والإعراب ليس غير.
    وللتبين في هذه المسألة ينظر هذا البحث الذي كتبته بعنوان (هذا مراد السلف بقولهم: القراءة سنة متبعة).
    https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=352256

    ثانياً:
    نصوص وأقوال كثيرة صادرة عن القراء يفهم منها بوضوح أن الاختلاف بين القراء في طريقة الأداء إنما هو صادر عن اختلاف لهجاتهم وطرائقهم في القراءة وتنوع اختيارهم وتأثرهم بالأداء المتنوع بتنوع القبائل العربية ونحو ذلك.
    وهذه النصوص كثيرة جداً سأكتفي هنا بواحد فقط:
    قال ابن مجاهد في كتاب "السبعة" ص (113) عند ذكر الإدغام: "كان نافع لا يكاد يدغم إلا ما كان إظهاره خروجاً من كلام العرب، إلا حروفاً يسيرة".
    وبقية النصوص وهي كثيرة جداً مذكورة في موضع آخر كما سأشير في آخر المسألة.

    ثالثاً :
    انفراد بعض القراء أو بعض رواتهم بأنواع من الأداء لا يشاركهم أحد.
    هذا من أوضح الأدلة أيضاً, فلا يمكن أن ينفرد أحد القراء بشيء من الأداء وهو متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولماذا يزهد جميع القراء بهذا الأداء إلا فرداً واحداً من القراء, إنها لمفخرة وأي مفخرة أن يقرأ القارئ بأداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلماذا يا ترى يُجمِعون على الإعراض عنه سوى قارئ واحد من بين القراء العشرة.
    وإليك بعض النماذج والأمثلة على انفراد بعض القراء بأنواع من الأداء:
    انفراد أبي عمرو البصري بالإدغام الكبير.
    وانفراد خلف عن حمزة بإشمام الصاد الزاي في (الصراط) في جميع القرآن.
    وانفراد ابن كثير بوصل هاء الكناية بالياء أو بالواو.
    وانفراد ابن كثير وأبي جعفر بوصل ميم الجمع بواو, كمثل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم).
    وانفراد حفص بضم الهاء في (وما أنسانيه إلا الشيطان) في الكهف, وفي (وعاهد عليه الله) في الفتح.
    وانفراد ورش بمد حرف المد بعد الهمز نحو (آمنوا) و(الآخرة).
    وانفراد البزي بتشديد التاءات في الفعل المضارع المحذوف إحدى التاءين تخفيفاً، كقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث), وقوله: (ولا تفرقوا).
    وانفراد ورش بتغليظ اللامات.
    وانفراد الأزرق عن ورش بترقيق الراءات.
    وانفراد الأزرق عن ورش بمد حرف المد بعد الهمز مثل (آمنوا) و (جاء آل فرعون)
    وانفراد ورش بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها.
    وانفراد حمزة بالسكت على الساكن قبل الهمز.
    وغير ذلك كثير.
    فكيف ينفرد قارئ واحد دون عشرة قراء أو عشرين بأداء لا يشاركه فيه أحد, أتواصوا بذلك فقرأ كل راو بما وُكِلَ إليه من هذا الانفراد, أم اتفقوا صدفة على هجران أداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    إن هذا من أجلى البراهين لمن تأمله باحثاً عن الحق والصواب.

    رابعاً:
    كثرة الاختلاف والروايات والطرق والأوجه بلا حد ولا عد.
    فإن الطرق التي نُقِلَتْ بها الأوجه والاختلافات عدد كبير هائل, فكم سيكون بين تلك الطرق من الاختلافات في طريقة الأداء.
    فإن من المعلوم أن القراء المشهورين عشرة, ولكل قارئ راويان, ولكل راو طريقان, ولكل طريق طريقان أيضاً, فالمجموع ثمانون طريقاً.
    فمثلاً عاصم بن أبي النجود راوياه حفص وشعبة.
    وحفص راوياه عبيد بن الصباح وعمرو بن الصباح.
    وعبيد بن الصباح راوياه أبو الحسن الهاشمي وأبو طاهر, وهكذا
    هذا أصل الطرق, وإلا فالطرق المتشعبة عنها بالمئات.
    فقد جاء من طريق أبي الحسن الهاشمي من عشرة طرق, ومن طريق أبي طاهر من أربعة عشر طريقاً, وهكذا.
    مع أن القراء غير العشرة لا يحصون كثرة, والآخذين عن كل قارئ كذلك, بل أكثر وأكثر وهكذا, ولكن لم تحفظ كثير من قراءات أولئك, بل حدد قراءة اثنين عن كل قارئ, وهكذا.
    وهذا المدون نزر من بحر كما ذكر العلماء.
    قال ابن الجزري حينما فرغ من ذكر أسانيده التي تلقى بها القراءات في كتابه "النشر" قال (1/192) : "فهذا ما تيسر من أسانيدنا للقراءات العشر من الطرق المذكورة التي أشرنا إليها, وجملة ما تحرر عنهم من الطرق بالتقريب نحو ألف طريق".
    ومن المعلوم أن ابن الجزري لم يضمن النشر وطيبته كل القراءات والروايات والطرق الصحيحة, بل قد يكون ما ترك من بعض الطرق أمثل مما ذكر.

    خامساً:
    أن القراء وعلماء القراءات والمؤلفين في القراءات يستعملون القواعد والتعليلات والقياس كثيراً في أنواع كثيرة من الأداء.
    والنصوص على ذلك كثيرة جداً سأكتفي هنا بواحد فقط:
    قال الإمام مكي في "الكشف" (1/314) في ذكر علة تشديد التاء للبزي: "وعلته في ذلك أنه حاول الأصل, لأن الأصل في جميعها تاءان, فلم يحسن له أن يظهرهما فيخالف الخط في جميعها, إذ ليس في الخط إلا تاء واحدة, فلما حاول الأصل وامتنع عليه الإظهار أدغم إحدى التاءين في الأخرى, وحسن له ذلك وجاز اتصال المدغم بما قبله, فإن ابتدأ بالتاء لم يزد شيئاً".

    وبقية النصوص وهي كثيرة جداً مذكورة في موضع آخر كما سأشير في آخر المسألة.

    سادساً:
    كراهية بعض الأئمة والعلماء لأنواع من الأداء عند بعض القراء.
    فقد تواتر واشتهر إنكار كثير من أئمة الإسلام لأنواع من الأداء عند الإمام حمزة, أو الكسائي.
    وممن ورد عنهم التصريح بكراهية ذلك الإمام أحمد رحمه الله, وعبد الرحمن بن مهدي, وأبو بكر بن عياش, والحكم بن عتيبة, ويزيد بن هارون, وعبد الله بن إدريس, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن قتيبة, وبشر بن الحارث, ويعقوب بن شيبة, وعلي بن المديني, والساجي, والأزدي, وابن دريد, وحماد بن زيد.
    وقد ذكرت أقوالهم في موضع آخر كما سأشير في أخر المسألة.

    سابعاً:
    كثرة الاختلاف عن القراء أو عن رواتهم.
    فلا يكاد يوجد نوع أداء عن قارئ أو راو إلا ويختلف عنه الآخذون عنه, ويكفي لتتأكد من ذلك أن تتصفح كتاب "النشر" لابن الجزري, لترى بنفسك كثرة هذا الاختلاف, مما يؤكد ما نحن بصدده من أن جميع صفات الأداء ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هي من اختلاف القراء أنفسهم ومن رووا عنهم.

    ثامناً:
    ظهور ما يسمى بعلم التحريرات, وهو الذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات بين القراء وأتباعهم في الأداء, واعتراض بعض الباحثين والقراء على ذلك, مما يدل على أن الاختلاف بين القراء في الأداء مصدره الاختلاف الطبيعي بين القراء في لهجاتهم والتأثر بلهجات القبائل العربية المتنوعة وليس الإسناد.

    تاسعاً :
    ما ورد عن كثير من السلف رحمهم الله من هذ القرآن, والسرعة في قراءته, وليس هو ديدنهم وعادتهم, ولكنهم كانوا يفعلون ذلك أحياناً, وإنما يدل هذا على أنه من المتقرر عندهم أن أداء التلاوة اجتهاد مبني على السعة والتسهيل.

    عاشراً:
    أن القرآن أنزل على سبعة أحرف, أي: أذن وسمح للناس أن يقرؤوه على وجوه كثيرة متنوعة, وليس لذلك إلا غرض واحد, وهو التخفيف على الأمة, ومن المعلوم المتيقن أن المشقة في الالتزام بلهجة واحدة أهون بكثير من الالتزام بأداء واحد, فكيف يؤذن للناس أن يقرؤوا القرآن بلهجات مختلفة, ويقيدون بأنواع من الأداء محددة هي التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    هذا لا يمكن أن يكون, بل إن التقييد بصفات محددة من الأداء متعذر غاية التعذر, فقد خلق الله البشر مختلفين, لا يتأتى مع ذلك الاختلاف أن يتطابقوا في طريقة قراءتهم وأدائهم, وتأكيداً لذلك رويت الطرق الكثيرة والاختلافات والأوجه المتفاوتة.

