مقومات الداعية الناجح (1-5)
الحمد لله جعل الداعي إليه أحسن الناس قولاً، والمجاهد في سبيله من أفضل الناس عملاً، والصلاة والسلام على أعظم من دعا باللسان، وأشجع من جاهد بالسنان، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله سبب الهداية المأمول، وطريق السعادة المأهول، وبها يقع تذكير الغافل، وتحريك الخامل، وهي مفتاح الفهم، ومقدمة العلم، ومدخل العمل، وهي مهمة الأنبياء والمرسلين، وسبيل أتباع النبي الأمين، وشرفها وفضلها معلوم، وخيرها وأثرها ملموس.
لا حاجة لبسط القول أو التدليل على أن الدعوة في عالمنا المعاصر تمر بمرحلة صعبة بل عصيبة؛ لأن هذا الأمر ظاهر للعيان، وتعاني الدعوة مشكلات عديدة.
منها: العداء الخارجي، والتكالب العالمي، الذي يسعى إلى وأد صوتها، ومحاصرة نشاطها، ويهدف إلى تشويه صورتها، وتجريم حملتها، فالدعوة إلى الله يجعلونها عنصرية تتنافى مع الإخاء، وعصبية تتعارض مع التسامح، والدعاة إلى الله يصورونهم على أنهم قساة غلاظ، لا مجال عندهم لرحمة أو رأفة، هذا إضافة إلى العمل الدائب للمواجهة المباشرة للدعوة والدعاة .
ومن جهة أخرى فإن للدعوة معاناة من بعض حملتها أو المنتسبين إليها، فواحد يسيء من جهة جهله، وآخر من جهة سوء فهمه، وثالث من جهة ضيق أفقه، ورابع من جهة شدة أسلوبه وهكذا.
إضافة إلى وجود بعض الخلل، ونقص في العمل في صورة الشاملة الواعية للدعوة، بحيث تواكب العصر بالاستفادة من معطياته، والتأقلم مع مستجداته، وحسن المواجهة لعقباته، وجودة التخطيط والإعداد لمتطلباته، كما تراعى الأصول، وتستلهم التاريخ، وتستنطق التجارب، وتستفيد من الأعلام، بما يجعل جذورها راسخة، وقواعدها واضحة .
ونظراً للظروف الآنفة الذكر يكون من الواجب إعمال الفكر، وتبادل الرأي حول السبل الكفيلة لنجاح الدعوة وتحقيق أهدافها، وحمايتها من كيد الكائدين، من الأعداء وجهل الجاهلين من الأحباء.
ومن هنا كنت كثير التفكير في مثل الموضوع؛ فكتبت حول نجاح الداعية، وقبول دعوته، وتأثير شخصيته، مقالاً نشرته في إحدى الصحف، ثم في مناسبات متعددة، تحدثت عن عناصر نجاح الدعوات، وما زلت أدندن حول هذه المفاهيم والأفكار، وألقي عنها كلمات وأدوِّن فيها ملحوظات .
وهذا الكتاب الذي بين يديك هو صدى وترجمة لتلك الأفكار، وما كان ليرى النور؛ لكثرة الأشغال، وتزاحم الأعمال، ولكنني دُعيت للمشاركة في أحد الملتقيات، وطلب مني إعداد بحث بعنوان: (مقوِّمات الداعية الناجح) فكانت هذه الصفحات، التي كتبتها وأنا في ظروف صعبة، أثناء انشغالي التام بالمراحل النهائية لإعداد رسالة الدكتوراه، وللتوضيح أقول: إن هذا البحث عددت مادته، ورتّبت فصوله، وأتممت صياغته في أقل من شهر، وكنت أود قبل طباعته أن أضيف إليه، وأزيد فيه ما استجد في الذهن من أفكار، وما تجمّع في الموضوع من نصوص، ولكنني تركت ذلك؛ لئلا تتأخر الطباعة، ولعل ذلك يكون في طبعة قادمة بمشيئة الله تعالى .
