صراع بين الواقع وروح التفاؤل


السؤال

أكتب هذه الأسطر وقلبي يعتصر لما وصلت إليه حال الأمة من الفرقة، والوهن، وعدم الاتفاق في أي شأن من شئون الدين، أصبح بعضهم يفتي بما هو مخالف للسنة والشريعة!، الأمر الذي يجعلنا نتساءل هل نحن على الحق؟

وبأي هذه الفتاوى المتضاربة نأخذ، أنتظر منكم ما ينير لي الطريق؟!

الجواب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أبدأ الجواب للأخت السائلة بحديث أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ))، وقَالَ اِبْن بَطَّال: "جَعَلَ اللَّه فِي فِطر النَّاس مَحَبَّة الْكَلِمَة الطَّيِّبَة، وَالْأُنْس بِهَا، كَمَا جَعَلَ فِيهِمْ الِارْتِيَاح بِالْمَنْظَرِ الْأَنِيق، وَالْمَاء الصَّافِي، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكهُ وَلَا يَشْرَبهُ"، وقَالَ الْحَلِيمِيّ: "وَإِنَّمَا كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبهُ الْفَأْل؛ لِأَنَّ التَّشَاؤُم سُوء ظَنّ بِاَللَّهِ - تعالى - بِغَيْرِ سَبَب مُحَقَّق، وَالتَّفَاؤُل حُسْن ظَنّ بِهِ، وَالْمُؤْمِن مَأْمُور بِحُسْنِ الظَّنّ بِاَللَّهِ - تعالى -عَلَى كُلّ حَال".

وفي ضوء ذلك فإن المسلم يحسن به التفاؤل، والنظر إلى الجوانب الإيجابية، وهي كثيرة -بحمد الله تعالى -، ولا ينبغي المبالغة في استحضار السلبيات، وتضخيمها، والاقتصار عليها فقد روى أبو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ))، قَالَ: الْخَطَّابِيُّ: "مَعْنَاهُ لَا يَزَال الرَّجُل يَعِيب النَّاس، وَيَذْكُر مَسَاوِيَهُمْ، وَيَقُول: فَسَدَ النَّاس، وَهَلَكُوا، وَنَحْو ذَلِكَ..، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ –أَيْ: أَسْوَأ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْحَقهُ مِنْ الْإِثْم فِي عَيْبهمْ، وَالْوَقِيعَة فِيهِمْ-، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْعُجْب بِنَفْسِهِ، وَرُؤْيَته أَنَّهُ خَيْر مِنْهُمْ". وَاَللَّه أَعْلَم.

وهذا لا يعني عدم النقد البناء والنُّصح المُصَحِّح، ولا يمنع ذلك من ذكر الأخطاء بقصد معالجتها، وفي كل الأحوال يظل حسن الظن مع حسن العمل أمران مهمان لتحقيق الأمل.

وأما السؤال: هل نحن على حق؟ والقول بعدم وجود من يتبع الحق إلا القليل، فإن المسلمين على حق في أصل اعتقادهم بالإسلام فهم موحدون لله، ومؤمنون بخاتم أنبياء الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومؤمنون بالقرآن كتاب الله المحفوظ، وأصل النجاة في الآخرة عمادها: شهادة التوحيد واعتناق الإسلام وقد روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عن رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟، أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ)) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه.

وأما ما ورد في السؤال من أوضاع اختلاف الأحوال والأعمال، من تجويز الغناء، وظهور النساء، وقلة الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتساهل في الصلاة، ونحو ذلك...، فإن هاهنا أمورًا مهمة:

1- هناك أمور محرمة الأدلة على حرمتها صريحة وصحيحة، فهذه لا يُقبل من أحد التساهل بشأنها.