    هذه عشرة أدلة.
    ومن أراد التوسع في هذه المسألة المهمة ومعرفة الأدلة بالتفصيل والقرائن والنقول فقد ذكرت في بحث مطول مفصل خمسة عشر دليلاً على ذلك تجده هنا بعنوان (اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (بحث في الأدلة والقرائن)
    https://ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=379124

    المسألة السابعة:
    أن صفات الأداء من الأحرف ومن القراءات.
    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن صفات الأداء كلها من الأحرف ومن القراءات وهذا أمر لم يعرف إلا عند المتأخرين
    ولم يقل به أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء أو السلف.

    والصواب أن طرائق الأداء كافة كالإمالة والإدغام والترقيق والتفخيم والتغليظ والروم والإشمام والتسهيل والإبدال وغير ذلك من سائر صفات الأداء ليست من الأحرف السبعة وليست من القراءات.
    فإن الأحرف السبعة فيها إبدال للكلمات أو الحروف من أصلها, أو تغيير للإعراب, أو اختلاف في اللفظ من غيبة وخطاب أو تذكير وتأنيث أو تخفيف وتشديد, أو تقديم وتأخير, أو إسناد الفعل إلى متكلم أو غائب أو مخاطب أو غائب أو إلى معلوم أو مجهول.
    أو الاختلاف في الأسماء في الإفراد أو الجمع, أو اختلاف اللفظ في الأسماء مثل (البخل) و(الطير) و(جبريل) و(ميكائيل) وغير ذلك من أنواع الاختلاف.

    أما الاختلاف في الأداء فهو اختلاف طبيعي في طريقة الكلام حتى لو لم يكن إلا حرف واحد وقراءة واحدة.
    فلو لم يكن ثَمَّ أحرف ولا قراءات فإنك ستجد من القراء من يميل لأن لسانه لا يعرف إلا الإمالة فلا يقدر إلا عليها, وستجد من يرقق أو يغلظ أو يفخم بعض الحروف, وستجد من يدغم ومن يمد ويغن وستجد الروم والإشمام وتسهيل الهمز, وستجد ضم ميم الجمع وصلتها وهكذا سائر صفات أداء القراءة.
    كما أنك لو كتبت كلاماً فقرأه مصري وشامي وعراقي ويمني ونجدي فإن الكلام واحد والحرف واحد, ولكن طريقة كل واحد ستختلف اختلافاً كبيراً في قراءة ذلك المكتوب, فدل هذا على أن طريقة الأداء فطرة إنسانية لا يمكن أن يتفق الناس على أداء واحد, حتى لو نزل القرآن بحرف واحد.

    قال الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (76) : "فما كان في هذه القراءات اللهجية من باب الأداء فإنه لا يغير الكلام, وليس أحد من أهل العلم على وجه الأرض يقول: إن الكلمة إذا نطقت ممالة فإنها تغاير نفس الكلمة إذا نطقت بغير إمالة, وكذلك سائر التغيرات اللهجية"اهـ

    ولنقف الآن على مثال واحد فقط يتعلق بمسألة الإمالة.
    فإنه من المعروف أن القراء حمزة والكسائي وأبا عمرو البصري اشتهروا بالإمالة دون قراء مكة والمدينة والشام.
    والسبب هو أن هؤلاء القراء عاشوا في بيئات أهلها لهجتهم الإمالة.
    يقول الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف" ص (321) : "أشهر من رويت عنهم الإمالة من القراء العشرة هم حمزة والكسائي وخلف, وهم من أئمة القراءة في الكوفة, أما قراء الحجاز أمثال ابن كثير المكي وأبي جعفر ونافع المدنيين فلا تعرف قراءتهم الإمالة إلا نادراً, ومعنى ذلك أن اللغة السائدة في الحجاز والقراءة التي كان قراء مكة والمدينة يقرؤونها هي بصورة عامة الفتح دون الإمالة, أي أن الإمالة لم تكن لغة الذين ولوا نسخ المصاحف"اهـ

    وقال الدكتور عبد الفتاح شلبي في كتابه "الإمالة في القراءات واللهجات العربية" ص (159) : "ونستطيع أن نستخلص أن المميلين من القراء عاشوا في بيئة عراقية (في الكوفة والبصرة)...
    وعلى ذلك نستطيع أن نرجع مذهب كل إمام من هؤلاء الأئمة إلى أحد عاملين أو هما معاً:
    الأول: شيوخه الذين قرأ عليهم وأخذ عنهم.
    الثاني: البيئات التي توطنوها وما شاع فيها من لهجة الفتح أو الإمالة".
    ثم أخذ في تطبيق ذلك على القراء قارئاَ قارئاً.
    ومما قاله في أبي عمرو البصري: "والأمر مع أبي عمرو البصري واضح, فهو تميمي أولاً وتظهر عنده ظهوراً واضحاً, ومذهبه في الإكثار من الإمالة يتسق هو وهذه البيئة..."اهـ

    ومن الأدلة على أن صفات الأداء والتي تسمى بالأصول ليست من الأحرف السبعة ولا من القراءات أن ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب وغيرهما حين ذكروا وجوه الاختلافات السبعة في القرآن لم يذكروا أي شيء يتعلق بالاختلاف في الأداء, كصلة الهاء والإمالة والإدغام والمدود وغير ذلك.

    ومن أراد معرفة هذه المسألة بتوسع أكثر فليرجع إلى البحث الذي كتبته بعنوان (تحرير مسائل الأحرف السبعة).
    https://vb.tafsir.net/tafsir57062/#.XURUKPLXKYm

    المسألة الثامنة:
    أن القراءة سنة متبعة في صفات الأداء كما هي سنة في الكلمات والحروف والإعراب.

    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن معنى قول السلف رحمهم الله: (القراءة سنة متبعة) أنها سنة متبعة حتى في تفاصيل الأداء وصفة التلاوة والمدود ومقاديرها والإظهار والإدغام والإخفاء والغنن والتفخيم والترقيق, وغير ذلك مما هو من قبيل الأداء.
    وهذا المفهوم لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام أيِّ من السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.
    والحقيقة أن مقصود السلف رحمهم الله بقولهم: (سنة متبعة) ما كان يتعلق بالحروف والحركات وكيفية نطق الكلمات, وليس ما يتعلق بطريقة التغني والترتيل والأداء والتجويد, ويتبين ذلك جلياً من سياق كلامهم حين يقولون (القراءة سنة متبعة) وأنهم لا يريدون إلا هذا المعنى وليس للمعنى الآخر أي ذكر.
    (والقراءة سنة متبعة) بهذا المعنى أمر لا ريب فيه, فإن قراءة القرآن سنة متبعة, ليس لأحد أن يقرأ من تلقاء نفسه, ولا أن يقرأ كيفما اتفق, بل ليس له أن يقرأ إلا كما قرأ من قبله.
    ولا يمكن أن يستقل القارئ بمجرد المكتوب, فإن الرسم قد ينطق على أوجه كثيرة.
    ولو تتبعت أين يقولون تلك الكلمة لوجدتها دائماً بدون استثناء تذكر فيما يتعلق بالكلمات والحروف والإعراب, لا تذكر أبداً في غير ذلك من مد أو إدغام أو إمالة أو تفخيم أو ترقيق أو غير ذلك.
    والشواهد على ذلك كثيرة جداً.
    انظر على سبيل المثال قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في "البخاري" (4415): "(هَيْتَ لك) وإنما نقرؤها كما علمناها".
    وقول الكسائي: "لو قرأت على قياس العربية لقرأت (كُبره) برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر". انظر: "جامع البيان" للداني (1/85)
    وقول الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: (وبركنا عليه) في موضع (وتركنا عليه) في موضع أيعرف هذا؟ قال: ما يعرف، إلا أن يسمع من المشايخ الأولين". أخرجه ابن مجاهد في "السبعة" ص (48), والداني في "جامع البيان" (1/108)
    ولهذا تجد أن العلماء يذكرون دائماً أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.
    كقول ابن مجاهد رحمه الله: "ولم أر أحداً ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية يرخصون لأحد في أن يقرأ بحرف لم يقرأ به أحد من الأئمة الماضين، وإن كان جائزاً في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه أشد النهي، ويروون الكراهية له عمن تقدمهم من مشايخهم".

    وإذا رأيت اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فستجد أنه إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ, وليس ما له علاقة بطريقة الأداء.
    ولو استعرضت جميع ما ورد في كتب السنة كافة من القراءات والأحرف لرأيت أن جميع تلك الروايات بلا استثناء إنما تذكر ما يتعلق بالكلمات والإعراب والحركات والحروف وزيادتها أو نقصانها ونحو ذلك, ولا يوجد فيها ذكر لأي من صفات الأداء البتة.

    ولهذا تجد أن السلف كانوا يحذرون من تلقي القرآن ممن يأخذه من المصحف مباشرة دون تلقي خشية أن يخطئ في الإعراب والحركات أو أن ينطق الكلمة كما هي مكتوبة مع أنها لا تنطق كما تكتب.
    فكانت عنايتهم منصبة فيما يتغير به اللفظ, وليس في طريقة أداء اللفظ.

    ومن أراد التوسع في هذه المسألة وفهم كل ما يتعلق بها فليراجع هذا البحث الذي كتبته بعنوان (هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة)
    https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=352256

    فقد ذكرت فيه كثيراً من الأدلة والأمثلة والشواهد والنقول عن السلف والقراء فيما يتعلق بكون القراءة سنة متبعة.

