عوامل النصر والهزيمة

نظرةٌ واحدة في تاريخ المسلمين تؤكِّد أن ما لحق بالأمة - ولا يزال يلحق بها - إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقَّة.. وأن كلَّ أمة تستسلم للنوم؛ فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها، سواء كان هذا (السوط) عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل.
"فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في العقيدة والاخلاق ..كما أنه لا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس، والغَلَبَة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس؛ ليكون كلُّ نصر نصراً لله ولمنهج الله، وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله؛ وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية"
فالجماعة المسلمة التي تريد أن تنتصر على عدوِّها لابد وأن تتزوَّد بمادة الإعداد، وهذه المادة لا تقتصر على آلة الحرب؛ بل يتحتم عليها التعبئة الكاملة، تلك التي أشارت إليها آيات غزوة (أحد) في سورة (آل عمران)؛ حيث لم تقتصر على معالجة الجماعة المسلمة في ميدان المعركة فقط؛ بل في ميدان النفس البشرية والحياة الواقعية، "ومن ثمَّ عرَّج السياق القرآني على الربا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السرَّاء والضرَّاء فحضَّ عليه، وعرَّج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان، والتطهُّر من الخطيئة بالاستغفار والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها كلها مناط الرضوان، كما عرَّج على مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغُلُول، وعلى البذل والتحذير من البخل، في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات، عرَّج على هذا كله؛ لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع".
كما أننا لو تأملنا في هذه الغزوة: هل هي نصرٌ أم هزيمة؟ نجد اختلاف معايير النصر والهزيمة عند المؤرِّخين والعسكريين؛ فالمؤرِّخون يقوِّمون النصر والهزيمة على ضوء ما لحق الجيشين من الخسائر؛ فمن كانت خسارته أكثر فهو المهزوم، أما العسكريون فيقوِّمون النصر والهزيمة في المعارك على ضوء الأهداف التي تحقَّقت لكلٍّ من المتحاربَيْن؛ فالذي حقَّق أهدافه هو المنتصر، وإن كانت خسارته في القتلى والجرحى أكثر!
لقد أجمع المؤرِّخون على اعتبار أن نتيجة أحد نصرٌ للمشركين؛ لكن الحقائق العسكرية لا تتَّفق مع ما أجمع عليه المؤرِّخون؛ فإن فشل المشركين في القضاء على قوات المسلمين بعد إحاطتهم بقواتهم المتفوِّقة يعدُّ اندحاراً لهم، وإن نجاح المسلمين في الخروج من تطويق المشركين يعدُّ نصراً لهم
وحتى نقف على التفسير الصحيح لهذه الحالة (الوهن)؛ فإنه لابد من أن نتعرَّف على أمور:
أولها: التعرف على الحكمة في قضاء الله وقدره: فالله عزَّ وجلَّ - بعلمه الشامل، وحكمته البالغة - قدَّر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجوداً إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، كما أن علينا أن ندرك طبيعة هذا الصراع، وأنه حربٌ ضروسٌ، لا يخمد لهيبها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين والمنافقين، الذين يزعمون أن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحريٌّ بالعالم أن يوحِّد رايته، ويلتقي في الطريق، تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية، وعلى المعتقدات أن تبقى حبيسة دور العبادة والمحاريب، ولا تتعداها!!
لكنَّ أمة التوحيد لا تقبل هذا ابدا فهي تعي - تماماً - الدور المناط بها، وتوقن أن ما قدَّره الله هو الخير، ويحوي في طيَّاته الرحمة والنعمة، وإن كان ظاهره الألم والمشقَّة؛ فهي أمةٌ تتوكَّل على مولاها - سبحانه - آخذةً بالأسباب، وتعي آثار أسماء الله الحسنى؛ فتتعبَّد ربها بموجبها، وتظهر في القلوب ثمراتها؛ فتطمئن لوعد الله، وتثق بنصره، لكن في ظل استمرار الحملات الشرسة على ديار المسلمين وأعراضهم تظهر تساؤلات من هنا وهناك:
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع؟ أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟ متى يبزغ فجر الإسلام؟
إن هذا ما تجسده الآية الكريمة التي يقول الله فيها: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].