وحيث قد وصفت لك- أخي القارئ - ظروف البحث ومدة إعداده، إضافة إلى ما هو معلوم من قصور الإنسان؛ لذا فإنني أرجو أن أحظى منك بما تراه من تصويب لخطأ، أو استدراك لنقص، أو فوائد وزوائد تتفضل بإهدائها لي، وهذا مما يسعدني ويثلج صدري، كما ينفعني ويغني فكري ويزيد علمي .
وأخيراً: أرفع أجزل الشكر، وأعطر الثناء، وأعظم الحمد، للمولى جلّت قدرته على توفيقه وامتنانه، ثم أثني بالشكر لكل من ساعدني في الإعداد، ونقل النصوص، وأخص منهم زوجتي وبنات أخي الثلاث، وأشكر (دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع) على ما قامت به من جهود في تصويب النص، وتصحيح أرقام الحواشي، وحسن الإخراج؛ إذ كان البحث في صورته الأولى المستعجلة مليئاً بالأخطاء والاضطراب، كما أشكر من شرفوني بمطالعة البحث، عسى الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، وأن يغفر لي ما لا يعلمون.
اللهم هذا جهد المقلِّ، وبضاعة المقصِّر تقبّلها بفضلك، وتجاوز عن نقصها بعفوك . وما كان في ذلك من إتقان وإحسان ففضل منك وإنعام، وما كان من خلل أو زلل فغفلة أو استزلال شيطان، فأقل - يا رب- عثرتي، واغفر زلّتي يا أرحم الراحمين!
الفصل الأول : دلالة الموضوع وأهميته:
رأيت من المناسب الوقوف على عنوان البحث، ومعرفة معاني مفرداته ودلالاته، قبل الخوض في مضمون الموضوع وتفصيلاته .
عنوان البحث: (مقومات الداعية الناجح)، ومن هنا سنقف أمام مدلولات الكلمات الثلاث.
المبحث الأول : دلالة عنوان الموضوع:
أولاً: المقوّم:
أصل الكلمة الثلاثي هو قَوَمَ، وأحد معانية الانتصاب والعزم[1]، ومن أبرز الاستعمالات اللفظية بهذا الأصل(قيام) والقيام يجئ بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34][2]، وقام الأمر: اعتدل، وأقام الشيء: أدامه[3]، وأمر قيم، أي: مستقيم،[4] وقوام الأمر (بالكسر): نظامه وعماده[5]، وقيم الأمر: مقيمه، والقيم: السيد وسائس الأمر[6]، ومقوم الشيء وقوامه بمعنى واحد.
فالمراد بمقومات الداعية الناجح: الأمور التي هي العماد لنجاح الداعية؛ ليقوم بالدعوة، منتصباً لها، عازماً ومحافظاً عليها، مستقيماً معتدلاً في أدائها، قائماً بشؤونها، سائساً لأمورها؛ حتى يكون قيامه بها خير قيام؛ يتحقق به المقصود.
ثانياً: الداعية:
أصل الكلمة الثلاثي (دٍٍَِِعَوَ) والدعوة المرة الواحدة، من الدعاء، والدعاء إلى شيءٍ ما، هُو الترغيب فيه والحث عليه، كما في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] أي: يرغب في الجنة، ويقال: دعا يدعو فهو داع، والمرة منه دعوة، وفي قوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، أي: داعياً إلى توحيد الله؛ فالداعي هو الذي يدعو إلى أمر ما، والجمع دعاة وداعون، والداعي والداعية واحد، والهاء فيه للمبالغة .
فالداعية إذن: هو المؤهل القائم بترغيب الناس في الإسلام، وحثهم على التزامه، بالوسائل المشروعة.
وهذا يوضح أن موضوع الدعوة هو الإسلام كله، عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملة، وأن المدعوون هم جميع الناس، كل بحسبه؛ فالكافرون يُدعون إلى الإسلام، والمقصرون يُدعون إلى صدق الالتزام، والعصاة يُدعون إلى ترك الذنوب، والآثام وهكذا.