    المسألة التاسعة:
    التشديد والتدقيق في شأن القراءة وعدم السهولة والتهوين.

    اشتهر عند كثير من المتأخرين عن عصر السلف والقراء التشديد والتدقيق في شأن أداء التلاوة بحجة الالتزام بقراءة القرآن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والقراء يقرؤونه.

    وهذا مخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون السلف والقراء وتلاميذهم رحمهم الله تعالى.
    فإن الواقع أن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سهلة جداً, وكذلك قراءة السلف والقراء.
    يدل على ذلك أمور كثيرة لمن تتبعها ورزق فهمها.
    وليعلم كل مسلم أن مراد الله ورسوله إنما هو التسهيل والتيسير في شأن قراءة القرآن, فكل أمر يتعارض مع هذا الأصل الراسخ العظيم فهو مناف لمراد الله ورسوله ومصادم له, وإن ظهر بصورة تعظيم القرآن أو بدعوى الحرص على قراءته قراءة سليمة.
    فإن القرآن أنزل على أحرف كثيرة, وما ذاك إلا من أجل التيسير على الأمة وأن لا يجد الحرج أو التضييق إليها سبيلاً, فالأمر موسع غاية السعة, وسهل غاية السهولة, فنزول القرآن على أحرف متعددة مظهر من مظاهر التيسير والتخفيف على الأمة.
    ففي هذا أوضح دلالة على أن الإلزام بأداء واحد وطريقة واحدة ورسوم محددة دقيقة وقوانين مقعدة مخالف لهذا الأصل, فهو مخالف للحكمة التي من أجلها أنزل القرآن على سبعة أحرف, ومناف لها غاية المنافاة.
    وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هون على أمتي) وقوله: (وإن أمتي لا تطيق ذلك).
    وما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مطالبة ربه بذلك إلا لعلمه أن ألسنة الناس تختلف ولهجاتهم تتفاوت, وقدراتهم تتباين, وأن حملهم على طريقة واحدة وحصرهم في وجه واحد في الأداء يشق عليهم غاية المشقة, وفيه إلغاء تام للحكمة التي من أجلها ورد هذا الحديث.

    ومما يؤكد هذا الأصل العظيم وهو التيسير في أمر القراءة تصرفات السلف رحمهم الله.
    فمن تأمل طريقة السلف رحمهم الله في تعاطيهم مع التلاوة تعلماً وتعليماً يرى هذا واضحاً كالشمس, فإنهم لا يدققون في أمر الأداء, بل غاية قصدهم ومرادهم القراءة الصحيحة الخالية من اللحن, والاتباع في القراءة على سنن الأولين, لأن القراءة سنة متبعة, لا يقرأ القرآن حسب رسمه ولا بكل ما تجيزه اللغة, ما كان إلا هذا قصدهم وما كان إلا هذا مرادهم.
    لا تجد لطريقة الأداء أي ذكر في جميع الروايات الصادرة من ذلك الجيل الفريد.
    إلا روايات يسيرة عامة يفهم منها الاهتمام بتوضيح التلاوة والاهتمام بحسن القراءة.
    وأما الاختلاف في طريقة الأداء التي يختلف الناس فيها بطبيعتهم فمتروك أمره لاختلاف طبائع الناس وطرائقهم في الأداء.

    ألا تعلم أن القارئ قالون عيسى بن ميناء الراوي المشهور عن نافع كان أصم يصحح من رؤيته للشفتين.
    قال ابن أبي حاتم: كان أصم يقرئ القرآن, ويفهم خطأهم ولحنهم بالشفة.
    قال: وسمعت علي بن الحسين يقول: كان عيسى بن ميناء قالون أصم شديد الصمم, وكان يقرأ عليه القرآن, وكان ينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ". انظر: "غاية النهاية" (1/853)
    وهذا يدل بكل وضوح أن أمر أداء التلاوة ميسر غاية التيسير, الغرض الأول منه عدم اللحن في القراءة.
    وقال أبو بكر بن مجاهد في "السبعة" ص (84) : "كان أبو عمرو حسن الاختيار سهل القراءة, غير متكلف, يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل".

    وروى الحلواني عن قالون أن نافعاً كان لا يهمز همزاً شديداً ويمد ويحقق القراءة ولا يشدد ويقرب بين الممدود وغير الممدود كما في "معرفة القراء الكبار" (1/245)

    وروى هارون بن موسى الفروي عن أبيه عن نافع بن أبي نعيم أنه كان يجيز كلما قرئ عليه إلا أن يسأله إنسان أن يقفه على قراءته فيقفه عليها.
    وعن الاعشى قال: كان نافع يسهل القرآن لمن قرأ عليه إلا أن يسأله. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/243)
    إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تشهد لهذا التسهيل والتيسير.
    والكلام في هذه المسألة قد ذكر بتوسع في موضع آخر في بحث سأكتبه في المنتدى قريباً إن شاء الله بعنوان (مدرسة التجويد (استمدادها- واقعها- المآخذ عليها).

    المسألة العاشرة :
    التحديدات الدقيقة في المدود وغيرها.
    اشتهر عند كثير من المتأخرين عن عصر السلف والقراء التحديدات الدقيقة في المدود والغنن والقلقة ومخارج الحروف وغيرها من صفات الأداء.
    فصار أمر التلاوة عند القراء في هذا الزمان وفي أزمان سالفة شاقاً مكلفاً فلا بد أن يتمرن القارئ على طريقة مرسومة محدد فيها كل شيء وليس للقارئ أي اختيار, فيغتال معه التغني الحر والتدبر والهناء بالقراءة, فإذا قرأ صار يراعي تلك القواعد بكل تفاصيلها فليس له هم إلا هذا.

    وهذا مخالف لما عليه الصحابة والتابعون والسلف والقراء وأصحابهم.
    فلم يكن هذا معروفاً عنهم, وإنما عرف عند من تأخر عنهم.
    ولو بحثت في النصوص الصادرة من القراء ورواتهم فإنك لا ترى شيئاً من ذلك.
    ولا يخفى على أحد اليوم ما يدور بين أهل التجويد من المجادلات الطويلة والخلافات والمشاحنات والردود في مسألة مخارج الحروف, وما يترتب عليها من الشحناء وإضاعة الجهود وتفلت الأعمار كل ذلك في غياب تام عن الغاية من القرآن, وكأن القرآن إنما أنزله الله تبارك وتعالى من أجل إتقان مخارج الحروف!

    والأصل أن الحروف العربية ينطقها صاحب اللسان العربي نطقاً صحيحاً، بل حتى الأعجمي في غالب الأحيان, وإنما قد يحتاج إلى معرفة مخارج الحروف أعجمي لا يخرج الحرف من مخرجه فيقول مثلاً: (الهمد الله) أو يقول: (الرهمن الرهيم) أو يقول: (صراط الذين أنأمت عليهم) أو يقول: (ويغيمون الصلاة) فهذا هو من يحتاج أن يتعلم المخرج الصحيح للحرف.
    أما ذو اللسان العربي فليس بحاجة إلى كثير من ذلك, كيف وهو يقرأ القرآن كما أنزل بلسان عربي مبين, دون زيادة ولا نقص, ولا تحريف ولا لحن, ولا إبدال حركة بأخرى.

    قال أبو حيان: "إنما ذكر النحويون صفات الحروف لفائدتين:
    إحداهما: لأجل الإدغام...
    والفائدة الثانية: وهي الأولى في الحقيقة بيان الحروف العربية حتى ينطق من ليس بعربي بمثل ما ينطق به العربي".

    وكذلك التدقيق في مسألة تحديد زمن المد, وهو أمر لا أصل له بالاتفاق
    كما قال الإمام مكي بن أبي طالب في كتابه "تمكين المد" ص (36) : "(فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين)
    والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هو تقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة لأن المد إنما هو فتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت وذلك قدر لا يعلمه إلا الله ولا يدري قد الزمان الذي كان فيه المد للحرف ولا قدر النفس الذي يخرج مع امتداد الصوت في حيز المد إلا الله تعالى, فمن ادعى قدراً للمد حقيقة فهو مدعي علم الغيب.
    وقد وقع في كتب القراء التقدير بالألف والألفين والثلاثة على التقريب للمتعلمين ... ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد.
    ألا ترى أن أبا إسحاق الزجاج قال: لو مددت صوتك يوماً وليلة لم يكن إلا ألفاً واحدة"اهـ

    وقال الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله في "جامع البيان" (1/342) بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: "وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة".

    وقال ابن الجزري في "النشر" (1/333) بعد أن ذكر مراتب المد عند القراء: "فهذا ما حضرني من نصوصهم, ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط، والمنضبط من ذلك غالباً هو القصر المحض, والمد المشبع من غير إفراط عرفاً، والتوسط بين ذلك".