وقد ذكر صاحب "الظلال" بعض الأمور التي يتأخَّر النصر بسببها فمن ذلك:
أن النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة لم تنضج بعدُ نضجها، ولم تستكمل قوتها واستعدادها. وقد يبطئ حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً إلا وتبذله رخيصاً في سبيل الله. وقد يبطئ حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها - بدون سند من الله - لا تكفل النصر. وقد يبطئ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضةً من البيئة، لا يستقر معها قرارٌ. وقد يبطئ لتُزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، فتعلم يقيناً أنه لا ملجأ ولا منجا منه - سبحانه - إلا إليه. وقد يبطئ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققِّه، أو حميَّة لذاتها، أو شجاعة، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله. وقد يبطئ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها؛ ليتمحض خالصاً. وقد يبطئ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون؛ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشَّف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
ثانيها: التعرف على سنن الله - تعالى - في نصرة دينه:
وبدون هذه المعرفة لن يُهتدى إلى الطريق، وحينها تضيع الجهود والأوقات ولمَّا يأت نصر الله، ومن هذه السُّنن: الابتلاء، التمحيص، التمكين، التغيير، التداول، النصر، وهي سنن نبَّه إليها القرآن الكريم.
فسنة الابتلاء؛ تضع المؤمن على محكِّ الاختبار، كما قال: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2-3]، وقوله جلَّ ثناؤه: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، وقوله عزَّ من قائل: ﴿ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ [المؤمنون: 30].
ومن ثبات هذه السنة أنها قد بُسطت في وحي الله، وعلمها أناس قبل أن تُقرأ في القرآن الكريم، فهذا (ورقة بن نوفل) - الذي كان لديه علمٌ بما عند أهل الكتاب - يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: "يا ليتني فيها جَذْعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك"، فيسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجب: ((أَوَمُخرجيَّ هم؟!))، قال: "نعم، لم يأت رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ"... الحديث
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: "سألتُكَ: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمتَ أنَّ الحرب سجالٌ ودولٌ، فكذلك الرسل: تُبتلى، ثم تكون لهم العاقبة"

وجاء في الحديث الصحيح: ((إنما بعثتُكَ لأبتليكَ وأبتلي بِكَ، وأنزلتُ عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلتُ: ربي، إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استَخْرِجْهم كما استخرجوكَ، واغزهم نُغْزِكَ، وأنفق فسننفقُ عليكَ، وابعثْ جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَنْ عصاك))
في هذا الحديث دلالة اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وبدء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية، ومنها سنة اشتراط الجهد البشري، وابتلاء بعض الناس ببعض، مع سنة العهد الربَّاني بنصر دينه وأوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان، تعملان عملاً واحداً في نهاية المطاف
ولعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص القلوب، جعله سنَّة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس؛ بل يحتاج إلى قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً؛ ليحسنوا القيام به.
ومن النتائج المترتبة على سنَّة الابتلاء لاحقاً:

سنَّة التمحيص؛ فالمؤمن من جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، وينضج بها كما ينضج الطعام بالنار، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة؛ فتخور قواه، وتنحلُّ عُراه، وينكصُ على عقبيه؛ ولهذا جعل الله - تعالى - التمحيصَ مَعْبراً لتنقية الصفِّ المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدرِّ الثمين والخرز الخسيس، كما في قوله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154].
وفي ضوء سنَّة التمحيص تتحقق سنة أخرى وهي:
سنَّة التمكين؛ إذ يمكِّن الله - عزَّ وجلَّ - للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا جدارتهم واستحقاقهم للنصر بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجرُّدهم له، وتطلُّعهم إليه في زمن الشدَّة، وتوكُّلهم عليه، مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافَّة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سُئل الإمام الشافعي - رحمه الله -: "أيما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال: لا يمكَّن حتى يُبتلى
ومحصِّلة هذه السنن الثلاث أن بعضها يمسك برقاب بعض، كحلقات السلسلة يشدُّ بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت أوائلها تحققت أواخرها! إنها سننٌ ساطعة، وحقائقٌ ثابتة.
أما سنَّة التغيير؛ فالله - عزَّ وجلَّ - لا يغيِّر حال قوم حتى يبدلوا ويغيروا ما بأنفسهم؛ فالتغيير يبدأ من النفس، سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى، أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل: ﴿ إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، فإذا وُجدت الأسباب فالنتائج تتبعها؛ إذ أن حدوث التغيير من الله - عزَّ وجلَّ - مترتبٌ على حدوثه من البشر سلباً وإيجاباً[11].

