الحشمة والبعد عن الاختلاط

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الشرع الحنيف قد سدَّ منافذ الشر، وأغلق أبواب الفتن، ومن أهم تلك الأبواب التي أغلقها باب الاختلاط، حيث هو من أعظم أبواب الفتن قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم (2742)؛ لذا تجده يحرص على تحريم الاختلاط بين الجنسين، ومنه النظر واللمس لغير المحارم؛ لما في ذلك من الفساد العريض، ولأنهما ذريعة للوقوع في الإثم.
ثم إن الشارع الحنيف لم يبح الاختلاط حتى في مواطن العبادة التي من شأنها أن تؤمِّن الفتن، بل استمر الحكم كما هو عليه فعن أسيد الأنصاري رضي الله عنه أن الرجال اختلطوا مع النساء في الطريق وهم خارجون من المسجد فقال صلى الله عليه وسلم لِلنساء: ((اسْتَأْخِرْنَ؛ فإنه ليس لَكُنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريقَ، عليكُنَّ بحافَّات الطريق)) فكانت المرأة تلتَصق بالجدار حتى إن ثوبهَا ليتعلق بالجدار من لصوقها به[1]، وهذا التحريم إنما هو حرصاً على التوقي من مواطن الهلكة.
والمتأمل لمنهج القرآن في التحريم يجد أنه قد يحرِّم الشيء ويحرِّم الخطوات المؤدية إليه أيضاً لئلا تكون سبباً في الوقوع فيه؛ ومن هذا قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (الإسراء:32) فإن الله عز وجل لم يقل فيه: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} (الإسراء:32) لبيان أن الزنا تكون له مقدماته بالعين واليد كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل ابن آدم أصاب من الزنا لا مَحَالَة، فالعين زناها النظر، واليد زناها اللمس، والنفس تهوى وتحدث، ويصدِّق ذلك ويكذبه الفرجُ))[2].
وإذا ما اقترن الشيء المحرم بوقوعه في مكان معظم كبلد الله الحرام، أو زمن معظم كشهر الصيام، فإن الإثم يكون أدهى وأعظم؛ لذا قال تعالى عن بيته المعظم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (الحج:25) أي: من يَهُمُّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، وقوله: {بِظُلْمٍ} أي: عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول كما ورد عن ابن عباس: هو التعمد، وقال العَوْفي: عن ابن عباس: بِظُلْمٍ: هو أن تَستحلَّ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب له العذاب الأليم، وقال مجاهد: بِظُلْمٍ: يعمل فيه عملاً سيئاً، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَبُ البادي فيه الشرَّ إذا كان عازماً عليه؛ وإن لم يوقعه"[3].
لذا كانت خطورة الاختلاط وعدم الحشمة في بلد الله الحرام من جانبين: لذاته، ولما يتعلق به.
وعليه فإن الأمر إذن بحاجة إلى حذر ووقاية شديدين؛ لئلا يكون هذا سبباً إلى الفاحشة، ومن ثم التعرض لعذاب الله تعالى.
ونحن إذ نحذر جميع المسلمين من أن يقعوا في أي عمل يغضب الله تعالى في جميع الأزمان والأماكن والأحوال؛ فإننا نخص منهم من كانوا في بلده الحرام؛ وهذا الزمن الفاضل (أشهر الحج)؛ وهذا الفعل الفاضل (الحج وما يتبعه من أعمال)، ونحثهم أن يفعلوا كما كان يفعل المسلمون في الماضي، ففي صحيح البخاري "باب طواف النساء مع الرجال" أي: "هل يختلطن بهم، أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن"[4]، وفيه ما قال ابن جريج: قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعدَ الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب.
قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكنَّ يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة - ناحية، والمراد اعتزالها عنهم - من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك، وأبَتْ، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كنَّ إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن، وأُخرِج الرجالُ. رواه البخاري (1539).
وما يحصل من طواف الرجال مع النساء اليوم ناتج عن الزحام والكثرة الكاثرة التي لا يستطاع دفعها تجعل الأمر ضرورة لا تدخل تحت المقدور، وقد أجاب الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى على سائل يسأل حول الاختلاط في الحرم والازدحام، وحال الطواف والصلاة ومرور النساء، فقال: "لا حرج عليك ولا على غيرك من الطائفين والمصلين في المسجد الحرام من مرور النساء أمامكم، أو وجودهن في الصف، أو غير ذلك بسبب الزحمة، وعدم القدرة على السلامة من ذلك، وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التغابن:16)، وقال سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة:286)، وقال عز وجل في سورة المائدة بعد ما ذكر التيمم: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة:6)، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يصلي في المطاف، والطُوَّاف أمامه من الرجال والنساء، وقد نص أهل العلم على ما ذكرنا"[5].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "طواف النساء مع الرجال لا بأس به، ولا يمكن منعه خصوصاً في أوقاتنا هذه؛ لأن كل امرأة مع محرمها، ولو مُنع النساء من الاختلاط مع الرجال لضاعت النساء، وحصل من الشر أكثر، - ولكن لو جُعلن كما تفعل عائشة حُجرة، يعني بعيدات عن الرجال؛ لكان هذا طيب، وكانوا هنا يفعلونه في الأيام التي ليس فيها زحام شديد، يجعلون النساء على الجانب، وهو عمل طيب، ولو يقال لهن: لا تطفن إلا في الليل مثلاً فهذا صعب، وفي وقتنا هذا الأمر أصعب، لو قلنا الرجال وحدهم، والنساء وحدهم؛ لحصل فتنة كبيرة كل إنسان يستطيع أن يصيد المرأة بدون من يعارضه، ولكن على الإنسان أن يتقي الله عز وجل، ويتجنب زحام النساء بقدر المستطاع، وعلى المرأة أيضاً أن تنتبه لأولئك الفجار الذين يتصيدون النساء في المطاف - والعياذ بالله -، وتجد الرجل يلتصق بها من أول الطواف إلى آخر الطواف - نسأل الله العافية -، وكم ضُبط من قضية؟[6].
لكن هل يصح - تفادياً لهذا الأمر - توكيل النساء؟