    والكلام في هذه المسألة قد ذكر بتوسع في موضع آخر في بحث سأكتبه في المنتدى قريباً إن شاء الله بعنوان (مدرسة التجويد (استمدادها- واقعها- المآخذ عليها).
    أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الصدق والإخلاص والبحث عن مراد الله ورسوله للعمل به بنفس راضية مطمئنة, وأن يرينا الحق حقاً ويهدينا لقبوله واتباعه والله أعلم
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
    Alrajhi.sr@gmail.com

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي رد: المسائل العشر الكبرى التي خالف فيها القراء المتأخرون إجماع المتقدمين من القراء

    فإن الله تعالى يقول: (وَأَرْسَلْنَاه إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً حين طلب من الله أن يريه كيف يحيى الموتى.
    والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم).
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن الإنسان يعذب بفعل لم يفعله.
    فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وكذلك يلزم أن من يسرق بيضة فإنه تقطع يده.
    فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)
    ولا شك أن هذا النص ليس كما يتبادر من معناه.
    وهكذا أدلة ونصوص كثيرة جداً, ولا يعقلها إلا العالمون.

    إذا المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل على سبعة أحرف) أي: أنزل على أن يقرأ على أحرف وأوجه كثيرة, فإن الصحابة الذين قيل لهم هذا الكلام لا يَشُكُّون أن القرآن إنما أنزل على لسان قريش, فهم عايشوا الرسول ويرون الوحي يتنزل ويكتب صباحاً ومساءً ويقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات كل ذلك بلسان قريش.
    وهذا ما يفسر عدم سؤال الصحابة للنبي عن هذه الأحرف وعن المراد بها, وهي مسالة حيرت العلماء أيما حيرة طيلة القرون السابقة إلى اليوم.
    ولذلك قال: (أنزل على سبعة أحرف) ولم يقل: (أنزلت سبعة أحرف)
    ومثل ذلك قوله: (هكذا أنزلت) المراد به التأكيد على أن القراءة هكذا صواب, فهو كالمنزل تماماً بل هو المنزل, لأن الله تبارك وتعالى أذن أن يقرأ بالوجهين جميعاً, فمن قرأه هكذا أو هكذا فقد قرأ القرآن الذي أنزله الله, فهو إذاً هكذا أنزل.

    ومن أراد أدلة وبراهين أخرى وقرائن وتوضيحات وإجابات شافية ونصوص عن الأئمة وأهل العلم فليقرأ هذا البحث الذي قد تناول الموضوع من كافة جوانبه.
    وهو بعنوان: هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل (بحث ونقل وعقل)
    https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=376787

    المسألة الرابعة:
    أن عثمان حين كتب المصحف جرده من النقط والشكل ليحتمل عدداً من القراءات المختلفة.

    اشتهر عند المتأخرين عن عهد السلف والقراء أن عثمان حين كتب المصاحف جرده من النقط والشكل بقصد الإبقاء على بعض القراءات؟
    والحقيقة خلاف ذلك, ولذلك لا يعرف عن أحد من الأولين أنه ذكر ذلك أو صرح به.
    وأول من قال به الإمام أبو عمرو الداني رحمه الله في القرن الخامس ثم اشتهر بعده كما سيأتي

    إن الدلائل الكثيرة والقرائن ونصوص الأئمة تدل على أن عثمان رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم حين كتبوا المصاحف لم يريدوا إلا إثبات قراءة واحدة, وهو حرف قريش الذي نزل به جبريل, ولذلك قال عثمان للكتبة: (اكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم), وهو الحرف الذي كان جبريل يتنزل به على النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد صرح بذلك الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله.
    حيث قال في "الإبانة" ص (34) : "فلا بد أن يكون عثمان رضي الله عنه إنما أراد لفظاً واحداً أو حرفاً واحداً لكنا لا نعلم ذلك بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحت روايته مما يحتمله ذلك الخط لنتحرى مراد عثمان ومن تبعه من الصحابة وغيرهم.
    ولا شك أن ما زاد على لفظ واحد في كل حرف اختلف فيه ليس مما أراد عثمان, فالزيادة لابد أن تكون من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن, فإن لم تكن كذلك وقد صح أن عثمان لم يردها كلها إذ كتب المصحف إنما أراد حرفاً واحداً فهي إذا خارجة عن مراد عثمان وعن السبعة الأحرف...
    وقد أجمع المسلمون على قبول هذه القراءات التي لا تخالف المصحف.
    ولو تركنا القراءة بما زاد على وجه واحد من الحروف لكان لقائل أن يقول: لعل الذي تركت هو الذي أراد عثمان، فلا بد أن يكون ذلك من السبعة الأحرف التي نزل بها القرآن على ما قلنا"اهـ

    وهذا النص من كتاب "الإبانة" للإمام مكي رحمه الله صريح في أن عثمان رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام إنما أرادوا لفظاً وقراءة واحدة بالحرف الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولم يكن الإمام مكي رحمه الله منفرداً بهذا القول بل قال نحو ذلك جماعة من الأئمة كما سأشير بعد قليل.
    وهذا القول هو الذي يؤيده النظر الصحيح والفهم العميق لمقاصد الصحابة وكل ما ورد عنهم من وقائع وأحوال.
    ومما يؤيد هذا القول ويؤكده أن عثمان رضي الله عنه إنما كانت غايته من كتابة مصحف واحد إلغاء الخلاف وتوحيد الناس على قراءة واحدة, ولو كان يريد أن يثبت مصحفاً يحوي كلمات تحتمل قراءات متعددة ولم يبين بالضبط نوع تلك القراءات وليس في الرسم ما يحدد كيفية نطقها بوضوح فإنه بذلك لم يلغ الخلاف فكأنه لم يصنع شيئاً, وهذا بعيد جداً.

    فعثمان إنما كانت غايته إلغاء الخلاف وتوحيد الناس على قراءة واحدة.
    ومن الأمور اليقينية أن القرآن كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ واحد, وكان يكتب أمام النبي بلفظ واحد وطريقة واحدة, وهذا الذي كتب في وقت النبي هو الذي جمع على عهد أبي بكر, فقد اعتمد في جمعه على ما كتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ الواحد, وانتقلت الصحف نفسها إلى حفصة وأخذها عثمان من حفصة فكتبها.
    قال أبو عبد الرحمن السلمي كما في "المرشد الوجيز" ص (68) : "كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه"اهـ

    يقول الدكتور غانم قدوري في كتابه "رسم المصحف" ص (472) : "المصحف العثماني لم يكتب إلا لتمثيل القراءة العامة المشهورة في المدينة آنذاك"اهـ

    فعثمان رضي الله عنه يعلم أن القرآن أنزل بلسان قريش, وأن تلك الصحف لم تكتب إلا بلسان قريش, فلم يكن في باله وقصده إلا أن يثبت هذه القراءة, وهي قراءة النبي التي نقلت عنه, وهي القراءة العامة التي كان يقرؤها في الصلاة, ويقرؤها على الصحابة, وكان يأمر كتاب الوحي بكتابتها, ثم جمعت في عهد أبي بكر, ونسخت فيما بعد في مصاحف عثمان.
    وإذا كان جمعهم على حرف واحد وهو حرف قريش الذي نزل به جبريل والذي كان يكتب بين يديه صلى الله عليه وسلم, ويقرؤه النبي في الصلاة وغيرها, فيعني هذا أن عثمان حين جمع المصحف ما أراد إلا كتابة هذا الحرف, ولم يرد أن يختلف الناس في القراءة مذاهب شتى, وإن كان هذا حصل تلقائياً حين كان رسم المصحف غير منقوط ولا مشكول لأن الكتابة حينذاك لم تكن تنقط أصلاً, فصارت القراءات المختلفة سائغة بأصل الرخصة أن يقرأ القرآن على أحرف متعددة, فالقرآن أنزل بلسان عربي مبين, وكل هذه القراءات المختلفة لا تخرج عن اللسان العربي المبين.

    ومما يؤيده ويؤكده أيضاً أنه لم يرد عن عثمان رضي الله عنه أو أحد من كتاب المصحف أي إشارة لهذا الغرض, ولم يرد عن عثمان أنه وجَّهَ الكتبة إلى أن يكون الرسم محتملاً لقراءات متعددة, بل التوجيه صريح من عثمان أن يكتب بلسان قريش, وهو قد نزل بلسانهم, وذلك بقوله لهم: (اكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم).
    فكان الكتبة لمصاحف عثمان حين يرسمون الكلمات لا يريدون إلا تمثيل نطق واحد معين.

    والقول بأن المصحف كتب هكذا ليكون محتملاً لأكثر من قراءة إنما جاء متأخراً بعد زمن الصحابة رضي الله عنهم حين كثرت القراءات وكان الرسم محتملاً لقراءات متعددة, وكان أول من قال به أبو عمرو الداني كما سيأتي.
    أما عثمان والصحابة رضي الله عنهم فلم يشيروا لذلك لا من قريب ولا من بعيد, بل النص الوارد عنهم يدل بكل وضوح على أنهم ما يريدون إلا قراءة واحدة.
    قال الدكتور غانم قدوري في كتابه "رسم المصحف" ص (110) : "تضافرت الأسباب والدوافع التي جعلت عثمان رضي الله عنه يفكر في جمع الناس على مصحف موحد في رسمه وهجائه, يجمعهم على قراءة واحدة, القراءة العامة التي كان يقرؤها عامة الصحابة, وهي القراءة التي كتب عليها زيد القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلم, وفي خلافة الصديق"اهـ
    ولكن صحت هذه القراءات المختلفة عن القراء باعتبار أصل الرخصة أن القرآن يقرأ على أكثر من حرف.
    ومما يؤيده ويؤكده أيضاً أنه لو كان رسم المصحف جرد من النقط ليحتمل أكثر من قراءة لما جردوا كل كلمات القرآن ولاقتصروا على تجريد كلمات معينة, وهي التي تشتمل على أكثر من قراءة.