يقول إلإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى - ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53]: "يخبرُ - تعالى - عن تمام عدله وقِسطه في حكمه، بأنه - تعالى - لا يغيِّر نعمةً أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه؛ لقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ "[12].

وهذه السنَّة الربَّانية ذات دلالتين في حالنا وواقعنا اليوم: أولاهما: التباين الشديد بين حياة الأوَّلين من أسلافنا، وما كانوا عليه من القوَّة والعزَّة، وبين ما آل إليه حالنا من الضعف والهزيمة النفسية، خير شاهد على أننا غيَّرنا ما بأنفسنا فغيَّر الله حالنا.
ثانيهما: أن حالنا اليوم لن يغيِّره الله حتى نغيِّر ما بأنفسنا من تفشِّي البدع والشرك، بشتى صوره الجليّة والخفيّة، والتبعيَّة للغرب، ومحو آثار المعاصي والفجور التي لبست ثوب المباح والتقدُّم والرُّقي، والفرار إلى الله، وتحكيم شرعه في جميع شؤون الحياة"[13].
ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس، من الشدَّة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر، قال - تعالى -: ﴿ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].
وهذه السُّنة نافذةٌ بحسب ما تقتضيه سنَّة تغيير ما بالأنفس: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53].
وهنا يضع الله - عزَّ وجلَّ - أيدينا على سرٍّ عظيم، وهو ارتباط المداولة بين الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطةٌ بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنَّة ماضيةٌ ثابتةٌ لا تتغيَّر ولا تتبدَّل.
يقول (رشيد رضا) - رحمه الله - في "تفسير المنار": "إنَّ نعم الله - تعالى - على الأقوام والأمم منوطة - ابتداءً ودواماً - بأخلاق وصفات، وعقائد وعوائد، وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم، متمكِّنة منها، كانت تلك النعم ثابتةٌ بثباتها، ولم يكن الربُّ الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتَّب عليها من محاسن الأعمال؛ غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم، وسلب نعمته منهم" أهـ.
وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم، ويكون ذلك سبباً في انهيارهم وزوال ملكهم، جزاء فسقهم وعصيانهم.
ومن أسباب الفتن وزوال النعم: أن يفشو فيهم الظلم، وعدم إقامة العدل، والجهر بالمعاصي، فيأخذهم الله - عزَّ وجلَّ - بالسُّنن، ويبتليهم بالأمراض والفقر، ويجعل بأسهم بينهم.
أخرج ابن ماجه بسنده إلى عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه، فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ أعوذ بالله أن تدركوهنَّ: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها؛ إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نَقَص قومٌ المكيالَ؛ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا خَفَر قومٌ العهد؛ إلا سلط الله عليهم عدوّاً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل الله في كتابه؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
وقد تكون الإدالة على المسلمين بتخلُّف النصر عنهم، حين يتركون طاعة الرسول أو يطمعون في الغنيمة، كما حدث في غزوة أحد، أو حين يركنون لكثرة العدد، ويعجبون بأنفسهم، وينسون سندهم الأصيل، كما وقع في غزوة (حنين).
وحينئذ تكون الدُولة والغلبة لغيرهم بصفة مؤقتة، لحكمةٍ، هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضاه من الأعمال، ومتى تحقَّق ذلك جاء النصر؛ لأن "الهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس، هموداً وكلالاً وقنوطاً، فأما إذا بعثت الهمَّة، وأذكت الشعلة، وبصَّرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة المعركة، وطبيعة العقيدة، وطبيعة الطريق؛ فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد"
إن سنَّة النصر لا تتخلَّف متى استوفيت الشروط، وأهمها: الاستقامة على منهج الله، بطاعة أمره واتباع رسوله؛ قال - تعالى -: ﴿ إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، وقال - جلَّ ذكره -: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171-173].

وجاءت عوامل النصر جليَّة واضحة في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45-46].
إن من الحقائق التي استفدناها من دروس التاريخ: أن الحق لا ينتصر لمجرد أنه حقٌّ؛ بل لابد من قوة تسنده، وفئة تعاضده، وأنصارٌ يقومون به.