2- ولذلك فإن المسائل الفقهية فيها خلافات كثيرة بين الفقهاء بسبب ذلك، فقد يكون الدليل واحداً لكن فهم الفقهاء له يختلف، وليس هذا بمستغرب، فقد اختلف الصحابة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر على أحد منهم، رغم أن كلا منهم فعل فعلا مختلفاً عن الآخر، وبيّن - صلى الله عليه وسلم - أن المجتهد في الوصول إلى حكم الله في مسألة من المسائل هو واحد من اثنين:

إما أن يصيب الحق فيكون له أجران.

وإما أن يخطئ فيكون له أجر.

وقد أجمعت الأمة على ذلك، يقول ابن تيمية –رحمه الله-: "فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه؛ بل ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ مثل الخطأ في الفروع العملية" [الكيلانية ص77].

والحق في المسائل الفقهية هنا ليس يقينياً دائماً بالنسبة للمجتهد، بل هو يجتهد في الوصول إليه من خلال ما لديه من أدلة إلى ما يغلب على ظنه أنه هو الحق، وبالتالي يختلف الفقهاء في ذلك اختلافاً كبيراً.

3- أرسل الله -تعالى- رسوله إلى الناس كافة، وجاءت نصوص الكتاب والسنة لتبين للناس أوامر الله - تعالى - ونواهيه، ومما جاء في كتاب الله - تعالى -: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [سورة هود: 118]، فطبيعة البشر الاختلاف، فأفهامهم مختلفة، وخلفياتهم مختلفة، وطريقة تناولهم للأمور مختلفة.

أما القول بأنه: "قد أصبح بعض العلماء يفتي بأمور الدين بما هو مخالف للسنة والشريعة.."، فكيف تسمينهم بالعلماء، ثم تقولين بأنهم يفتون بما يخالف السنة والشريعة، وهنا ملحظ مهم وهو عدم ذم العلماء، والنيل من أعراضهم.

ومن المهم القول: هل السنة والشريعة هي ما ألفناه من فتاوى، أو آراء، أو مذهب فقهي؟ وهل العلماء هم فقط من نعرفهم؟ أو هم فقط من هم في بيئتنا، ويفتون بما يوافق رأينا؟ اللهم لا، إن السنة والشريعة أكبر من ذلك.

هؤلاء العلماء ما داموا علماء، وقد ثبت لهم هذا الوصف؛ فإنهم بلا شك يعتمدون على أدلة شرعية معتبرة من وجهة نظرهم، فلا يجوز لنا أن نطلق عليهم تهمة المخالفة للسنة والشريعة، فلسنا أولى بالصواب منهم.

أما إذا لم نقتنع بفتواهم، ولسنا من أهل الاجتهاد، فعلينا أن نأخذ بفتوى من نثق في دينه وعلمه دون انتقاص لغيره، فلا يجوز لنا أن نخوض في أعراض المخالفين من العلماء؛ فلحوم العلماء مسمومة.

وأما ما ذكرت من البلاء الواقع في الأمة: فإنه من قدر الله - تعالى -علينا، وجزء كبير منه إنما هو بسبب رفضنا لتقبل بعضنا البعض، وفقدان البعض لأدب الخلاف المعتبر شرعاً، مما أوجد التنازع والتفرق والفشل والله - تعالى - يقول: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].

وعلينا أن نسعى جاهدين لتغيير المنكرات التي نستطيع تغييرها: سواء في الاعتقاد، أو في العبادات، أو في الأخلاق، شريطة أن تكون منكرات متفق على أنها منكرات، وليس هناك مجال للاجتهاد المعتبر فيها، ونحتسب في ذلك الأجر عند الله.

علينا أن نوجه جهودنا لتغيير واقعنا كل في مجاله، وفي محيطه، بدل أن ننشغل بتخطئة الآخرين، وتفسيقهم، واتهامهم، فالكل في النهاية يرجو رضى الله والجنة، والكل يجتهد في خدمة الدين بما يراه موافقاً لأمر الله، وسنة نبيه، ومقاصد شريعته الغراء.

نسأل الله - تعالى - أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وهو الهادي إلى سواء السبيل.