السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخواني الكرام سوف أضع كلام للإمام الشوكاني رحمه الله في حكم من نوى الردة ولكنه لم يرتكبها قولاً أو فعلاً ، ونريد منكم أن تعلقوا على كلام الشوكاني رحمه الله
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله:(.. فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن عبد الوهاب النجدي كثر الله فوائد وهذا لفظه: عرض لي أشكال في قوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ما هو هذا المغفور هل هو شيئ يستقر في القلب ويريده الإنسان؟ أم هو خاطر يمر على القلب لا يستقر ولا يريده الإنسان فإن كان الأول فكيف حال من نوى الردة مثلاً ـ والعياذ بالله ـ ولم يرتكب موجبها من قول أو فعل وكذلك من عزم على فعل ذنب من الذنوب في حينه أو معلقاً على حصول شئ ونحو ذلك وكذلك من دخل في عبادة من صلاة أو صيام أو طهارة ثم نوى إبطالها والخروج منها من غير فعل يوجب البطلان ، فإن قلتم إنه يكفر ويأثم وتبطل عبادته فما تقولون في من نوى الطلاق أو العتاق بقلبه لكن لم يتكلم بموجبه وإن فرقتم في الحكم بين هذه المسائل فما وجه الفرق مع أن ظاهر الحديث لا يقتضي التفريق ... إلى أخر السؤال
فأجاب الإمام الشوكاني رحمه الله: أقول مستعيناً بالله ومتكلاً عليه مصلياً على رسوله وآله وصحبه: إن قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به " كما في حدث أبي هريرة الثانت في الصحيح يدل على غفران كل ما وقع من حديث النفس فإن لفظ " مـا " من ضيغ العموم كما صرح به أهل الأصول وأهل المعاني والبيان فهذا اللفظ في قوة " إن الله غفر لأمتي كل ما حدثت به " وهكذا ما ثبت في لفظ آخر من الصحيح من حديث أبي هريرة " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها " فإنه في قوة " عن كل ما حدثت به أنفسها " وهكذا بقية الألفاظ في الصحيح وغيره فإنها دالة على العموم مفيدة لعدم إختصاص التجاوز والمغفرة ببعض حديث النفس دون بعض.
ويؤيد ذلك الحديث الثانت في الصحيح : أنها لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير" سورة البقرة الآية: 284.
فإن هذه الآية لما نزلت اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا ، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ، فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأهل القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عزوجل:" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال: نعم " ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا " قال : نعم " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : نعم " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " قال: نعم.
هذا لفظ حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح وفي حديث ابن عباس الثابت في الصحيح أيضاً بلفظ :" قد فعلت" مكان " قال نعم " في هذه المواضع.
ولا يخفاك أن الحرج الذي رفعه الله في الآية الأولى ونسخه وغفره لأمته هو التسوية بين إبداء ما في النفس أو إخفائه ولفظ الآية يقتضي العموم لأن قوله: " أو تخفوه " الضمير يرجع إلى قوله: " ما في أنفسكم " ولفظ " مـا " من ضيغ العموم كما قدمنا لأنها الموصولة ثم رفع الله عنهم هذا التكليف ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به ولفظ " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " يقتضي العموم لأن " مـا " في " ما لا طاقة لنا به " هي الموصولة أوالموصوفة ، أي لا تحملنا الشئ الذي لا طاقة لنا به أو شيئاً لا طاقة لنا به فقال : نعم أو قال : قد فعلت ، وهكذا يصح أن تكون " مـا " في " ما حدثت به أنفسها " موصوفة كما يصح أن تكون موصولة أي الشئ الذي حدثت به أنفسها أو شيئاً حدثت به أنفسها .
وهكذا في " إن تبدوا ما في أنفسكم أو يخفوه " كما يصح أن تكوم " مـا " موصولة يصح أن تكون موصوفة ، أي إن تبدوا الشئ الذي في أنفسكم أو شيئاً في أنفسكم أو تخفوا الشئ الذي في أنفسكم أو شيئاً في أنفسكم فتقرر لك بهذا أن الشئ الذي تجاوزه الله لهذه الأمة من حديث النفس هو كل ما يصدق عليه حديث نفس كائناً ما كان سواء استقر في النفس وطال الحديث لها به أو قصر وسواء بقي زمناً كثيراً أو قليلا ً وسواء مر على النفس مروراً سريعاً أو تراخي فيها فالكل مما غفره الله لهذه الأمة وشرفها به وخصها برفع الحرج فيه دون سائر الأمم فإنها كانت مخاطبة بذلك مأخوذة به.