فلابدَّ إذن من سلطة تنصر الحق وتقمع المنكر، كما دلَّ عليه القرآن في قول الله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]؛ "ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف"
ومما لا شك فيه أن هناك أسباباً تضاف إلى هذه، تناسب طبيعة المرحلة الراهنة لكل زمان ومكان.
ولكن إذا تخلفت هذه الأسباب تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلَّت الهزيمة؛ لأنَّ سنن الله - تعالى - لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإنَّ الذين يرثون الكتاب وراثةً بالاسم وشهادة الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي واقعاً سلوكيّاً، ثم يقولون: سيُغفر لنا! لا يستجيب الله - عزَّ وجلَّ - لهم، حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله في كتابه المنزل: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأعراف: 169].
وبناءً على ذلك؛ فإن السُّنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة، والجهود المنظَّمة، والمخطَّطات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المحدَّدة المطلوبة.
ومعنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون النصر بغير اتخاذ الأسباب، سواء تعلَّق الأمر بالمؤمنين أم بالكفار.
قد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ وجيهٌ، وهو: ماذا يحدث لو وافق المسلمون السُّنن الإلهية في التغيير واستيفاء شروط النصر، فأخذوا بالأسباب، واستكملوا الإعداد للجهاد، غير أن أعداءهم كانوا أكثر كفاءة منهم، تخطيطْا وتنظيمْا وقوة؟
والجواب:
إن المؤمنين حين يغيِّرون ما بأنفسهم، ويستكملون أدوات النصر؛ لا يضُّرهم تفوُّق الأعداء عليهم؛ لأن سنَّةً أخرى تتدخل، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 14]، ﴿ إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
وقد يتأخَّر ويبطئ نصر الله لحكمة ما - كما ذكرناه سابقاً - لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا محالة: ﴿ حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].
وقد يأتي النصر في غير صورته المعروفة، وهيئته المألوفة؛ فالابتلاء والمصائب قد تحمل من الخير الخفيِّ الكثيرَ، وقد تكون سبباً لنصر أعظم وأشمل!!
وعلينا ألاَّ نيأس من نَيْل النصر، وأن نبحث عن أسبابه، وأنْ نجتهد في أن نكون جنداً من جنده، ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].
ثالثها: من تولى عن نصرة دين الله وإقامة شرعه؛ فإن الله يستبدل مَنْ هو خيرٌ منه:
قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، ويقول - تعالى -: ﴿ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ [التوبة: 39].
ذلك أن نصر الله آتٍ لا محالة، ولو بعد حين، لكنه قريبٌ، إلا أن ثمَّة مانعٍ منه، وهو عدم التغيير من واقع الحال، فحينها يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلَّة على المؤمنين، أعزَّةً على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
رابعها: عوائق النصر:
هناك عوائقٌ تقف في طريق النصر، منها ما هو من خارج الصف الإسلامي، ومنها ما هو من داخله، فهي على قسمين؛ عوائق خارجية وعوائق داخلية. أما العوائق الخارجية؛ فتتمثل في أعداء هذا الدين، المتمثلين فيما يلي: 1 - الكفار الصرحاء، الذين أسفروا عن عدائهم وحقدهم على الإسلام وأهله، كاليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم.
2 - المنافقون: المُظهرون للإسلام، والمبطنون للكفر والزندقة، وهؤلاء من بني جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا من العلمانين والباطنيين، والموالين لأعداء هذا الدين.
3 - الأنظمة الحاكمة في أكثر بلدان الاسلام، التي مارست الضغط على [الجماعة المسلمة ] باسم مكافحة التطرف والإرهاب،
وجديرٌ بالاهتمام: أن نعلم أنه لا يمكن أن يكون للعوائق الخارجية ضررٌ، إلا في ظلِّ وجود العوائق الداخلية، وهذا يحتِّم علينا أن نُسقط أسباب ضعفنا ومهانتنا على أنفسنا، ومن ثَمَّ نتوجه إلى إصلاحها؛ لتكون أهلاً لنصر الله - عزَّ وجلَّ.
خامسها: المبشرات بانتصار الإسلام:
"لقد دهش المؤرِّخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وللسرعة التي انهارت بها أمامهم الإمبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سرَّ عظمة هذه الأمة الناشئة، الذي يكمن في المدد الربَّاني لهؤلاء المجاهدين؛ ليس فقط بالإمداد بالملائكة، تثبِّت الذين آمنوا، لكن أيضاً بإمداد الله إيَّاهم بمفاهيم وقيم ومقوِّمات أهَّلتهم لقيادة البشرية، وانتزاع عجلة القيادة من قيم هابطة، ومفاهيم متخلفة، وعقائد فاسدة، ومُثُل مهترئة، فقد كانت المواجهة صراعاً بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات، وكان من الشأن أن تسري سنَّة الله في خلقه، ويمضي قانونه المحكم: أن البقاء للأصلح؛ ﴿ فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [الرعد: 17]"