    وأما القول بأن الصحابة كتبوا المصحف من غير نقط ليكون محتملاً لأكثر من قراءة فأول من قال به أبو عمرو الداني رحمه الله المتوفى في القرن الخامس, حيث يقول في كتابه "المحكم في نقط المصاحف" ص (3) : "وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها والقراءة بما شاءت منها".
    (والغريب أن أبا عمرو الداني قد خالف قوله هذا, فقد نص في أكثر من موضع من كتبه على أن العرب لم تكن أصحاب شكل ونقط كما سيأتي).

    وقول أبي عمرو الداني الذي انفرد به ولم يعرف قائل له قبله قد تلقفه ابن الجزري وغيره فاشتهر حتى لا يكاد يعرف غيره.
    حتى إن ابن تيمية رحمه الله ذكره كما في "الفتاوى" (13/402)

    وأيضاً مما يؤيد ويؤكد أن عثمان رضي الله عنه إنما أراد حرفاً واحداً وقراءة واحدة أن العلماء نصوا على أن عثمان إنما جمع الناس على حرف واحد.
    وإذا أردت الاطلاع على أقوالهم فارجع إلى هذا البحث ففيه توضيح وبسط لهذه المسألة المهمة.
    وهو بعنوان (تحرير مسائل الأحرف السبعة).
    https://vb.tafsir.net/tafsir57062/#.XURUFvLXKYm

    فقد ذكرت في ذلك البحث قول الإمام ابن جرير الطبري, ومكي بن أبي طالب, وأبي شامة, والحارث المحاسبي, وابن التين, وأبي جعفر الطحاوي.
    وذكرت هناك اعتراضين على هذا القول والجواب عنهما.
    الاعتراض الأول:
    أنه لو كان عثمان والصحابة ما أرادوا الإبقاء على بعض الاختلاف في القراءة لما كتبوا المصحف مجرداً من النقط والشكل, ولكتبوه منقوطاً مشكلاً واضحاً حتى لا يحصل الاختلاف, فإنهم لم يكونوا ليغفلوا عن أن كتابته هكذا من أقوى الأسباب للاختلاف في القراءة, وهذا من أبين الأدلة على أنهم أرادوا الإبقاء على الاختلاف الذي لا يتنافر مع رسم المصحف.

    الاعتراض الثاني:
    أنه قد ثبت زيادات أحرف في بعض المصاحف التي كتبت زمن عثمان t ووجهت للأمصار, وهذا مما يدل على أن مصاحف عثمان كتبت مراعية لاختلاف القراءات ومن أمثلة ذلك:
    (سارعوا) (وسارعوا) (يقول) (ويقول) (الذين) (والذين) (يرتد) (يرتدد)
    (وأوصى) (ووصى) (خيراً منها) (خيراً منهما) (فتوكل) (وتوكل) (بما كسبت) (فبما كسبت) (ما تشتهي الأنفس) (ما تشتهيه الأنفس) (ولا يخاف عقباها) (فلا يخاف عقباها), وغير ذلك.
    وقد ذكرت الجواب عن هذين الاعتراضين هناك بالتفصيل, والله الموفق والهادي.

    المسألة الخامسة:
    أن القراءات كلها متواترة.
    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن القراءات كلها متواترة, وهذا لا يعرف في عصر السلف والقراء.

    فما كانوا يذكرون ولا يشترطون إلا صحة القراءة وصحة سندها, وموافقتها للرسم وللعربية.
    ولم يعرف عند أحد من السلف والقراء اشتراط التواتر أو وصف القراءات بها إلا بعد ذلك, فلم يعرف إلا عند المتأخرين.

    قال ابن الجزري رحمه الله في "النشر" (1/13) : "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند, وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر, وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن, وهذا مما لا يخفى ما فيه... وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم, وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف"اهـ

    ولا بد أن يعلم أن القول بعدم تواتر القراءات لا يعني أن القرآن غير متواتر, فلا يمكن أن يقول أحد بعدم تواتر القرآن, فإنه متواتر تواتراً قطعياً لا ريب فيه عند أحد من المسلمين.
    فإن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان, وليسا شيئاً واحداً كما نص على ذلك كثير من أهل العلم.

    وكثير ممن يجزم بتواتر القراءات من المتأخرين ينظر إلى شهرة هذه القراءات عن القراء في كتب القراءات وتواتر بعضها عنهم, فيطلق القول بتواتر القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    ومن المعلوم أن القراء السبعة والعشرة وغيرهم إنما أخذوا قراءتهم من أفراد وبأسانيد ليست متواترة, وهذا أمر لا يجهله من عرف كيفية وصول القراءات إلى الأئمة العشرة رحمهم الله.
    فهذا الإمام نافع رحمه الله يقول: "قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته, وما شك به واحد تركته, حتى ألفت هذه القراءة".
    فقد قرأ على سبعين من القراء واختار من جميعهم قراءة, فهؤلاء السبعون لم تكن قراءتهم واحدة, فإن نافعاً ذكر أنه يختار من قراءاتهم, فقراءاتهم مختلفة إذاً.
    فقراءة نافع التي اختارها إذاً لم يقرأ بها كاملة بهذا الاختيار أحد قبله, فلا يمكن أن يقال: إن جميع تفاصيل قراءته متواترة.
    وهذا ورش قرأ على نافع ونقل قراءته إلى مصر ومن ثم انتقلت غرباً, مع أن ورشاً لم يوافقه أحد من الرواة عن نافع في قراءته, ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش.
    وهذا ابن كثير قرأ على عبد الله بن السائب ومجاهد, وقرأ عليه البزي وقنبل بواسطة.
    فأين التواتر؟!
    وهذا ابن عامر إنما أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب, والمغيرة قرأ على عثمان t كما قيل.
    فأين التواتر؟!
    قال ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/591) : "وقد ورد في إسناده تسعة أقوال, أصحها أنه قرأ على المغيرة بن أبي شهاب".
    وهذا أبو عمرو البصري أخذ عنه الدوري والسوسي بواسطة, فقد أخذا عن يحيى اليزيدي, عن أبي عمر البصري رحمه الله.
    فأين التواتر؟!
    وهذا حمزة رحمه الله أخذ عنه خلف وخلاد بواسطة, فقد أخذا عن سليم بن عيسى الكوفي, عن حمزة.
    فأين التواتر؟!
    وهذا حفص لم يقرأ إلا على عاصم, وعاصم إنما أخذ قراءته عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن عثمان وعلي رضي الله عنهما.
    فأين التواتر بين حفص وعاصم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
    وكذلك شعبة إنما قرأ على عاصم, عن زر بن حبيش, عن ابن مسعود رضي الله عنه.
    فأين التواتر؟!

    وإذا أردت التوسع والبسط في هذه المسألة ومعرفة الأدلة ونقول أهل العلم فانظر هذا البحث الذي كتبته بعنوان (تواتر القراءات بين الظن والتوهم والواقع اليقين).
    https://vb.tafsir.net/tafsir57131/#.XURUG_LXKYm

    وذكرت فيه قول جماعة كثيرة من أهل العلم والقراء كلهم ينصون على عدم تواتر القراءات.
    كالإمام الطوفي, وأبي شامة, وابن تيمية, والذهبي, وابن الجزري, والزركشي, والقسطلاني, وابن حجر, والشوكاني, وجماعة من المعاصرين.

    المسألة السادسة:
    أن اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة مسند كله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن الصفات المختلفة في أداء التلاوة عند القراء العشرة وغيرهم كله منقول بالسند عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا أمر لم يقل به أحد من القراء أو السلف وما عرف إلا عند المتأخرين.
    والأئمة القراء الكرام لم يقل أحد منهم أو من تلاميذهم: إن جميع تفاصيل طريقة أدائهم للقراءة قد أخذوها بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    فالقراء الكرام أنفسهم لم يدعوا ذلك أبداً, وعلى من يقول بذلك أن يأتي بحرف واحد من أولئك القراء يدل على أنهم نقلوا صفة الأداء بكل تفاصيلها بالسند كما نقلوا الحروف والكلمات والإعراب.

    والحقيقة أن الاختلاف في صفات أداء التلاوة إنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم, واختلاف لهجاتهم وأدائهم للحروف, وتأثرهم بطبيعة لهجات القبائل العربية.
    كأنواع المدود والغنن والإمالات والإدغامات والترقيقات والتفخيمات والتغليظات والروم والإشمام والهمز والتسهيل والبدل وغير ذلك.
    وهم بهذا التصرف والتنوع لا يخرجون عن اللسان العربي, فالقرآن إنما أنزل باللسان العربي المبين.
    وقد دل على ذلك براهين كثيرة جداً منها:
    أولاً:
    أنه لا يوجد أي دليل يدل على أن صفات الأداء بكل تفاصيلها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    غاية ما يذكره المتأخرون هو ما ورد عن السلف أن (القراءة سنة متبعة) وهذا قطعاً ليس المراد به ما يتعلق بصفات الأداء, إنما المراد بقولهم هذا ما يتعلق بالكلمات والحروف والإعراب ليس غير.
    وللتبين في هذه المسألة ينظر هذا البحث الذي كتبته بعنوان (هذا مراد السلف بقولهم: القراءة سنة متبعة).
    https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=352256

    ثانياً:
    نصوص وأقوال كثيرة صادرة عن القراء يفهم منها بوضوح أن الاختلاف بين القراء في طريقة الأداء إنما هو صادر عن اختلاف لهجاتهم وطرائقهم في القراءة وتنوع اختيارهم وتأثرهم بالأداء المتنوع بتنوع القبائل العربية ونحو ذلك.
    وهذه النصوص كثيرة جداً سأكتفي هنا بواحد فقط:
    قال ابن مجاهد في كتاب "السبعة" ص (113) عند ذكر الإدغام: "كان نافع لا يكاد يدغم إلا ما كان إظهاره خروجاً من كلام العرب، إلا حروفاً يسيرة".
    وبقية النصوص وهي كثيرة جداً مذكورة في موضع آخر كما سأشير في آخر المسألة.

