تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: فصلٌ فيما لا يُفتَى به

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي فصلٌ فيما لا يُفتَى به

    فصلٌ فيما لا يُفتَى به
    خالد بن عبد اللّه المزيني

    جرى الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على أنْ لا تلازُم بين الراجح والمُفتَى به، فيمكن أن يصححوا قولاً لكنْ لا يُفتُون به، كما أنهم قد يُفتون بغير المصحَّح فقهاً، وهذا ضربٌ من السياسة شرعيّ.
    وهم حين يُفتون بالمرجوح لا لأنهم يفضِّلون ضعاف الأقاويل، ويرفعون بها رأساً، كلا؛ بل لما للأحوال من اقتضاءات، وللظروف من ملابسات، على حدِّ قول ابن الرومي:
    ما كلُّ مثلومِ الكلامِ بساقطٍ ** قد يُقتنى سيفٌ وفيه تفلُّلُ
    ويُنظر قول صاحب المراقي: "وذِكرُ ما ضعف ليس للعمل...الخ".
    ومن أُتيحت له مجالسة الكبار من أهل العلم علِمَ أنهم يُباحثون في مجالسهم الخاصة، ما لا يفصحون به في الدروس العامة، وهذه من هاتِه.
    على أن ذلك خلاف الأصل؛ إذ الأصل عند أهل السنة أن "لا استسرار في الدين"، كما عبر أبو محمد بن حزم في فاتحة المُحلّى، وبالأخصِّ فيما يتعلق بالحلال والحرام.
    وينظر أيضاً تعليق الذهبي على أثر "رُبَّ كيسٍ عند أبي هريرة لم يفتحه، يعني من العلم". [السير (2/597)].
    قلت: هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح والذم، أما حديث يتعلق بحل أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى، وفي صحيح البخاري قول الإمام علي - رضي الله عنه -: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله".
    فأما من فعل ذلك اتباعاً للهوى فقد ركِبَ الصعبَ، وأورد نفسه مورِد الهلكة ـ عياذاً بالله تعالى ـ، قال الشاطبي: "صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة، فضلاً عن زماننا". اهـ [الموافقات (4/134)] وما بعدها من الصفحات مهم فلينظر.
    وهذه نماذج من ذلك الضرب، أوردها للتمثيل، لا للتقرير، فإنه يمكن مناقشة بعضها، لكن اجتماعها يدل على تأصُّلها عند الأئمة والفقهاء.
    وذلك لأسباب: منها:
    أ ـ فسادُ الناس، فإنهم إذا فسدوا كان استصلاحهم بشيءٍ من الحزم مطلوباً.
    ب ـ إِنسُهُم بالقول المعروف المشهور، ونفرتهم من الشاذ المنكور، ولو انتهضَ له دليلٌ، والحالُ أنه معارَضٌ بمثله، غير أن المشهور أحب إليهم ما قامت عليه الأدلة، واستطرقته الفقهاء، وجرى به العمل، فإن الراسخين لا يهتمون بالأقاويل الصارخة، ولا يحتفلون بالألفاظ الهائلة، اللاتي يستوحش منها أوساطُ أهل الإسلام [انظر للفائدة: مقدمة ابن قتيبة لأدب الكاتب].
    وفي البخاري عن عليٍّ -رضي الله عنه- بهذا المعنى: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟
    ج ـ ضبط العوام [انظر: السير؛ للذهبي (8/93، 94)].
    فإن العوام لا يُبَثُّ إليهم إلاّ ما يستصلحهم، ولا يُتاح لهم المضنون به على غير أهله، ومن تبسَّطَ إليهم في كل شيءٍ كان مستهجناً عند أهل العلم، ولما لقي رؤبةُ النسَّابةَ البكري قال له هذا الأخير: "إن للعلم آفةً ونكَداً وهجنة؛ فآفته نسيانه، ونكده الكذب فيه، وهجنته نشره عند غير أهله". [الجليس؛ للجريري (3/63)].
    فما بالك بمن ينشر الأقوال الشاذة في الصحف والمجلات السيارة.
    وهذه نماذج مما لا يُفتى به عند بعض الفقهاء، كنت جمعت نماذج منها:
    أ ـ تضمين الأجير المشترك:
    صحَّحَ الشافعية عدم تضمينه، لكنهم لا يُفتون به.
    قال الشيرازي في ذكر الخلاف في المسألة: "... والثاني: لا ضمان عليه، وهو قول المزني، وهو الصحيح، قال الربيع: كان الشافعي ـ - رحمه الله - ـ يذهب إلى أنه لا ضمان على الأجير، ولكنه لا يفتى به لفساد الناس". اهـ.
    ب ـ حكم استبدال الوقف:
    ذهب أبو يوسف من الحنفية إلى الجواز، وقال قارئ الهداية: العمل على قول أبي يوسف.
    لكن! قال ابن نجيم نقلاً عن صدر الشريعة في شرحه الوقاية [البحر الرائق (5/223)]:
    "وفي شرح الوقاية: أن أبا يوسف يجوّز الاستبدال في الوقف من غير شرطٍ، إذا ضعفت الأرض من الريع، ونحن لا نفتي به، وقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يُعدّ ولا يُحصى، فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة إلى إبطال أكثر أوقاف المسلمين، وفعلوا ما فعلوا". اهـ، ويُنظر أيضاً حاشية ابن عابدين (4/388).
    ج ـ قراءة الجنب آيةً على سبيل الدعاء:
    الأصل عند الحنفية منع الجنب من قراءة القرآن ـ كالجماهِر ـ، لكن قالوا: يُمنع إذا قرأ على قصد أنه قرآن "أما إذا قرأه على قصد الثناء أو افتتاح أمرٍ لا يُمنع في أصح الروايات". اهـ [البحر الرائق (1/209)].
    قال ابن نجيم: "وفي العيون لأبي الليث: ولو أنه قرأ الفاتحة على سبيل الدعاء، أو شيئاً من الآيات التي فيها معنى الدعاء، ولم يُرد به القراءة فلا بأس به". اهـ، ثم قال: "وذكر في غاية البيان: أنه المختار، لكن قال الهندواني: لا أفتي بهذا، وإن روي عن أبي حنيفة". اهـ.
    قال ابن نجيم: "وهو الظاهر في مثل الفاتحة، فإن المباح إنما هو ليس بقرآن". اهـ.
    د ـ من حلف أن يمشي إلى بيت الله:
    سُئل أحمد عمّن حلف أن يمشي إلى بيت الله فقال: "إذا كان عقده عقد يمين فكفارة يمين". اهـ [مسائل ابنه صالح].
    وفي موضع آخر قال صالح: "وسألت أبي عن رجل حلف بالمشي إلى بيت الله ثلاثين حجة، قال: لا أفتي بشيء، قلت: فإلى أي شيء كنت تذهب فيه، قال: إلى كفارة اليمين، ولكن قد لهج الناس به، فلا أحب أن أجيب فيه". اهـ.
    وفيه أيضاً: "قلت: فرجلٌ قال: الحل عليه حرامٌ، أعني به الطلاق، قال: طلقت امرأته ثلاثاً، قلت: ثلاثاً؟، قال: نعم، ولكن لا أفتي به". اهـ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي رد: فصلٌ فيما لا يُفتَى به

    أحسنت، فاستصلاح الناس غاية منشودة.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •