مقاصد الشريعة في الحج
هيفاء علوان

إن الله لم يخلقنا عبثاً ولن يتركنا سدى، إنما خلقنا لعمارة الأرض، واستخلفنا فيها، ولن نحقق الخلافة في الكون، إلا إذا أصبحنا خير أمة أخرجت للناس، ولن نصبح خير أمة، إلا إذا زكينا هذه النفس الأمارة بالسوء، والوسيلة الوحيدة لتزكية الأنفس هي تطبيق تعاليم الإسلام، وأداء أركانه كما علمنا إياها رسول الله، وأن نحرص على ألا نبتغي من عملنا إلا وجه الله - عز وجل -، قال - سبحانه -: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (العنكبوت: 45)، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم -: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً"، وقال أيضاً في ركن الصيام: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"، فالصيام وأداء الصلاة لا تجزئان عن العبد إذا أمعن في الفحش وإيذاء المسلمين، ولما سئل: عن المرأة التي كانت تكثر من صيامها وصلاتها ولكنها تؤذي جيرانها، أجابهم: "هي في النار".

لا رفث ولا فسوق:
وفي فريضة الحج قال - سبحانه -: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (البقرة: 197)، وقال الرسول –صلى الله عليه وسلم- : "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، وذكر الإمام الغزالي أن من آداب الحج أن يرفق بالأصحاب، وعلى الأمير الرفق بالقوم والنظر في مصالحهم، وينبغي للمسافر تطييب الكلام وإطعام الطعام وإظهار محاسن الأخلاق.
وقال البارئ - عز وجل - في الزكاة مخاطباً حبيبه محمداً: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم 103(التوبة)، فطهارة النفس وتزكية الروح والجوارح هما غاية المنال ومنتهى السؤال، فأداء أركان الإسلام قبوله مرهون بأن يكون المسلم ورعاً، ويتمنى كل خير لعباد الله، وأن ينأى عن المسّ بشعور أخيه المسلم وإلا لم يَحُزْ عمله القبول، فكم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا التعب، مادامت صلاته لم تنهه عن المنكرات واقتراف السيئات.

أحب الأعمال وأفضلها:
وقد خرّج الطبراني بإسناده عن عمر – رضي الله عنه - مرفوعاً: "أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن؛ كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته"، وخرّج أيضاً بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "إن أحب الأعمال إلى الله - تعالى - بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم"، وخرّج أيضاً بإسناده عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - عن النبي قال: "إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم".
ويرى المستقرئ الفاهم لهذه الأحاديث أن القاسم المشترك بينها هو إبراز الجانب المعنوي منها الذي يهدف إلى توحيد الكلمة ونبذ كل ما يؤدي إلى الخلاف والشحناء، حتى إن النبي اعتبر أنه من أفضل الجهاد أن يدع المسلم الناس اتقاء شره.
ففي الحديث الشريف، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: أي الناس أفضل؟ فقال: "مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله تعالى"، قال: ثم من؟ قال: "من يدع الناس اتقاء شره" (رواه البخاري ومسلم والحاكم، إلا أنه قال: سئل أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: "الذي يجاهد بنفسه وماله"، كأن البارئ - عز وجل - وضع للمسلمين هذا الشعار ليهتدوا به في معاملاتهم، فالله الله في أحبائكم، بني جلدتكم إخوانكم في الدين والعقيدة.

تقوى القلوب:
والحج شعيرة من أعظم شعائر هذا الدين العظيم شرعها الله - سبحانه - ليطهر عباده من جميع ما اقترفته أيديهم من ذنوب وآثام وما علق بهم من مغريات الحياة وملوثاتها، إن فريضة الحج هي استجابة لنداء رباني مهيب حكيم: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى" كل ضامر يأتين من كل فج عميق 27(الحج)، فلا بد من تعظيمها ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب 32(الحج)، أرأيتم كيف جعل ربنا التقوى وتزكية النفوس هي الرابط الأهم في جميع العبادات؟
ولنعلم أن السعي للخير والبعد عن الفحشاء هما الغاية والمطلب الأسمى الذي إن تحقق التأمت جراح الخصومات وأصبح المسلمون على أتقى قلب رجل واحد، يحنو كبيرهم على صغيرهم، وغنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وعندها يصبح للإسلام كلمته وترتفع رايته وتعلو ولا يعلى عليها.

ولا جدال في الحج:
وإن من تعظيم هذا الفريضة العظيمة أداءها كما أراد الله - سبحانه - رجاء أن يقبلها، وكذلك اجتناب كل ما يخل بها أو يفسدها أو ينقص من أجورها، قال - تعالى -: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (البقرة: 197).
لا جدال في الحج، ولا بعد الحج، فالمسلم طاهر النفس والسريرة يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يحزن ويأسى إذا شاكت أخاه شوكة، أو نابته مصيبة، ويتورع أن يتشفّى ويجول ويصول في عرض أخيه ويكذب ويراوغ، ومن عجبٍ أنك ترى المسلم يقطر منه التواضع في قوله وفعله، ولكن إن وضعته على المحك، تراه أبعد ما يكون عن الإيمان ومخافة الواحد المنان، ينسى أن مآل المسلمين إلى خالقهم وهو الحكم العدل - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
لابد للمسلم الحاج وغير الحاج أن ينأى بنفسه عن الفسوق من غيبة ونميمة وكذب وغش وخداع ومماراة وخصام ومنازعة، وما ذلك إلا لحرمة المسلم عند الله تعالى؛ لأنها تثير الشر وتوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، قال قتادة: "العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أظلم منه فيما سواهن، وإن كان الظلم في كل حال عظيماً وشنيعاً".
فريضة العمر: والحج الذي هو أيام معدودات امتحان للمسلمين واختبار لهم، هل يصبرون على ترك المنكرات في الحج بل وفي سائر أيامهم؟ فالخالق سوف يُعين من حسنت طويته وصدقت نيته، يقوي عزيمته ويشد بأسه، قال - تعالى -: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69(العنكبوت).
فالعبادات كلها مدرسة، العبادة اليومية منها والسنوية، وفريضة الحج فريضة العمر، وهي مدرسة نزكي فيها أنفسنا في أيامها المعدودات التي نعيشها، والباقيات إلى أن نلقى وجه ربنا.
ولابد أن نؤدي المناسك بروح من الأخوة والوحدة والتآزر، نكون كالجسد الواحد نسير إلى غاية واحدة، وفي قلوبنا جذوة الإيمان التي اتقدت في قلوب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونكون كسلفنا الصالح يحب بعضنا بعضاً، ويعذر بعضنا بعضاً، بل ولا نرى في إخواننا إلا ما يرضي ربنا.

خير صاحب:
وقد ورد أنه ترافق "بُهَيم العجلي"، وكان من العابدين البكّائين، مع رجل تاجر غني في الحج، فلما كان يوم خروجهم للسفر بكى "بُهيم" حتى قطرت دموعه إلى الأرض وقال: تذكرت بهذه الرحلة رحلتي إلى الله، ثم علا صوته بالنحيب، فكره رفيقه التاجر منه ذلك، فلما قدما من الحج جاء رجل ليسلم عليهما، فبدأ بالتاجر فسلم عليه وسأله عن حاله مع "بهيم" فقال له: والله ما ظننت أن في الخلق مثله، كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معسر وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وهو شيخ ضعيف وأنا شاب، ويطبخ لي وهو صائم وأنا مفطر، ثم خرج من عنده فدخل على "بهيم" فسلم عليه وقال له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: خير صاحب، كثير الذكر لله، طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة، متحمل لهفوات الرفيق، فجزاه الله عني خيراً.
فيا الله تقبل منا أعمالنا وحجنا وصيامنا وقيامنا، ولا تضرب بها وجوهنا، واجعلنا من عبادك الصالحين..آمين