    ثالثاً :
    انفراد بعض القراء أو بعض رواتهم بأنواع من الأداء لا يشاركهم أحد.
    هذا من أوضح الأدلة أيضاً, فلا يمكن أن ينفرد أحد القراء بشيء من الأداء وهو متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولماذا يزهد جميع القراء بهذا الأداء إلا فرداً واحداً من القراء, إنها لمفخرة وأي مفخرة أن يقرأ القارئ بأداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلماذا يا ترى يُجمِعون على الإعراض عنه سوى قارئ واحد من بين القراء العشرة.
    وإليك بعض النماذج والأمثلة على انفراد بعض القراء بأنواع من الأداء:
    انفراد أبي عمرو البصري بالإدغام الكبير.
    وانفراد خلف عن حمزة بإشمام الصاد الزاي في (الصراط) في جميع القرآن.
    وانفراد ابن كثير بوصل هاء الكناية بالياء أو بالواو.
    وانفراد ابن كثير وأبي جعفر بوصل ميم الجمع بواو, كمثل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم).
    وانفراد حفص بضم الهاء في (وما أنسانيه إلا الشيطان) في الكهف, وفي (وعاهد عليه الله) في الفتح.
    وانفراد ورش بمد حرف المد بعد الهمز نحو (آمنوا) و(الآخرة).
    وانفراد البزي بتشديد التاءات في الفعل المضارع المحذوف إحدى التاءين تخفيفاً، كقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث), وقوله: (ولا تفرقوا).
    وانفراد ورش بتغليظ اللامات.
    وانفراد الأزرق عن ورش بترقيق الراءات.
    وانفراد الأزرق عن ورش بمد حرف المد بعد الهمز مثل (آمنوا) و (جاء آل فرعون)
    وانفراد ورش بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها.
    وانفراد حمزة بالسكت على الساكن قبل الهمز.
    وغير ذلك كثير.
    فكيف ينفرد قارئ واحد دون عشرة قراء أو عشرين بأداء لا يشاركه فيه أحد, أتواصوا بذلك فقرأ كل راو بما وُكِلَ إليه من هذا الانفراد, أم اتفقوا صدفة على هجران أداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    إن هذا من أجلى البراهين لمن تأمله باحثاً عن الحق والصواب.

    رابعاً:
    كثرة الاختلاف والروايات والطرق والأوجه بلا حد ولا عد.
    فإن الطرق التي نُقِلَتْ بها الأوجه والاختلافات عدد كبير هائل, فكم سيكون بين تلك الطرق من الاختلافات في طريقة الأداء.
    فإن من المعلوم أن القراء المشهورين عشرة, ولكل قارئ راويان, ولكل راو طريقان, ولكل طريق طريقان أيضاً, فالمجموع ثمانون طريقاً.
    فمثلاً عاصم بن أبي النجود راوياه حفص وشعبة.
    وحفص راوياه عبيد بن الصباح وعمرو بن الصباح.
    وعبيد بن الصباح راوياه أبو الحسن الهاشمي وأبو طاهر, وهكذا
    هذا أصل الطرق, وإلا فالطرق المتشعبة عنها بالمئات.
    فقد جاء من طريق أبي الحسن الهاشمي من عشرة طرق, ومن طريق أبي طاهر من أربعة عشر طريقاً, وهكذا.
    مع أن القراء غير العشرة لا يحصون كثرة, والآخذين عن كل قارئ كذلك, بل أكثر وأكثر وهكذا, ولكن لم تحفظ كثير من قراءات أولئك, بل حدد قراءة اثنين عن كل قارئ, وهكذا.
    وهذا المدون نزر من بحر كما ذكر العلماء.
    قال ابن الجزري حينما فرغ من ذكر أسانيده التي تلقى بها القراءات في كتابه "النشر" قال (1/192) : "فهذا ما تيسر من أسانيدنا للقراءات العشر من الطرق المذكورة التي أشرنا إليها, وجملة ما تحرر عنهم من الطرق بالتقريب نحو ألف طريق".
    ومن المعلوم أن ابن الجزري لم يضمن النشر وطيبته كل القراءات والروايات والطرق الصحيحة, بل قد يكون ما ترك من بعض الطرق أمثل مما ذكر.

    خامساً:
    أن القراء وعلماء القراءات والمؤلفين في القراءات يستعملون القواعد والتعليلات والقياس كثيراً في أنواع كثيرة من الأداء.
    والنصوص على ذلك كثيرة جداً سأكتفي هنا بواحد فقط:
    قال الإمام مكي في "الكشف" (1/314) في ذكر علة تشديد التاء للبزي: "وعلته في ذلك أنه حاول الأصل, لأن الأصل في جميعها تاءان, فلم يحسن له أن يظهرهما فيخالف الخط في جميعها, إذ ليس في الخط إلا تاء واحدة, فلما حاول الأصل وامتنع عليه الإظهار أدغم إحدى التاءين في الأخرى, وحسن له ذلك وجاز اتصال المدغم بما قبله, فإن ابتدأ بالتاء لم يزد شيئاً".

    وبقية النصوص وهي كثيرة جداً مذكورة في موضع آخر كما سأشير في آخر المسألة.

    سادساً:
    كراهية بعض الأئمة والعلماء لأنواع من الأداء عند بعض القراء.
    فقد تواتر واشتهر إنكار كثير من أئمة الإسلام لأنواع من الأداء عند الإمام حمزة, أو الكسائي.
    وممن ورد عنهم التصريح بكراهية ذلك الإمام أحمد رحمه الله, وعبد الرحمن بن مهدي, وأبو بكر بن عياش, والحكم بن عتيبة, ويزيد بن هارون, وعبد الله بن إدريس, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن قتيبة, وبشر بن الحارث, ويعقوب بن شيبة, وعلي بن المديني, والساجي, والأزدي, وابن دريد, وحماد بن زيد.
    وقد ذكرت أقوالهم في موضع آخر كما سأشير في أخر المسألة.

    سابعاً:
    كثرة الاختلاف عن القراء أو عن رواتهم.
    فلا يكاد يوجد نوع أداء عن قارئ أو راو إلا ويختلف عنه الآخذون عنه, ويكفي لتتأكد من ذلك أن تتصفح كتاب "النشر" لابن الجزري, لترى بنفسك كثرة هذا الاختلاف, مما يؤكد ما نحن بصدده من أن جميع صفات الأداء ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هي من اختلاف القراء أنفسهم ومن رووا عنهم.

    ثامناً:
    ظهور ما يسمى بعلم التحريرات, وهو الذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات بين القراء وأتباعهم في الأداء, واعتراض بعض الباحثين والقراء على ذلك, مما يدل على أن الاختلاف بين القراء في الأداء مصدره الاختلاف الطبيعي بين القراء في لهجاتهم والتأثر بلهجات القبائل العربية المتنوعة وليس الإسناد.

    تاسعاً :
    ما ورد عن كثير من السلف رحمهم الله من هذ القرآن, والسرعة في قراءته, وليس هو ديدنهم وعادتهم, ولكنهم كانوا يفعلون ذلك أحياناً, وإنما يدل هذا على أنه من المتقرر عندهم أن أداء التلاوة اجتهاد مبني على السعة والتسهيل.

    عاشراً:
    أن القرآن أنزل على سبعة أحرف, أي: أذن وسمح للناس أن يقرؤوه على وجوه كثيرة متنوعة, وليس لذلك إلا غرض واحد, وهو التخفيف على الأمة, ومن المعلوم المتيقن أن المشقة في الالتزام بلهجة واحدة أهون بكثير من الالتزام بأداء واحد, فكيف يؤذن للناس أن يقرؤوا القرآن بلهجات مختلفة, ويقيدون بأنواع من الأداء محددة هي التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    هذا لا يمكن أن يكون, بل إن التقييد بصفات محددة من الأداء متعذر غاية التعذر, فقد خلق الله البشر مختلفين, لا يتأتى مع ذلك الاختلاف أن يتطابقوا في طريقة قراءتهم وأدائهم, وتأكيداً لذلك رويت الطرق الكثيرة والاختلافات والأوجه المتفاوتة.

