الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
زغلول النجار
من أقوال المفسرين :
في تفسير قوله (تعالى) : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} " [الأنعام:1].ذكر الطبري (رحمه الله) في مختصر تفسيره ما نصه : (الحمد لله) : الشكر لله وحده دون غيره (وجعل الظلمات) : ظلمات الليل، وجعل بمعنى : وأظلم ليلها، وأنار نهارها، (والنور) نور النهار (يعدلون) يشركون، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته به.
ذكر ابن كثير (يرحمه الله) ما نصه : يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة، وحامدا لها على خلقه السماوات والأرض قرارا لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، فجمع لفظ الظلمات، ووحد لفظ النور لكونه أشرف... ثم قال تعالى : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده، وجعلوا له شريكا وعدلا، واتخذوا له صاحبة وولدا، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
وجاء في تفسير الجلالين (رحم الله كاتبيه) ما نصه :"الحمد"وهو الوصف بالجميل ثابت"لله"وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به، أو : الثناء به، أو : هما؟ احتمالات أفيدها الثالث [ أي للإيمان والثناء معا] قاله الشيخ الجلال المحلي في تفسير أول سورة الكهف (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين "وجعل" خلق "الظلمات والنور" أي : كل ظلمة ونور، وجمعها دونه لكثرة أسبابها، وهذا من دلائل وحدانيته"ثم الذين كفروا"مع قيام هذا الدليل "بربهم يعدلون" يسوون به غيره في العبادة.
وذكر صاحب الظلال (رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه: إنها اللمسات الأولي.. تبدأ بالحمد لله، ثناء عليه، وتسبيحا له، واعترافا بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء... بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى... الخلق، وتبدأ بالخلق في أضخم مجالَيّ الوجود... السماوات والأرض... ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود... الظلمات والنور... فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك... لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون، بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن (رحم الله كاتبه) ما نصه : "الحمد لله" إعلام بأنه تعالى حقيق بالحمد والثناء، مستوجب لهما، لخلقه السماوات والأرض، على ما هما عليه من بديع الصنع والإحكام، وخلقه الظلمات والنور، أو ظلمات الليل ونور النهار، منفعة للعباد، وآيات للمتفكرين، ودلائل على وحدانيته وقدرته وتدبيره، "وجعل" أي أحدث وخلق "ثم الذين كفروا" أي ثم الذين كفروا مع قيام هذه الدلائل الظاهرة يسوون بربهم غيره مما لا يقدر على شيء من ذلك، فيكفرون به، أو يجحدون نعمته، فأي شيء أعجب من ذلك وأبعد عن الحق!، من العدل بمعني التسوية، وقوله "بربهم" متعلق بقوله "يعدلون"، أو ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه، وينصرفون إلى غيره من خلقه، فيعبدون ما لا يستحق العبادة، من العدول...
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم (جزاهم الله خيرا) ما نصه : الثناء والذكر الجميل لله، الذي خلق السماوات والأرض، وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد بقدرته وعلى وفق حكمته، ثم مع هذه النعم الجليلة يشرك به الكافرون، ويجعلون له شريكا في العبادة!.
وجاء في صفوة التفاسير (جزي الله كاتبها خيرا) ما نصه : بدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بالحمد لنفسه تعليما لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال وإعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد فلا ند له ولا شريك، ولا نظير ولا مثيل ومعني الآية : احمدوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف الإنعام والإكرام الذي أوجد وأنشأ وابتدع خلق السماوات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة بما يدهش العقول والأفكار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار "وجعل الظلمات والنور" أي وأنشأ الظلمات والأنوار وخلق الليل والنهار يتعاقبان في الوجود لفائدة العوالم بما لا يدخل تحت حصر أو فكر، وجمع الظلمات لأن شعب الضلال متعددة، ومسالكه متنوعة، وأفرد النور لأن مصدره واحد هو الرحمن منور الأكوان..{ م الذين كفروا بربهم يعدلون} أي ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم....
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام :1].
من الدلالات العلمية للآية الكريمة :
أولا : خلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة:
فقد أدرك العلماء حقيقة توسع الكون في مطلع القرن العشرين، وأدى إدراك تلك الحقيقة إلى الاستنتاج الصحيح بأن كوننا بدأ خلقه من نقطة متناهية الضالة في الحجم، ومتناهية الضخامة في كم المادة والطاقة، وأن هذه النقطة انفجرت فتحولت إلى سحابة من الدخان الذي خلقت منه الأرض والسماوات.