يقول بعض الناس: إن النساء يحتجن إلى التوكيل من أجل الزحام والاختلاط بالرجال.
وعلى هذا يرد العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "هذا لا يبيح لهن التوكيل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسودة بنت زمعة إحدى نسائه، وكانت ثبطة ثقيلة؛ لم يأذن لها أن توكل، بل أذن لها أن تدفع من مزدلفة في آخر الليل قبل حطمة الناس، ولو كان التوكيل جائزاً لأمرها أن تبقى في مزدلفة حتى تصلي الفجر ثم تتبع، وتوكل على الرمي لو كان التوكيل جائزاً.
ثم نقول: مسألة الزحام ورادة حتى في الطواف، وفي السعي، بل هي في الطواف والسعي أخطر وأعظم؛ لأن الناس في الرمي ليس اتجاههم واحداً، هذا يأتي، وهذا يذهب، ثم إنهم يكونون على وجه عَجَلٍ، ليس فيه تؤدة ولا تأمل، بخلاف الطواف فإن اتجاههم واحد، ويكون مشيهم رويداً رويداً، فالفتنة فيه أخطر أن يكون فيه الفساق - والعياذ بالله - ينال ما ينال من المرأة بملاصقتها في حال الطواف من أوله إلى آخره، فالخطر فيه أعظم، ومع ذلك ما قال أحد إن للمرأة مع الزحام في الطواف أن توكل من يطوف عنها، وعلى هذا فيجب على الحاج - فرضاً كان أم نفلاً - أن يرمي بنفسه، فإن كان عاجزاً كامرأة حامل، ومريض وشيخ كبير لا يستطيع؛ فإنه يوكل في هذه الحال"[7].
وعلى الجميع تقدير هذه الضرورة بقدرها، والحذر كل الحذر من التساهل واللامبالاة، أو الاتكال على أن المكان مقدس، فهناك من لا يرعى المقدسات، ولا يتورع عن المحرمات، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
أعاذنا الله والمؤمنين والمؤمنات أجمعين.. آمين.
[1] رواه أبو داود برقم (5272)، وحسنه الألباني.

[2] رواه أحمد برقم (8392)، وصححه الأرناؤوط.


[3]تفسير ابن كثير (5/411).


[4]فتح الباري لابن حجر رحمه الله (5/281).


[5] مجموع فتاوى ابن باز رحمه الله (30)جزءاً (29/324).


[6]شرح كتاب الحج من صحيح البخاري للعثيمين رحمه الله (1/90)


[7] فتاوى نور على الدرب (7/368).


منقول