قال ابن تيمية في تعريف الدعوة: "والدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، وبتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا"[7].
عرَّفها بعض المعاصرين بقوله: "تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة"[8].
وأوجز الطبري القول وأبلغ في المعنى، حين قال عن الدعوة: "هي دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل"[9].
ثالثاً: النجاح:
أصل الكلمة الثلاثي (نجح) وهو أصل يدل على ظفر وصدق وخير،[10] والنُّجح والنجاح: الظفر بالشيء، ونجح المرء: إذا أصاب طلبته، ونجح الأمر: إذا تيسر وسهل، ورجل نجح: منجح الحاجات، ورأي نجيح، أي: صواب[11].
فالمقصود: هو تحقيق غاية الدعوة، والتوفيق لحصول التيسير في الدعوة وقبولها، ومعلوم أن النجاح الأتم في الدعوة هو قبول الحق والعمل به، ورفض الباطل والإقلاع عنه؛ فهو قناعة نظرية، واستجابة عملية، ولكن حصول الإعراض وعدم القبول، ليس دليلاً على عدم نجاح الداعية؛ إذ أن الهداية من عند الله { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص:56].
ونعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "يأتي النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد"[12]، وهذا قطعاً لا يدل على عدم نجاح هؤلاء الأنبياء، وإنما يدل على عدم وجود القابلية عند المدعوين، وطمس الله لبصائرهم، وطبعه على قلوبهم.
فالنجاح إذن هو القيام بالواجب على الوجه الأكمل، وكثيراً ما تتحقق به النتائج، وقد تتخلف لحكمة عند الله.
وبهذا يتضح مدلول عنوان الموضوع (مقومات الداعية الناجح)، وأن المراد تسليط الضوء على الأسس اللازم توافرها للداعية، في شخصيته وممارساته، ومفاهيمه التي تؤدي إلى حصول الهداية وتحقق أثر الدعوة.
المبحث الثاني : أهمية الموضوع:
مما يتقدم عرفنا أن الموضوع يتعلق بما يقوم بالداعية من صفات ومهارات، يتحقق بها هدف الدعوة وتحصل الاستجابة، ولا شك أن الاستجابة للداعية ثمرة عظيمة؛ لأنه مبلغ عن الله جل جلاله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومقرر لأحكام الإسلام، ومؤدي ذلك تحقق الاستجابة لله وللرسول، والالتزام بالإسلام؛ ولهذا فإن لهذا النجاح آثار كبيرة محمودة، تجعل للبحث في هذا المجال أهمية كبرى، وإليك بعض ما ينبئ عن ذلك:
1- الأجر الجزيل:
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، فهذا ثناء لمن دعا دون ارتباط بالنتيجة؛ فكيف إذا حصلت الاستجابة؟ إن الأجر حينئذ أعظم وأجزل، كما أخبر عليه الصلاة والسلام في قوله: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم"[13].
وهذا في هداية الواحد، فكيف بهداية الجمع من الناس؟ الأجر حينئذ يزداد ويتضاعف، كما أرشد إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "من دعا إلى هدى فإن له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"[14].
2- انتشار الخير:
إن نجاح الداعية وانتشار الدعوة يزيد من انتشار الخير بكثرة ملتزميه والدعاة إليه، والثابتين عليه، وعندما تتزايد هذه الدوائر، ويتكاثر أفرادها، تكون سبباً من أسباب رضوان الله عز وجل وتنَزّل نصره، وحصول التغيير الصالح في الأمة، ضمن السنة الإلهية الماضية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ومن جهة أخرى فكلما أقبل على الخير واستجاب للدعوة نفر من الناس، بما يحققه الله من نجاح للدعاة؛ فإن ذلك يورث عند الآخرين قناعة عميقة، وحماسة قوية للمتابعة، من خلال كسر حاجز التردد أو الرهبة، وخوف التفرد بالالتزام، ومخالفة التيار العام، كما أن انتشار الخير يبرز صورة مشرقة للمسلمين الملتزمين من خلال سلوكياتهم في سائر شئون الحياة، وهذا له أثر مضاعف في مزيد من الإقبال على الالتزام.