ومع توسع الكون تم تبرده من مئات البلايين من الدرجات المطلقة إلى حوالي الثلاث درجات المطلقة تقاس اليوم على جميع أطراف الجزء المدرك لنا من السماء الدنيا، تخلقت المادة ونقائضها، ومختلف صور الطاقة وأضدادها على مراحل متتالية يحددها العلماء في النقاط التالية :
(1) عصر الكواركات والجليونات:
وقد استمر لجزء من مائة ألف مليون جزء من الثانية بعد عملية الانفجار العظيم وفيه خلقت اللبنات الأولية للمادة كما خلقت أضدادها من الدخان الكوني وذلك من مثل الكواركات وأضدادها النيوترينوات ونقائضها.
وكان الدخان الكوني كثيفا مظلما معتما، وكانت الجاذبية قوة منفصلة رابطة أجزاء هذا الدخان الكوني، بينما انفصلت القوة الشديدة عن القوة الكهربية الضعيفة، ويعتقد أن أعداد هذه الجسيمات الأولية كان يفوق أعداد نقائضها وإلا ما وجد الكون، أو أن إرادة عليا فصلت بين تلك الجسيمات ونقائضها حتى تقوم السماوات والأرض بأمر الله. وكانت هذه الفترة فترة تمدد ملحوظ وتوسع مذهل للكون.
(2) عصر اللبتونات:
وقد استمر إلى جزء من مليون جزء من الثانية بعد عملية الانفجار العظيم، وفيه تمايزت اللبتونات (وهي أخف اللبنات الأولية للمادة مثل الإليكترونات والنيوترينوات وأضدادها عن الكواركات، كما تمايزت البوزونات، وانفصلت القوة الضعيفة) عن اتحاد القوي المعروف باسم القوة الكهربية الضعيفة.
(3) عصر النيوكليونات وأضدادها:
وقد استمر إلى225 ثانية بعد عملية الانفجار العظيم، وفيه اتحدت الكواركات مع بعضها البعض لتكون النيوكليونات وأضدادها من مثل البروتونات ونقائضها، والنيوترونات ونقائضها، وكانت الطاقة على قدر من الضعف لا يسمح بتكون النيوكليونات وأضدادها على نطاق واسع وإلا ما وجد الكون.
(4) عصر تخلق نـوى ذرات العناصر:
وقد استمر في الفترة من225 ثانية إلى ألف ثانية بعد عملية الانفجار العظيم، وفيه تكونت الديوترونات الثابتة وهي تنتج عن ترابط بروتون مع نيوترون، ومع تكوينها بدأت عملية الاندماج النووي في تكوين نوى ذرات الإيدروجين. وباتحادها تكونت نوى ذرات الهيليوم وبعض نوى الذرات الأثقل حتى وصلت نسبة الإيدروجين إلى %74، والهيليوم إلى%25، ونوى بعض العناصر الأثقل وزنا إلى%1.
(5) عصر تخلق الأيونات:
وقد استمر في الفترة من ألف ثانية إلى عشرة تريليونات ثانية بعد الانفجار العظيم، وفيه تكونت أيونات كل من غازي الإيدروجين والهيليوم، واستمر الكون في الاتساع والتبرد.
(6) عصر تخلق الذرات:
ويمتد في الفترة من عشرة تريليونات ثانية إلى ألف تريليون ثانية بعد عملية الانفجار العظيم، وفيه تكونت ذرات العناصر، وترابطت بقوي الجاذبية وأصبح الكون شفافا.
(7) عصر تخلق النجوم والمجرات:
وقد امتد في الفترة من ألف تريليون ثانية (أي نحو32 مليون سنة من سنينا الراهنة) بعد عملية الانفجار العظيم إلى اليوم (أي نحو عشرة بلايين من السنين)، وفيه تخلقت أغلب العناصر المعروفة لنا (وهي أكثر من مائة وخمسة عناصر) بعملية الاندماج النووي في داخل النجوم حتى تكون عنصر الحديد في داخل المستعرات والمستعرات العظمى، وتكون العناصر الأعلى وزنا ذريا من نوى ذرات الحديد باصطيادها للبنات الأولية للمادة المنتشرة في صفحة السماء.
ولقد سبق القرآن الكريم هذه المعارف العلمية بأربعة عشر قرنا وذلك بقول الحق (تبارك وتعالى) : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَ ا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
وقوله (عز من قائل): {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
وقوله (سبحانه وتعالى): {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].