والمبشرات بانتصار الإسلام كثيرةٌ، جاء بها القرآن والسنة والتاريخ، ففي التعرف على هذه المبشِّرات، وفي الوقوف عليها طمأنينة للمسلم، وتثبيت لقلبه، وإعانة له على الصبر، وترقُّب الفرج من الله.
وإنّ الكافرين وإنْ كانت لهم الغلبة الظاهرة، إلا أنَّ النصر الحقيقي يتمثَّل في الصبر والثبات، وفي خاتمة المسار والمطاف: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
لقد كانت النتائج العسكرية البحتة لكثير من الغزوات والمعارك تمثِّل هزائم ونكسات، ولكنها لم تكن القاضية، وكان بعدها جولات للمؤمنين غالبةٌ.
سادسها: دراسة أسباب سقوط الدول عبر التاريخ[21]:
فعندما يحدثنا التاريخ عن (برابرة التتار) وغارتهم الكاسحة التي خرَّبت بغداد، وقتلت أكثر من مليون مسلم - حسب رواية ابن كثير والسيوطي - فلم يسلم من القتل إلا من اختفى في بئر أو قناة! وقتل الخليفة رفساً وركلاً بأقدام التتار، وجرى النهر أربعين ليلة أحمر اللون من كثرة ما أريق فيه من دماء المسلمين!!
فهل كانت قوة التتار وحدها هي السبب وراء هذه المذبحة؟ أم أن الخيانة والتآمر من ابن العلقمي وبطانة السوء من جانب، وضعف الأمة من جانب آخر، هو السبب المباشر والأقوى؟
إن ابن كثير يحدِّثنا أمراً عجيباً عن جندي تتريٍّ أراد قتل مسلم، ولم يكن معه - أي: التتري - سلاحٌ؛ فقال للمسلم: "ابقَ هنا، لا تتحركْ"؛ فبقي المسلم - بسبب الهزيمة الداخلية - حتى غاب الجندي التتري، ثم عاد وبيده السلاح، فذبحه!! هكذا، لم يُبْدِ المسلم أدنى مقاومة، حتى لو كانت هذه المقاومة هي مجرد الفرار!!
بل إنَّ ابن كثير - رحمه الله - يحكي لنا قصة أخرى أقسى وأكثر دلالة على أن من يهزمه عدوَّه من داخله لا يبقى أمامه إلا أن يصفِّي ساحة المواجهة معه من فلوله العاجزة المذعورة، دون جهد أو تعب؛ يحكي لنا ابن كثير: أن مُلَثّماً من جنود التتار دخل خاناً فيه الكثير من المسلمين، فبدأ في قتلهم، وهو واحدٌ وهم كثرة، وهم لا يفعلون شيئاً إلا أن يسلِّموا رقابهم للذبح، حتى رأى أحدهم أنَّ مَنْ يقوم بقتل الجميع هي فتاة ضعيفة!! هنا - وهنا فقط!! - اجتمعوا عليها فقتلوها!!

ويتساءل المرء: ما الفرق بين أن تكون فتاة ضعيفة أو رجلاً قويّاً في مواجهة هذه الكثرة من المسلمين؟

ولكنه الوهن والهزيمة الداخلية، التي تُوجِدُ في النفوس الرهبة والخوف، فتشلها عن المواجهة، وتُقعدها عن المجاهدة، فتلقي بسلاحها قبل أن تبدأ المعركة.
[بقلم - أنو صالح أبو زيد]