3- مغالبة الباطل:
إن كل نجاح للدعوة في فكر وسلوك إنسان هو هزيمة للباطل، الداعي إلى طرق ومناهج الشيطان، وإن كل وجود فاعل للدعوة في ميدان من ميادين الحياة، هو غيظ ونكاية في أعداء الله، فالحرص على نجاح الداعية في غاية الأهمية؛ لحماية الأمة من شرور الباطل، والعمل على تحجيم آثاره، وتقليل أضراره، وتوهين أنصاره .
ومن المعلوم أنه "يجب محاربة المبادئ الهدامة، من اشتراكية، وبعثية، وتعصب للقوميات، وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة، وبذلك يصلح الله المسلمين ما كان فاسداً، ويَردُّ لهم ما كان شارداً، ويعيد لهم مجدهم السالف، وينصرهم على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض"[15]
ومن هنا يلزم "التأكيد على دعاة الإسلام وحملته، للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة، والدعوة إلى الإسلام، والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره، وتبيين زيفه، حيث إن الأعداء جنَّدوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظمات المختلفة، والوسائل المتنوعة؛ للدس على المسلمين والتلبيس عليهم؛ فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها، وعرض الإسلام عقيدة وتشريعاً، وأحكاماً وأخلاقاً، عرضاً شيقاً"[16]؛ فتوفر أسباب نجاح الداعية يعني غلبة الحق وانتصاره، وهزيمة الباطل واندحاره .
4- الحماية من المفاهيم والأعمال الخاطئة:
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح وأسباب الفلاح، قد يؤدي إلى الفشل والإخفاق، ويتولد من أثر ذلك بعض المفاهيم والأعمال الخاطئة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أ*-الحكم العام بفساد الناس، وذلك أن بعض الدعاة - لقلة في فهمه أو ضعف في إيمانه أو تقصير في عمله - يتوالى عليه الفشل، ويلقى الإعراض والنفور من الناس، وبدلاً من أن يصبر، أو ينقد نفسه ويغير أسلوبه، ويعالج خطأه، نراه ينحي باللائمة على الناس، ويحكم عليهم بالفساد والاستعلاء عن الحق، وأنهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما يحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح، الذي قال فيه: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم" [17].
ب- حصول الإحباط واليأس في نفوس بعض الدعاة؛ لتكرار الفشل، وانطوائهم بعد ذلك على أنفسهم، ثم اعتزالهم الناس، وتركهم الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وربما كان فشلهم في كثير من الأحوال ناشئاً عن جهلهم بأساليب وأسباب النجاح في الدعوة .
الفصل الثاني: عناصر التأثير:
المبحث الأول: الميل العاطفي والمحبة القلبية:
إن المحبة تقود إلى المتابعة للمحبوب، وتقديمه على من سواه، وتلمس موافقة هواه، ولذا قيل في تعريف المحبة: إنها "إيثار المحبوب على جميع المصحوب" وقيل: "موافقة الحبيب في المشهد والمغيب" وقيل: "اتحاد مراد المحب ومراد المحبوب" وقيل: "إيثار مراد المحبوب على مراد المحب" وقيل: "هي بذلك المجهود فيما يرضي الحبيب"[18].
"والحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والفعل الظاهر، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال، هو موجب ما في القلب ولازمه"[19].
ولذا فإن صاحب الرسالة يتحبب إلى المدعوين، ويسعى إلى كسب محبتهم له، وميل قلوبهم إليه؛ لأن ذلك أعظم عون على قبولهم منه، واتباعهم له، وبدونه لا يحصل التأثير الإيجابي بالمتابعة، ولو أقيمت الحجج ونصبت الأدلة؛ لأن البغض للداعي يصد عن قبول دعوته، وإن كانت حقاً، { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]،فالاستجابة والمتابعة أعظم مقتضيات المحبة، وهما في الوقت نفسه أعظم آثارها.
وإذا تمكنت المحبة؛ فإنها تورث تعلقاً عجيباً بالمحبوب، يدفع إلى فعل مقتضاها من الموافقة، وإن كان في ذلك مضرة ظاهرة، أو إعراض عن محبوبات أخرى، هي أكثر أهمية، ويتحمل المحب في ذلك ما يلقي من المعارضة والملامة، وهذا ما يعرف من حال المحبين والعشاق، وهو الذي يفسر ما ملئت به سيرهم من الأخبار والأحوال، وليس هذا في عشق ومحبة الصور المحسوسة من البشر، بل هو واقع في المعاني أيضاً؛ فكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق، فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به، ولا يقبل فيه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم، وأما عشاق العلم فأعظم شغفاً به، وعشقاً له من كل عاشق بمعشوقه[20].
وبالجملة: "فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة؛ فهو أصل كل فعل ومبدؤه، كما أن البغض والكراهة مانع وصاد لكل ما انعقد بسببه ومادته"[21].
ومما يقوي أثر المحبة من الموافقة والاتباع "حصول اللذة والنعمة، والفرح والسرور، وقرة العين به، على قدر قوة محبته وإرادته والرغبة فيه"[22].
ويلحق بذلك أن المحبة توقد نار الشوق؛ فيبقى القلب بالمحبوب ومطلوبه مشغولاً، والعقل في أمره مفكراً، "والشوق أثر من آثار المحبة، وحكم من أحكامها؛ فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال"[23].
وهكذا نجد للمحبة أثرها العظيم في الفكر والسلوك، والمحبة والإرادة أصل كل دين، سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً؛ فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة، والمحبة والإرادة أصل ذلك كله[24].
"وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها"[25] علمنا أهمية هذا العنصر.
ومن منا كان الهوى في غير مرضاة الله خطراً عظيماً، بل هو شرك محض، وألوهية باطلة، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
وبالجملة فعاطفة المحبة من أعظم عناصر التأثير سلباً وإيجاباً، ومن ثم كان الحرص على كسب القلوب، واستجلاب المحبة في طاعة الله معيناً على الاستجابة للخير، والقبول للدعوة، وإذا وجهت المحبة لله وطاعته فذلك غاية عظمى، إذ أن محبة الله "هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها ترّوح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام"[26].
والمقابل على الضد من ذلك "فهو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه يُنتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً، ومدخل الشر مسلوكاً"[27].
المبحث الثاني: الإقناع العقلي والحجة العلمية:
الهوى يهوي بصاحبه، والعقل -بإذن الله- يعصمه، والعقلاء يحكمون عقولهم في أهوائهم، وهذا تصرف الرجال، فقد يُحب القلب فعلاً معيناً، وتهوى النفس سلوكاً محدداً؛ فيعترض العقل بالنظر في البواعث، والتأمل في العواقب؛ فيكبح جماح الهوى؛ إذ أنه "لما كان الهوى غالباً، إلى سبيل المهالك مورداً، جعل العقل رقيباً مجاهداً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي"[28].
"وإذا كانت الدولة للعقل سالمهُ الهوى، وكان من خدمه وأتباعه، كما أن الدولة إذا كانت للهوى، صار العقل أسيراً في يديه، محكوماً عليه"[29].
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة؛ فإن استوثق منه ضابطه كفه، وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه، فلم تقاومها السلسلة فأفلت، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط"[30].