وهذه المراحل تؤكد الحكمة والتدبير الفائقين في خلق السماوات والأرض لأن أدني مفارقة في الحساب كان من الممكن أن تبطل بناء الكون، وذلك يشمل حسابات الكم والكيف، ودرجات الحرارة، ومعدلات التوسع، وانضباط التفاعلات، خاصة أن العملية كلها ناتجة عن انفجار الجرم الأولي، وأن من طبيعة الانفجار أن يؤدي إلى الدمار وإلى بعثرة كل شيء وتناثره، أما انفجار يؤدي إلى بناء كون بهذه السعة، وضخامة أعداد الأجرام، وانضباط حركاتها، وسرعات دورانها، وعلاقاتها ببعضها البعض، لابد وأن يكون قد سبقه وزامنه وتبعه من دقة التقدير، وإبداع التكوين، وحسن الرعاية ما أوصله إلى ما نراه في الأنفس والآفاق من حولنا، وهو ما يشهد للخالق العظيم بطلاقة القدرة، وكمال الصنعة، ودقة التقدير...!!.
ثانيا: خلق الظلمات والنور من الأدلة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة والمستوجبة الحمد لله (تعالى):
من الراجح علميا أن كوننا بدأ بحالة من الدخان الداكن الكثيف التي استمرت على مدي ثلاثين مليون سنة من سنينا الحالية على أقل تقدير، ثم بدأ الكون من بعدها في التحول من الشفافية القادرة على استقبال الضوء الناتج عن عملية الاندماج النووي في داخل النجوم، والتي استمرت على مدي فترة تقدر بعشرة مليارات من السنين على أقل تقدير إلى زماننا الحالي، وإلى أن يشاء الله (تعالى). ولما كان ضوء النجوم ـ في غالبيته ـ غير مرئي تعددت الظلمات في كوننا على النحو التالي :
(1) الظلمة الأولية للكون:
وقد استغرقت الفترة من بعد عملية الانفجار العظيم وحتى بدايات عملية الاندماج النووي، وتقدر بنحو الثلاثين مليون سنة من سنينا الحالية. وقد تميزت هذه الفترة بالكثافة العالية لمادة الكون في صورها الأولية، وبالعتمة الكاملة، والإظلام التام.
(2) الظلمة الحالية للكون:
بعد عملية الانفجار العظيم بنحو الثلاثين مليون سنة تخلقت النجوم وبدأت عملية الاندماج النووي الحراري بداخلها، ولا تزال مستمرة إلى يومنا الحالي بعد أكثر من عشرة مليارات من السنين وإلى أن يشاء الله (سبحانه وتعالى)، وبذلك بدأت النجوم في إرسال أضوائها إلى فسحة السماء وإن كانت أغلب تلك الأضواء غير مرئية لتكونها من سلسلة متصلة من الأمواج الكهرو ـ مغناطيسية التي تشمل موجات الراديو بمختلف أطوالها، والأشعة تحت الحمراء، وأطياف الضوء المرئي، والأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية، وأشعة جاما، وهذه الموجات الكهرومغناطيسية لا تختلف فيما بينها إلا في تردداتها وأطوال موجاتها، ويمتد الطول الموجي للطيف الكهرومغناطيسي بين عدة كيلومترات لموجات الراديو (الموجات اللاسلكية) وبين جزء من بليون جزء من المليمتر لأشعة جاما، أما الأشعة البصرية فتتراوح أطوال موجاتها بين0،01 ميكرون ومائة ميكرون (والميكرون=0،001 ملليمتر)، وتضم موجات الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية. وتميز عين الإنسان من أطياف الضوء المرئي : الأحمر (وهو أطولها وأقلها ترددا) ثم البرتقالي، فالأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي والبنفسجي (وهو أقصر موجات الطيف المرئي وأعلاها ترددا)، وهذه الموجات لا ترى بوضوح إلا في طبقة النهار وهي جزء يسير من الغلاف الغازي للأرض المحيط بنصفها المواجه للشمس لا يتعدى سمكه مائتي كيلومتر، وفيه يتم انعكاس هذه الأطياف بواسطة هباءات الغبار وقطيرات الماء، واختلاطها مع بعضها البعض لتعطينا نور النهار الأبيض الذي يتمتع به أهل الأرض وأهل كل كوكب له غلاف غازي مماثل. وعلى ذلك فإننا إذ تجاوزنا طبقة النهار فإننا نري الشمس قرصا أزرق في صفحة سوداء شديدة الإظلام وهذه هي ظلمة الكون الحالي التي وصفها الحق (تبارك وتعالى) بقوله (عز من قائل) : {وَلَوْ فَتَحْنَا عليهمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15,14].
وقوله (سبحانه) في وصف السماء : {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعـات:29].
هذه ظلمة ليل السماء، وهي ظلمة تزداد حلوكة عندما تلتقي مع ظلمة ليل الأرض، ويحدثها دوران الأرض حول محورها أمام الشمس فيتقاسم سطح الأرض الليل والنهار، الليل في نصف الكرة الأرضية غير المواجه للشمس، والنهار في نصفها المواجه للشمس.
(3) ظلمة أعماق البحار والمحيطات:
من الثابت علميا أن قيعان البحار العميقة والمحيطات تغرق في ظلام دامس، وذلك لأن أعماقها تتراوح بين مئات الأمتار،11034 مترا، بمتوسط يقدر بنحو3795 مترا، وأشعة الشمس لا يمكنها الوصول إلى تلك الأعماق أبدا، فمن الثابت أن نطاق الأوزون في الغلاف الغازي للأرض يرد أغلب الموجات فوق البنفسجية إلى خارج نطاق الأرض، بينما تعكس السحب نحو30% وتمتص نحو19% من باقي أشعة الشمس، وبذلك لا يصل إلى سطح الماء في البحار والمحيطات أكثر من 51% من أشعة الشمس الساقطة عليها وبمجرد سقوط هذه النسبة تعكس الأمواج السطحية%5 منها، وتستهلك 35% من الأشعة تحت الحمراء في تبخير الماء وفي عمليات التمثيل الضوئي التي تقوم بها بعض النباتات البحرية.
وعند نفاذ الجزء المتبقي من أشعة الشمس إلى داخل كتلة الماء فإنه يتعرض للعديد من عمليات الانكسار، والتحلل إلى أطيافه المختلفة التي تمتص بالتدريج حسب أطوال موجاتها بدءا بالأحمر وانتهاء بالبنفسجي.
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي من أشعة الشمس يمتص على عمق يصل إلى 100م تقريبا من مستوى سطح الماء في البحار والمحيطات، ويعرف هذا النطاق باسم النطاق المضيء ويستمر 1% فقط من أشعة الشمس إلى عمق 150م ، %0،01 إلى عمق 200 م في الماء الصافي الخالي من العوالق، ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تماما على عمق لا يكاد يصل إلى الألف متر تحت مستوى سطح البحر حيث لا يبقى من ضوء الشمس شيء يذكر (جزء واحد من عشرة تريليونات جزء )، هذا إذا لم تحل الأمواج العميقة حيلولة كاملة دون وصول الضوء إلى تلك الأعماق، ويبدأ تكون تلك الأمواج على عمق 40 م تقريبا من مستوى سطح البحر، وقد تتكرر على أعماق دون ذلك.. ويصف القرآن الكريم ظلمة قيعان البحار العميقة بقول الحق (تبارك وتعالى) : " {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور:40].
(4) ظلمات الأرحام:
ويصفها الحق (تبارك وتعالى ) بقوله: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6].
وقد فسرت هذه الظلمات الثلاث بظلمة البطن، يليها إلى الداخل ظلمة الرحم، يليها إلى الداخل ظلمة المشيمة بأغشيتها السلوية وما بها من سائل مخاطي.
(5) ظلمة القبر كنموذج لظلمة كل مكان مغلق في باطن الأرض أو على سطحها:
من السنة النبوية الشريفة أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة، وأن يشق اللحد في جانب القبر جهة القبلة ويوضع فيه جسد الميت على جنبه الأيمن ووجهه تجاه القبلة، ثم على اللحد ينصب الطوب اللبن (الطوب النيئ) ثم يملأ القبر بالرمال أو التراب، ويرفع قدر شبر عن الأرض. وقد يكتفي بشق حفرة في وسط القبر تبني جوانبها باللبن، ثم يوضع فيها الميت ويسقف عليه بشيء مما لم يدخل النار من مثل الخشب ثم تهال عليه الرمال أو التراب إلى ارتفاع شبر فوق الأرض، إلا أن اللحد أولى.
وبعد إغلاق القبر تكون الظلمة فيه كاملة ، ومنها استعاذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ).
وتشبه ظلمة القبر ظلمة الكهوف، والمغائر (المغارات) والمناجم، والحفر الأرضية العميقة، وكذلك ظلمة المخابئ، والأماكن المغلقة إغلاقا محكما.
أما نور النهار الأبيض الجميل فلا يرى إلا في الجزء السفلي من الغلاف الغازي المحيط بنصف الأرض المواجه للشمس إلى سمك مائتي كيلومتر فقط حيث يتوافر القدر الكافي من هباءات الغبار وقطيرات الماء وجزيئات الغازات الهوائية التي تعكس وتشتت وتخلط موجات الطيف المرئي حتى تعطي لنا ذلك النور الأبيض المبهر الذي يميز النهار، والذي يصفه الحق (تبارك وتعالى) بقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا. وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1-3].
وأشار إلى رقة طبقة النهار بقوله (عز من قائل): {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يــس :37].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
فسبحان الذي أنزل في محكم كتابه قوله الحق : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
فجمع الظلمات لتعددها وسيادتها في الكون، وأفرد النور لخصوصيته ومحدوديته في الوجود ، وعدم تعدده، وهي حقائق لم تدرك إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي (صلى الله عليه وسلم) وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لما يجزم بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وبأن الرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.