    هذه عشرة أدلة.
    ومن أراد التوسع في هذه المسألة المهمة ومعرفة الأدلة بالتفصيل والقرائن والنقول فقد ذكرت في بحث مطول مفصل خمسة عشر دليلاً على ذلك تجده هنا بعنوان (اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (بحث في الأدلة والقرائن)
    https://ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=379124

    المسألة السابعة:
    أن صفات الأداء من الأحرف ومن القراءات.
    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن صفات الأداء كلها من الأحرف ومن القراءات وهذا أمر لم يعرف إلا عند المتأخرين
    ولم يقل به أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء أو السلف.

    والصواب أن طرائق الأداء كافة كالإمالة والإدغام والترقيق والتفخيم والتغليظ والروم والإشمام والتسهيل والإبدال وغير ذلك من سائر صفات الأداء ليست من الأحرف السبعة وليست من القراءات.
    فإن الأحرف السبعة فيها إبدال للكلمات أو الحروف من أصلها, أو تغيير للإعراب, أو اختلاف في اللفظ من غيبة وخطاب أو تذكير وتأنيث أو تخفيف وتشديد, أو تقديم وتأخير, أو إسناد الفعل إلى متكلم أو غائب أو مخاطب أو غائب أو إلى معلوم أو مجهول.
    أو الاختلاف في الأسماء في الإفراد أو الجمع, أو اختلاف اللفظ في الأسماء مثل (البخل) و(الطير) و(جبريل) و(ميكائيل) وغير ذلك من أنواع الاختلاف.

    أما الاختلاف في الأداء فهو اختلاف طبيعي في طريقة الكلام حتى لو لم يكن إلا حرف واحد وقراءة واحدة.
    فلو لم يكن ثَمَّ أحرف ولا قراءات فإنك ستجد من القراء من يميل لأن لسانه لا يعرف إلا الإمالة فلا يقدر إلا عليها, وستجد من يرقق أو يغلظ أو يفخم بعض الحروف, وستجد من يدغم ومن يمد ويغن وستجد الروم والإشمام وتسهيل الهمز, وستجد ضم ميم الجمع وصلتها وهكذا سائر صفات أداء القراءة.
    كما أنك لو كتبت كلاماً فقرأه مصري وشامي وعراقي ويمني ونجدي فإن الكلام واحد والحرف واحد, ولكن طريقة كل واحد ستختلف اختلافاً كبيراً في قراءة ذلك المكتوب, فدل هذا على أن طريقة الأداء فطرة إنسانية لا يمكن أن يتفق الناس على أداء واحد, حتى لو نزل القرآن بحرف واحد.

    قال الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (76) : "فما كان في هذه القراءات اللهجية من باب الأداء فإنه لا يغير الكلام, وليس أحد من أهل العلم على وجه الأرض يقول: إن الكلمة إذا نطقت ممالة فإنها تغاير نفس الكلمة إذا نطقت بغير إمالة, وكذلك سائر التغيرات اللهجية"اهـ

    ولنقف الآن على مثال واحد فقط يتعلق بمسألة الإمالة.
    فإنه من المعروف أن القراء حمزة والكسائي وأبا عمرو البصري اشتهروا بالإمالة دون قراء مكة والمدينة والشام.
    والسبب هو أن هؤلاء القراء عاشوا في بيئات أهلها لهجتهم الإمالة.
    يقول الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف" ص (321) : "أشهر من رويت عنهم الإمالة من القراء العشرة هم حمزة والكسائي وخلف, وهم من أئمة القراءة في الكوفة, أما قراء الحجاز أمثال ابن كثير المكي وأبي جعفر ونافع المدنيين فلا تعرف قراءتهم الإمالة إلا نادراً, ومعنى ذلك أن اللغة السائدة في الحجاز والقراءة التي كان قراء مكة والمدينة يقرؤونها هي بصورة عامة الفتح دون الإمالة, أي أن الإمالة لم تكن لغة الذين ولوا نسخ المصاحف"اهـ

    وقال الدكتور عبد الفتاح شلبي في كتابه "الإمالة في القراءات واللهجات العربية" ص (159) : "ونستطيع أن نستخلص أن المميلين من القراء عاشوا في بيئة عراقية (في الكوفة والبصرة)...
    وعلى ذلك نستطيع أن نرجع مذهب كل إمام من هؤلاء الأئمة إلى أحد عاملين أو هما معاً:
    الأول: شيوخه الذين قرأ عليهم وأخذ عنهم.
    الثاني: البيئات التي توطنوها وما شاع فيها من لهجة الفتح أو الإمالة".
    ثم أخذ في تطبيق ذلك على القراء قارئاَ قارئاً.
    ومما قاله في أبي عمرو البصري: "والأمر مع أبي عمرو البصري واضح, فهو تميمي أولاً وتظهر عنده ظهوراً واضحاً, ومذهبه في الإكثار من الإمالة يتسق هو وهذه البيئة..."اهـ

    ومن الأدلة على أن صفات الأداء والتي تسمى بالأصول ليست من الأحرف السبعة ولا من القراءات أن ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب وغيرهما حين ذكروا وجوه الاختلافات السبعة في القرآن لم يذكروا أي شيء يتعلق بالاختلاف في الأداء, كصلة الهاء والإمالة والإدغام والمدود وغير ذلك.

    ومن أراد معرفة هذه المسألة بتوسع أكثر فليرجع إلى البحث الذي كتبته بعنوان (تحرير مسائل الأحرف السبعة).
    https://vb.tafsir.net/tafsir57062/#.XURUKPLXKYm

    المسألة الثامنة:
    أن القراءة سنة متبعة في صفات الأداء كما هي سنة في الكلمات والحروف والإعراب.

    اشتهر عند المتأخرين عن عصر السلف والقراء أن معنى قول السلف رحمهم الله: (القراءة سنة متبعة) أنها سنة متبعة حتى في تفاصيل الأداء وصفة التلاوة والمدود ومقاديرها والإظهار والإدغام والإخفاء والغنن والتفخيم والترقيق, وغير ذلك مما هو من قبيل الأداء.
    وهذا المفهوم لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام أيِّ من السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.
    والحقيقة أن مقصود السلف رحمهم الله بقولهم: (سنة متبعة) ما كان يتعلق بالحروف والحركات وكيفية نطق الكلمات, وليس ما يتعلق بطريقة التغني والترتيل والأداء والتجويد, ويتبين ذلك جلياً من سياق كلامهم حين يقولون (القراءة سنة متبعة) وأنهم لا يريدون إلا هذا المعنى وليس للمعنى الآخر أي ذكر.
    (والقراءة سنة متبعة) بهذا المعنى أمر لا ريب فيه, فإن قراءة القرآن سنة متبعة, ليس لأحد أن يقرأ من تلقاء نفسه, ولا أن يقرأ كيفما اتفق, بل ليس له أن يقرأ إلا كما قرأ من قبله.
    ولا يمكن أن يستقل القارئ بمجرد المكتوب, فإن الرسم قد ينطق على أوجه كثيرة.
    ولو تتبعت أين يقولون تلك الكلمة لوجدتها دائماً بدون استثناء تذكر فيما يتعلق بالكلمات والحروف والإعراب, لا تذكر أبداً في غير ذلك من مد أو إدغام أو إمالة أو تفخيم أو ترقيق أو غير ذلك.
    والشواهد على ذلك كثيرة جداً.
    انظر على سبيل المثال قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في "البخاري" (4415): "(هَيْتَ لك) وإنما نقرؤها كما علمناها".
    وقول الكسائي: "لو قرأت على قياس العربية لقرأت (كُبره) برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر". انظر: "جامع البيان" للداني (1/85)
    وقول الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: (وبركنا عليه) في موضع (وتركنا عليه) في موضع أيعرف هذا؟ قال: ما يعرف، إلا أن يسمع من المشايخ الأولين". أخرجه ابن مجاهد في "السبعة" ص (48), والداني في "جامع البيان" (1/108)
    ولهذا تجد أن العلماء يذكرون دائماً أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.
    كقول ابن مجاهد رحمه الله: "ولم أر أحداً ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية يرخصون لأحد في أن يقرأ بحرف لم يقرأ به أحد من الأئمة الماضين، وإن كان جائزاً في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه أشد النهي، ويروون الكراهية له عمن تقدمهم من مشايخهم".

    وإذا رأيت اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فستجد أنه إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ, وليس ما له علاقة بطريقة الأداء.
    ولو استعرضت جميع ما ورد في كتب السنة كافة من القراءات والأحرف لرأيت أن جميع تلك الروايات بلا استثناء إنما تذكر ما يتعلق بالكلمات والإعراب والحركات والحروف وزيادتها أو نقصانها ونحو ذلك, ولا يوجد فيها ذكر لأي من صفات الأداء البتة.

    ولهذا تجد أن السلف كانوا يحذرون من تلقي القرآن ممن يأخذه من المصحف مباشرة دون تلقي خشية أن يخطئ في الإعراب والحركات أو أن ينطق الكلمة كما هي مكتوبة مع أنها لا تنطق كما تكتب.
    فكانت عنايتهم منصبة فيما يتغير به اللفظ, وليس في طريقة أداء اللفظ.

    ومن أراد التوسع في هذه المسألة وفهم كل ما يتعلق بها فليراجع هذا البحث الذي كتبته بعنوان (هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة)
    https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=352256

    فقد ذكرت فيه كثيراً من الأدلة والأمثلة والشواهد والنقول عن السلف والقراء فيما يتعلق بكون القراءة سنة متبعة.