وربما لا تكون هناك محبة ولا ميل في النفس ابتداء، ولكن الحجة والبرهان يحصل بها قناعة العقل، التي تزين الفعل أو الرأي للنفس، وتحببه إلى القلب؛ فالقناعة لها تأثيرها الذي لا ينكر في دفع الإنسان لاتخاذ الموافق والآراء، وممارسة الأفعال، أو الامتناع من ذلك، وتلك مزية العقل الراشد، الذي هو من أهم البواعث، "فلا يسمي عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه، ومن فعل ما يعلم أنه يضره، فمثل هذا ماله عقل"[31].
والمحبة والعقل إن اتفقا عظم الأثر، وان اختلفا فمالت المحبة لما حكم العقل بفساده؛ فمآل الأمر إلى غلبة أحدهما بقوته، وتمكنه، فقد يقرر العقل ضرر الفعل، لكنه يضعف ويغلبه الهوى بباعث حب اللذة، وقوة الشهوة "وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم؛ حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره، وترك ما يعلم أنه ينفعه؛ لما في نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال، وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية، لكنه لما في نفسه من بغض وحسد، غلب موجب ذلك الموجب، والنتيجة لا توجد عنه وحده، بل عنه وعما في النفس، من حب ما ينفعها وبغض ما يضرها، فإذا حصل لها مرض ففسدت به أحبت ما يضرها، وأبغضت ما ينفعها؛ فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له، مع علمه أنه يضره"[32].
و"مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة، من غير فكر في عاقبة، ويحث على الميل للشهوات عاجلاً، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل، ومنع اللذات في الآجل"[33].
وهذا يوضح أثر العقل، وقناعته في توجيه الآراء والسلوكيات، مع عدم إهمال أثر القلب وعاطفته؛ إذ قد توافق فيقوى التأثير ويتمكن، أو تخالف فتكون هناك المغالبة ثم الغلبة.
المبحث الثالث: القدوة الحية والنموذج المتحرك:
لا يخفى أبداً أثر القدوة فهي الصورة الحية للفكرة، والتطبيق العلمي للدعوة، والتوضيح الجلي للحجة، ولا شك أنها من أعظم أسباب بذر المحبة في القلوب، ووجود القناعة في العقول، "وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة، ولا سيما العامة، وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها"[34].
والعكس صحيح، فلو وجدت المحبة، وأقيمت الحجة، وبذلت الدعوة، كان لتخلف القدوة ووجود ما يعارض مقتضى الدعوة أثره في ضعف التأثير، ونقص المحبة، وزعزعة القناعة، ومعلوم "أن التأسي بالأفعال - بالنسبة لمن يعظّم في الناس- سرٌ مبثوث في طباع البشر، لا يقدرون عن الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، ولا سيما عند الاعتياد والتكرار"[35].
ورحم الله ابن القيم حيث أبدع في بيان عكس هذه الحقيقة، عندما قال: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم؛ فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له؛ فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع الطريق". ولله در هرم بن حيان حيث حذر من العالم الفاسق؛ فكتب إليه عمر -رضي الله عنه- يسأله عن مراده؛ فقال: "يكون إمام يتكلم بالعلم، ويعمل بالفسق، ويشبه على الناس؛ فيضلوا"[36].
وفي كثير من الأحيان تكون القدوة الحسنة مغنية عن كثير من أساليب الترغيب والتشويق، وأسباب تحصيل المحبة، وكذلك تعفي من الاستكثار من الاستدلال، وإقامة الحجة والمناظرة والجدال؛ إذ يتحقق من خلال القدوة الكثير من ذلك بشكل تلقائي، وبصورة أعمق وأثبت، حيث أن القدوة "تساعد على تكوين الحافز في المتربي، دونما توجيه خارجي"[37]
لأن "المثال الحي المرتقي في درجات الكمال، يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب، والتقرير والمحبة، ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة، والمنافسة الشريفة"[38].