ولا يقال كيف خوطبت الأمم المتقدمة بمجرد الخواطر التي تمر بأنفسهم من حديث النفس مع كون ذلك من تكليف ما لا يطاق ولا تقدر على دفعه الطبائع البشرية لأنا نقول : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فظهر لك بهذا أن كل ما يصدق عليه حديث النفس فهو مغفور عفوُ متجاوز عنه كائناً ما كان على أي صفة كان فلا يقع به ردة ولا يُكتب به ذنب ولا تبطل به عبادة ولا يصح به طلاق ولا عتاق ولا شئ من العقود كائناً ما كان فإن الرجل الذي حدث نفسه بالردة ولم يعمل ولا تكلم قد غفر الله له ذلك الحديث الذي حدث به نفسه بالردة إلى غاية هي العمل والتكلم ، فإن حصل منه العمل وذلك بان يفعل فعلاً يقتضي الردة أو تكلم بما يقتضي الردة صار مرتداً ولزمته أحكام المرتدين.
وهكذا بقية ما سأل عنه السائل ومما يؤيد هذا ويدل عليه الحديث الثانت في الصحيح من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه : " إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله سئية واحدة"
وفي حديث أبي هريرة الثانت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عزوجل إذا همّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإن همّ بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة " ... إلى أن يقول رحمه الله فإن قوله: " وإن همّ بسيئة فلم يعملها " يدل على أن كل ما همّ به الإنسان أي همّ كان ، سواء كان حديث نفس أو عزم أو إرادة أو نية لا يؤاخذ به حتى يعمله كما يدل على ذلك إطلاق السيئة وعدم تقييدها ، وكما يفيده جعل العمل مقابلاً للهم فإنه يدل على أنه إذا لم يعمل السيئة فهو من قسم الهم ، وأيضاً يدل أعظم دلالة ذكر حرف الشرط في قوله : " فإن عملها " فإن هذه الصيغة تفيد أنه لا مؤاخذة بالسيئة حتى يعملها ، وبهذا يُرد على من جعل القصد والعزم وعقد القلب أموراً زائدة على مجرد الهم.
وأما ما روي عن بعض أهل العلم من الفرق بين ما استقر من أفعال القلوب وما لم يستقر وأنه يؤاخذ بما استقر منها لا بما لم يستقر وأن حديث : " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل " محمول على ما لم يستقر فلا يخفاك أنه لا وجه لهذا التأويل المتعسف والتفرقة بين ما يشمله الحديث ويدل عليه بإدخال بعضه تحت حكم العفو والتجاوز وإخراج بعضه عن ذلك الحكم وجعله مما لم يتناوله التجاوز عن حديث النفس مع كونه منه ، وفي هذا من التعسف ما لم يلجئ إليه ضرورة ولا قام عليه دليل .... ثم أطال الشوكاني في الرد على بعض التسأولات والإعتراضات إلى أن قال رحمه الله: وقد تبين بجميع ما ذكرنا جواب ما سأل عنه السائل كثر الله فوائده وأن الحرج المغفور لهذه الأمة هو ما كان من تكليف غيرهم من العقوبة على حديث النفس وما تخفيه الضمائر وما تهم به القلوب من غير فرق بين ما استقر وطال أمد لبثه وتردد في النفس وتكرر حديثها به وبين ما مر سريعاً وعرض عروضاً يسيراً فإنه مغفور لنا ومعاقب به من قبلنا لما قدمنا ذكره.
ولا يشكل على هذا التقرير الذي قررناه ما ورد في مواضع مخصوصة مما يدل على المؤاخذة بشئ من الأفعال القلبية من دون عمل ولا تكلم فإن ذلك يقصر على موضعه ويخص بسببه ويكون ما ورد منها مخصصاً لهذه العمومات التي ذكرناها ... إلى أخر) إنتهي رسالة " رفع الباس عن حديث النفس والهم والوسواس " للإمام الشوكاني