الحج شعار التوحيد والعبودية

حج بيت الله الحرام هو عبادة عظيمة، وقربة يتقرب بها العبد لربه سبحانه، وقد فرضه الله على عباده لما علم فيه من غايات نبيلة، ومنافع عديدة دينية ودنيوية، ولما اشتمل عليه من مقاصد جليلة، ومن أعظم هذه المقاصد:
توحيد الله عز وجل بالعبادة، واجتناب جميع أنواع الشرك سواء في مجال العبادة، أو في مجال الطاعة
يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل، وكله دعوة إلى التوحيد والاستقامة على دينه، والثبات على ما بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله، والإخلاص له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره"[1].
وإذا ما تأملت أخي ذلك وجدته ظاهراً جلياً؛ فإن الله سبحانه لما فرض الحج على عباده أرشدهم إلى إخلاص العبادة له فقال سبحانه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران:97)، حيث قدمت الآية الجار والمجرور الذي يدل على الحصر أي حصر عبادة الحج لله وحده لا شريك له؛ ومما يؤكد هذا المعنى قوله سبحانه: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (سورة البقرة:196)، والأمثلة على هذا كثيرة.
وتتأمل آيات الحج في سورتي البقرة والحج فترى أنها ترشد إلى التوحيد، ونبذ الشرك؛ فترى قول الله فيها: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} إلى قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (سورة الحج:26-27)، وقال: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (سورة الحج:30-31)، وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (سورة الحج:34)، وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (سورة الحج:37)، فجميع هذه الآيات ترشد إلى تحقيق التوحيد، وإفراده سبحانه بالعبادة والطاعة، والذبح والمناسك، وتنفِّر من الشرك الذي هو ضد التوحيد، وتشبِّه حال من يشرك بالله كرجل سقط من السماء بقوة فتخطفته الطير، وتقطعته إرَباً إرباً، أو هوت به الريح في مكان سحيق!.
وهذا هو المعلَم الأول من معالم تحقيق التوحيد والعبودية لله في الحج.
المعلم الثاني من معالم التوحيد والعبودية لله في الحج: ما يحصل من أحكام الإحرام في الميقات من تجرد لله رب العالمين
بخلع الحاج ثيابه المعتادة، ولبسه تلك الثياب التي تعدُّ مظهراً من مظاهر الحج، ثم ما يبتدئ به المحرم من الإهلال، ورفع الصوت بالتلبية فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) رواه البخاري (1448)، ومسلم (2029)، وهنا تعليق رائع للعلامة ابن القيم رحمه الله على هذا الحديث حيث يقول: "قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة، وفوائد جليلة:
إحداها: أن قولك "لبيك" يتضمن إجابة داع دعاك، ومنادٍ ناداك.
الثانية: أنها تتضمن المحبة، ولا يقال: لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه.
الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية.
الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل.
الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص، ولهذا قيل: إنها من اللب وهو الخالص.
السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى.
السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله، ولهذا قيل: إنها من الإلباب وهو التقرب.
الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعاراً للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك.
التاسعة: أنها شعار التوحيد ملَّة إبراهيم الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها ومقصودها.
العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة، وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة، ثم قال: الأخيرة: أن كلمات التلبية متضمنة للرد على كل مبطل في صفات الله من الجهمية المعطلين لصفات الكمال التي هي متعلق الحمد، فهو سبحانه محمود لذاته، ولصفاته ولأفعاله"[2].
المعلم الثالث: الطواف بالبيت
يقول الله جل جلاله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (سورة البقرة:125)، وقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (سورة الحج:26).
المعلم الرابع: الصلاة خلف مقام إبراهيم
: حيث شُرع للمصلي أن يقرأ بسورتي "الكافرون" و"الإخلاص" وهما من أعظم السور التي توضح مفهوم التوحيد، والولاء والبراء، والحب في الله، والبغض في الله.
المعلم الخامس: السعي بين الصفا والمروة
: فإنه عبادة، وركن من أركان الحج، ولا يكون إلا لله وحده لا شريك له؛ جاء في حديث جابر رضي الله عنه الذي بيَّن حج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبدأ بما بدأ الله به))، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد الله وكبره، وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) رواه مسلم (1218)، ثم دعا بعد ذلك ثلاث مرات.
المعلم السادس: التنقل بين المشاعر من منى إلى عرفة ثم إلى مزدلفة وبعدها إلى منى حيث تتجلى معاني العبودية والانقياد والتسليم لشرع الله تعالى،
ففي عرفات يقف المسلم وسط ذلك الزحام موحداً لله، مهللاً وملبياً، منقاداً لأمر الله في أمره بذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له))[3].
المعلم السابع: مخالفة المشركين في الدفع من عرفات
حيث يكون بعد غروب الشمس، وقد كان المشركون يدفعون قبل غروب الشمس، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديهم ودفع بعد الغروب.
وكذلك مخالفة المشركين في الإفاضة من مزدلفة حيث أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزدلفة بعد صلاة الفجر قبل أن تشرق الشمس، وقد كان المشركون لا يفيضون إلا بعد طلوع الشمس.
المعلم التاسع: ذبح الهدي
، والذبح لله من التوحيد، أما الذبح لغيره أياً كان فهو من الشرك الأكبر كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (سورة الكوثر:2)، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة الأنعام:162).
هذه بعض معالم الحج التي يتحقق فيها التوحيد وإخلاص العبودية لله وحده، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الصالحين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز (5/135).

[2] يراجع حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (5/177-178).

[3] رواه الترمذي (3585) ومالك في الموطأ (449)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1102).
منقول