فيحصل التأثر والاقتداء، وتكون الاستجابة قوية، وهي في الوقت نفسه سهلة وتلقائية، "حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال، أغناك من السؤال في كثير من الأعمال"[39].
ولله در ابن القيم حيث قال: "إن الناس قد أحسنوا القول؛ فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبِّخ نفسه"[40].
وبهذا تتكامل عناصر التأثير؛ فإذا اجتمع مع محبة الفعل اقتناع العقل بثمرته وفائدته، وأضيف إليهما قدوة يتمثل فيهما الفعل؛ فإن التأثير يكون قد بلغ مبلغه .
ولا بد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة، وخطورة انعدامه، حيث "يستطيع الإنسان أن يكون عالماً جهبذاً في الكيمياء، أو العلوم، أو الطب، أو الهندسة، أو غير ذلك من العلوم، التي أمرنا الله بتعلمها لتعمر الدنيا، ولكن هذه العلوم لا تتطلب منا قيداً سلوكياً؛ فقد تكون عالماً في أي فرع من هذه العلوم، وسلوكك تبعاً لهواك، ولكن هذا لا يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك؛ لأن النبوغ لا يضع قيداً على الأخلاق، إلا علم الدين؛ فإنك إن كنت من علمائه أو الداعين إليه، أو المتدينين المخلصين، لا بد أن تكون قدوة حسنة لما تدعو إليه، وإلا ما استمع إليك أحد"[41].
ولله در القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله***عار عليك إذا فعلت عظيم
وحسب المسلم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3،2].
[1]معجم مقاييس اللغة: (5/43).
[2]لسان العرب: (12/497).
[3]القاموس المحيط: (4/168).
[4]المحكم لابن سيده: (6/366).
[5]لسان العرب: (12/499).
[6]لسان العرب: (12/502).
[7]مجموع فتاوى ابن تيمية (15/157).
[8]المدخل إلى علم الدعوة ص17.
[9]تفسير الطبري (11/53).
[10]معجم مقاييس اللغة (5/390).
[11]لسان العرب (2/612،611)، الصحاح (1/409)، القاموس المحيط (1/251).
[12]أخرجه البخاري كتاب الطب، باب: من كوى أو كوى غيره (10/155)، ومسلم في كتاب الإيمان ،باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (1/199).
[13]أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: مناقب علي بن أبي طالب، الفتح (7/70) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب (النووي) (15/178).
[14]أخرجه مسلم في كتاب العلم،باب :من سن سنة حسنة أو سيئة (النووي 16/227).
[15]مجموع فتاوى ابن باز(1/392).
[16]مجموع فتاوى ابن باز (1/392).
[17]أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب : النهي عن قول هلك الناس ، (النووي 16/17).
[18]روضة المحبين (ص:19-21).
[19]مجموع فتاوى ابن تيمية (7/541).
[20]روضة المحبين (ص :69).
[21]جامع الرسائل والمسائل (2/193).
[22]روضة المحبين (ص/156،155).
[23] تهذيب مدارج السالكين (ص:525).
[24]جامع الرسائل والمسائل (2/218).
[25] المصدر السابق (2/235).
[26]تهذيب مدارج السالكين (ص/509).
[27]أدب الدنيا والدين (ص: 33).
[28]أدب الدنيا والدين (ص:35).
[29]روضة المحبين (ص:10).
[30]صيد الخاطر(ص:164).
[31]مجموع فتاوى ابن تيمية (7/24).
[32]مجموع فتاوى ابن تيمية (7/540).
[33]ذم الهوى (ص: 13،12).
[34]مجموع فتاوى ابن باز (3/110).
[35]الموافقات (4/248-249).
[36]نزهة الفضلاء (1/329،328).
[37]القدوة مبادئ ونماذج (ص :11).
[38]القدوة مبادئ ونماذج (ص:8 ).
[39]الموفقات (4/271،270).
[40] الفوائد (ص:192).
[41]الدعوة قواعد وأصول (ص:111).