    المسألة التاسعة:
    التشديد والتدقيق في شأن القراءة وعدم السهولة والتهوين.

    اشتهر عند كثير من المتأخرين عن عصر السلف والقراء التشديد والتدقيق في شأن أداء التلاوة بحجة الالتزام بقراءة القرآن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والقراء يقرؤونه.

    وهذا مخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون السلف والقراء وتلاميذهم رحمهم الله تعالى.
    فإن الواقع أن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سهلة جداً, وكذلك قراءة السلف والقراء.
    يدل على ذلك أمور كثيرة لمن تتبعها ورزق فهمها.
    وليعلم كل مسلم أن مراد الله ورسوله إنما هو التسهيل والتيسير في شأن قراءة القرآن, فكل أمر يتعارض مع هذا الأصل الراسخ العظيم فهو مناف لمراد الله ورسوله ومصادم له, وإن ظهر بصورة تعظيم القرآن أو بدعوى الحرص على قراءته قراءة سليمة.
    فإن القرآن أنزل على أحرف كثيرة, وما ذاك إلا من أجل التيسير على الأمة وأن لا يجد الحرج أو التضييق إليها سبيلاً, فالأمر موسع غاية السعة, وسهل غاية السهولة, فنزول القرآن على أحرف متعددة مظهر من مظاهر التيسير والتخفيف على الأمة.
    ففي هذا أوضح دلالة على أن الإلزام بأداء واحد وطريقة واحدة ورسوم محددة دقيقة وقوانين مقعدة مخالف لهذا الأصل, فهو مخالف للحكمة التي من أجلها أنزل القرآن على سبعة أحرف, ومناف لها غاية المنافاة.
    وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هون على أمتي) وقوله: (وإن أمتي لا تطيق ذلك).
    وما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مطالبة ربه بذلك إلا لعلمه أن ألسنة الناس تختلف ولهجاتهم تتفاوت, وقدراتهم تتباين, وأن حملهم على طريقة واحدة وحصرهم في وجه واحد في الأداء يشق عليهم غاية المشقة, وفيه إلغاء تام للحكمة التي من أجلها ورد هذا الحديث.

    ومما يؤكد هذا الأصل العظيم وهو التيسير في أمر القراءة تصرفات السلف رحمهم الله.
    فمن تأمل طريقة السلف رحمهم الله في تعاطيهم مع التلاوة تعلماً وتعليماً يرى هذا واضحاً كالشمس, فإنهم لا يدققون في أمر الأداء, بل غاية قصدهم ومرادهم القراءة الصحيحة الخالية من اللحن, والاتباع في القراءة على سنن الأولين, لأن القراءة سنة متبعة, لا يقرأ القرآن حسب رسمه ولا بكل ما تجيزه اللغة, ما كان إلا هذا قصدهم وما كان إلا هذا مرادهم.
    لا تجد لطريقة الأداء أي ذكر في جميع الروايات الصادرة من ذلك الجيل الفريد.
    إلا روايات يسيرة عامة يفهم منها الاهتمام بتوضيح التلاوة والاهتمام بحسن القراءة.
    وأما الاختلاف في طريقة الأداء التي يختلف الناس فيها بطبيعتهم فمتروك أمره لاختلاف طبائع الناس وطرائقهم في الأداء.

    ألا تعلم أن القارئ قالون عيسى بن ميناء الراوي المشهور عن نافع كان أصم يصحح من رؤيته للشفتين.
    قال ابن أبي حاتم: كان أصم يقرئ القرآن, ويفهم خطأهم ولحنهم بالشفة.
    قال: وسمعت علي بن الحسين يقول: كان عيسى بن ميناء قالون أصم شديد الصمم, وكان يقرأ عليه القرآن, وكان ينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ". انظر: "غاية النهاية" (1/853)
    وهذا يدل بكل وضوح أن أمر أداء التلاوة ميسر غاية التيسير, الغرض الأول منه عدم اللحن في القراءة.
    وقال أبو بكر بن مجاهد في "السبعة" ص (84) : "كان أبو عمرو حسن الاختيار سهل القراءة, غير متكلف, يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل".

    وروى الحلواني عن قالون أن نافعاً كان لا يهمز همزاً شديداً ويمد ويحقق القراءة ولا يشدد ويقرب بين الممدود وغير الممدود كما في "معرفة القراء الكبار" (1/245)

    وروى هارون بن موسى الفروي عن أبيه عن نافع بن أبي نعيم أنه كان يجيز كلما قرئ عليه إلا أن يسأله إنسان أن يقفه على قراءته فيقفه عليها.
    وعن الاعشى قال: كان نافع يسهل القرآن لمن قرأ عليه إلا أن يسأله. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/243)
    إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تشهد لهذا التسهيل والتيسير.
    والكلام في هذه المسألة قد ذكر بتوسع في موضع آخر في بحث سأكتبه في المنتدى قريباً إن شاء الله بعنوان (مدرسة التجويد (استمدادها- واقعها- المآخذ عليها).

    المسألة العاشرة :
    التحديدات الدقيقة في المدود وغيرها.
    اشتهر عند كثير من المتأخرين عن عصر السلف والقراء التحديدات الدقيقة في المدود والغنن والقلقة ومخارج الحروف وغيرها من صفات الأداء.
    فصار أمر التلاوة عند القراء في هذا الزمان وفي أزمان سالفة شاقاً مكلفاً فلا بد أن يتمرن القارئ على طريقة مرسومة محدد فيها كل شيء وليس للقارئ أي اختيار, فيغتال معه التغني الحر والتدبر والهناء بالقراءة, فإذا قرأ صار يراعي تلك القواعد بكل تفاصيلها فليس له هم إلا هذا.

    وهذا مخالف لما عليه الصحابة والتابعون والسلف والقراء وأصحابهم.
    فلم يكن هذا معروفاً عنهم, وإنما عرف عند من تأخر عنهم.
    ولو بحثت في النصوص الصادرة من القراء ورواتهم فإنك لا ترى شيئاً من ذلك.
    ولا يخفى على أحد اليوم ما يدور بين أهل التجويد من المجادلات الطويلة والخلافات والمشاحنات والردود في مسألة مخارج الحروف, وما يترتب عليها من الشحناء وإضاعة الجهود وتفلت الأعمار كل ذلك في غياب تام عن الغاية من القرآن, وكأن القرآن إنما أنزله الله تبارك وتعالى من أجل إتقان مخارج الحروف!

    والأصل أن الحروف العربية ينطقها صاحب اللسان العربي نطقاً صحيحاً، بل حتى الأعجمي في غالب الأحيان, وإنما قد يحتاج إلى معرفة مخارج الحروف أعجمي لا يخرج الحرف من مخرجه فيقول مثلاً: (الهمد الله) أو يقول: (الرهمن الرهيم) أو يقول: (صراط الذين أنأمت عليهم) أو يقول: (ويغيمون الصلاة) فهذا هو من يحتاج أن يتعلم المخرج الصحيح للحرف.
    أما ذو اللسان العربي فليس بحاجة إلى كثير من ذلك, كيف وهو يقرأ القرآن كما أنزل بلسان عربي مبين, دون زيادة ولا نقص, ولا تحريف ولا لحن, ولا إبدال حركة بأخرى.

    قال أبو حيان: "إنما ذكر النحويون صفات الحروف لفائدتين:
    إحداهما: لأجل الإدغام...
    والفائدة الثانية: وهي الأولى في الحقيقة بيان الحروف العربية حتى ينطق من ليس بعربي بمثل ما ينطق به العربي".

    وكذلك التدقيق في مسألة تحديد زمن المد, وهو أمر لا أصل له بالاتفاق
    كما قال الإمام مكي بن أبي طالب في كتابه "تمكين المد" ص (36) : "(فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين)
    والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هو تقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة لأن المد إنما هو فتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت وذلك قدر لا يعلمه إلا الله ولا يدري قد الزمان الذي كان فيه المد للحرف ولا قدر النفس الذي يخرج مع امتداد الصوت في حيز المد إلا الله تعالى, فمن ادعى قدراً للمد حقيقة فهو مدعي علم الغيب.
    وقد وقع في كتب القراء التقدير بالألف والألفين والثلاثة على التقريب للمتعلمين ... ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد.
    ألا ترى أن أبا إسحاق الزجاج قال: لو مددت صوتك يوماً وليلة لم يكن إلا ألفاً واحدة"اهـ

    وقال الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله في "جامع البيان" (1/342) بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: "وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة".

    وقال ابن الجزري في "النشر" (1/333) بعد أن ذكر مراتب المد عند القراء: "فهذا ما حضرني من نصوصهم, ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط، والمنضبط من ذلك غالباً هو القصر المحض, والمد المشبع من غير إفراط عرفاً، والتوسط بين ذلك".

    والكلام في هذه المسألة قد ذكر بتوسع في موضع آخر في بحث سأكتبه في المنتدى قريباً إن شاء الله بعنوان (مدرسة التجويد (استمدادها- واقعها- المآخذ عليها).
    أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الصدق والإخلاص والبحث عن مراد الله ورسوله للعمل به بنفس راضية مطمئنة, وأن يرينا الحق حقاً ويهدينا لقبوله واتباعه والله أعلم
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي.
    Alrajhi.sr@gmail.com

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •