فقه تزكية النفوس



فقه تزكية النفوس
تزكية النفس هي عنوان الفلاح، فينبغي للمسلم أن يفقه هذه التزكية؛ ليعرف كيف يزكي نفسه.
ومن فقه التزكية أن نعرف فوائدها وثمراتها والأسباب الموصلة إليها، كما نعرف الآفات والعوائق التي تحول دون تحصيلها...
مفهوم فقه تزكية النفوس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

وبعد: فنحمد الله أن يسر لنا هذا اللقاء، ونواصل ما كنا بدأناه من الدروس العلمية -العامة- ، وهو بعنوان: (فقه تزكية النفوس).
وهذا الموضوع ربما كان مناسباً في مثل هذا الوقت الذي لم يطل فيه البعد عن شهر رمضان المبارك، الذي كان -ولا يزال- موسماً عظيماً من مواسم العظة والتذكرة والإيمان، فيه تحيا القلوب، وتطمئن النفوس، وتنشرح الصدور، ولابد لنا -ولكل مؤمن- أن يسعى إلى هذا الخير العظيم، وهو: تزكية النفس، وتطهير القلب.
مرادنا بالفقه هنا معناه العام: الفهم والإدراك، وليس مرادنا الخاص المتعلق باستنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية، وإنما المراد: الفهم الذي يشمل المعاني المعنوية، وكذلك الأحكام العملية، كما قال الله سبحانه وتعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44] أي: لا تفهمونه ولا تعقلونه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) لم يقل: يعلمه الدين، وإنما قال: (يفقهه) لأن الفقه أعمق من العلم، إذ إن العلم هو أخذ الأمور حفظاً وإدراكاً، ويزيد الفقه على ذلك: بمعرفة ما يتصل بهذا من المعاني الإيمانية والقلبية وإدراكها ضمن تصور عام يبين منزلتها وموقعها.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " أي: إذا أخذوا الفقه والفهم في هذا الدين، والمشكلة الكبرى التي تعترض المسلم اليوم هي: النأي والبعد عن الفقه، إما جهلاً به، أو جنوحاً ومخالفة له، وهذا الفقه الذي نعنيه هو: (الفهم)، فقد يجنح بعض الناس في فهمه لمسألة من مسائل الدين فلا يقع على الخير والبصيرة أو قد يغفل عنها فيفوته خير كثير.
ولذلك فإن الآيات القرآنية تبين أن المشكلة الكبرى إنما هي عدم الفقه، كما قال سبحانه وتعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179].
فالمراد أن نفهم هذه التزكية للنفوس، وكيف تكون وأهميتها وآثارها وما يلحق بذلك.
فهذا هو فقه التزكية، ويأتي -إن شاء الله تعالى- فقه الدعاء، وفقه السجود، وفقه السؤال والجواب، وفقه الهجر والعتاب، وربما موضوعات أخرى يكون فهمها وإدراك معانيها الظاهرة والباطنة فيه خير كثير، وربما كان هناك بعد أو غفلة عن فهم مثل هذه الأمور، فنشرع فيما يتصل بتزكية النفوس.
فوائد وثمار التزكية
لماذا الحديث عن تزكية النفوس؟ وما أهمية هذه التزكية وفائدتها؟ قد يقول قائل: إن مثل هذه الموضوعات إنما يُذكَر بها العوام، دون طلاب العلم! وإنما تصلح للغافلين المعرضين دون الذاكرين المقبلين، أو إنها تصلح للعاصين دون الملتزمين، وهذا من الخطأ في فهم التزكية وفقهها؛ إذ إن أولى الناس بالتزكية هم المقبلون الطائعون، بل لا تتم طاعتهم -معرفة وثمرة وجنياً لخيرها- إلا بهذه التزكية.
فنقول: أهمية التزكية تكمن في نقاط مهمة ومتعددة كما يلي:
التزكية غاية عظمى في هذا الدين وخلاصة دعوة المرسلين
التزكية مهمة لأنها غاية عظمى في هذا الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، ولنتأمل قول الله سبحانه وتعالى: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }[البقرة:151]، لم يكن المقصد هو العرض بتلاوة الآيات وإنما أثرها في تزكية النفوس، وتطهير القلوب، وفيما يترتب بعد ذلك من العلم، إذ العلم لا يكون إلا لمن قذف الله في قلبه التوفيق، ولمن أنار قلبه ببصيرة الإيمان، كما قال سبحانه وتعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ }[البقرة:282] وكم من حامل علم لا أثر لعلمه في عمله؛ لأنه لم يكن لعلمه أثر في تزكية نفسه، فكيف يظهر بعد ذلك في قوله أو في فعله؟! ولذلك قال إبراهيم الخليل عليه السلام كما في دعائه الذي ذكره القرآن: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ }[البقرة:129] وتقديم التزكية أو تأخيرها له علة تدل على أهميتها، فتقديمها: لأن الإخلاص وتزكية النفس والقلب يؤهل لنيل المعرفة والعلم، كما ذكر عن الشافعي قوله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي وكذلك تأخير التزكية عن العلم دليل على أن صاحب العلم إنما ينفعه علمه إذا زكى نفسه أولاً، وحينئذ يؤثر بقوله وعمله في الناس؛ ولذلك فأول أمر في أهمية التزكية: أنها غاية عظمى في هذا الدين، وخلاصة دعوة المرسلين.
التزكية سبب للسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة
التزكية نجاح الدنيا، وفلاح الآخرة، إذ المدار كله على هذه القلوب، وهذه النفوس كما قال سبحانه وتعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }[الشمس:9-10]، وكما قال جل وعلا: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [الأعلى:14].
إنما الفلاح والنجاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة بهذه المعاناة في تزكية النفوس، فما أجدرها أن تكون لها أهمية عظمى، إذ هي بمثل هذا المكان الذي به يقع الفلاح أو الخسران.
التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها
التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها، فليست العبادات في هذه الظواهر من ركوع أو سجود، أو مجرد تلفظ بألفاظ، أو إرهاق النفس بالصوم، أو إجهاد البدن في الحج، وإنما هو ما وراء ذلك كله، مما ينسكب في القلب ويملأ النفس من الروحانية والإيمان، والتي تجعل نفس الإنسان في مراتب عليا من الطهارة والنقاء والصفاء.
إذاً: هي غاية هذه العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103]، إنما هو محض التطهير والتزكية، وكما قال جل وعلا: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ }[الحج:37]، وقال في الغاية من الصوم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183].
فكل عمل خلاصته وثمرته هي هذه النفس وتزكيتها.
التزكية سبب لدخول الجنة والنجاة من النار
التزكية عربون الجنة، وستار من النار كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [طه:75-76]، ويقول سبحانه وتعالى في الوقاية من النار: { وَسَيُجَنَّبُهَ ا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }[الليل:17-18].
إذاً: التزكية سبب لدخول الجنة وستار ووقاية من النار.
التزكية سبب طهارة القلب وصلاحه
هذا جامع لكل ما سبق وهو: أن التزكية مناطها القلب، والقلب هو قطب الرحى، فإن الله جل وعلا قال: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }[الحج:46].
فإذا عميت القلوب عميت معها البصائر، وتعذّرت كل أسباب الفلاح، فيضل الإنسان، ويتخبط في عمله -عياذاً بالله سبحانه وتعالى-؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام مبيناً أن الأمور كلها مرتبطة بالقلب وصلاحه: " ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
أفلا يكون لهذه التزكية الأهمية الأولى والكبرى في حياة الإنسان المؤمن؟ وإن كان فيه خير، وإن كان مصلياً عابداً، وإن كان متقرباً ذاكراً، فإن فقه التزكية هو الذي يقويه على هذه الطاعات، ويجني له ثمرتها على أتم وأكمل صورة بإذن الله سبحانه وتعالى.
ولذلك أذكر الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في قصة الرجل الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً بالجنة، فصحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ليرى فعله، فلم ير منه كثير صلاة ولا صيام، فلما سأله قال: (ليس من شيء إلا ما رأيت، غير أني أبيت وليس في قلبي على أحد من المسلمين غشاً ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه) فلما تطهّر من هذه الآفات -كما يقول ابن القيم :- صلُحت سلعته لعقد: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة:111] أما النفوس المليئة بالأكدار، والقلوب المليئة بالأوضار، فليست سلعة تقدم بين يدي الله سبحانه وتعالى.
فلذا كانت التزكية مدار الأمر وأوله وآخره، وعليها -بإذن الله سبحانه وتعالى- المدار في الفلاح والنجاح، نسأل الله جل وعلا أن يزكي نفوسنا، وأن يطهر قلوبنا.

أهمية تزكية النفس في ظل طبيعة النفس البشرية وكثرة الفتن
هناك تعليل أخص من هذا التعليل العام، لاختيارنا موضوع التزكية ليكون حديثاً إلى من يُظن بهم الخير! ليسوا فقط من الذين يؤدون الفرائض، بل ومن المقبلين على الطاعات، المرتادين للمساجد، الحريصين على العلم، وقد يظن البعض أنهم لا يحتاجون إلى مثل هذا، فتعليلاً لهذا الأمر على وجه الخصوص أقول: من وجهين أردت أن يكون الحديث -على وجه الخصوص- موجهاً لمن فيهم الخير، ومن هم على خير.
حاجة النفس البشرية إلى التزكية مهما كان حظها من الطاعات
معرفة أهمية التزكية أصالة منهج في سياسة النفس، ووضوح رؤية في معرفة طبيعة هذه النفس، وطبيعة هذا الدين، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] فالأمر كما قال حذيفة رضي الله عنه: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً).
إذاً: ليست التزكية مفقودة -أو ناقصة- عند العصاة فحسب، بل هي ناقصة أو مفقودة عند كثير من الطائعين؛ لذا وجب التذكير بها لهم، وهم فيها قدوة، فإذا فُقدت التزكية من أهل الخير والصلاح والطاعة، فماذا في بقية الناس من المتلبسين بالبدع أو المنغمسين في الشهوات والمعاصي؟ فهي -لاشك- أكثر بُعداً ومجانبة لحصولها في أنفسهم؛ لذلك نوجه الحديث لنا نحن الذين نظن بأنفسنا خيراً؛ لأننا أحوج ما نكون إلى هذا الأمر، ولأن فقده فينا خسارة عظمى لنا، وللناس أيضاً ممن هم أبعد منا عن الخير، أو أقصر همة في الاستباق إليه.
كثرة الفتن تجعل حاجتنا إلى التزكية أكثر من حاجة السلف إليها
هذا إدراك للواقع الذي كثرت فيه الفتن التي تغزو القلوب، والشهوات التي تفسد النفوس، أصبحت الدنيا تجذب الناس وتخطف أبصارهم وبصائرهم إليها، فنحن في عصر مهما كان للإنسان فيه من الخير فلابد أن يعترضه من الشر ومن سهام الفتن ما لا يكاد يحتمل، فلذلك كان لابد لنا من أسلحة مضادة، كما أن هناك في الحرب أسلحة مضادة للطائرات، فهناك أيضاً أسلحة مضادة للشهوات وللشبهات لابد أن تكون عند الإنسان، فإذا كان الإنسان يتوقع مثلاً أن عدوه لا يملك إلا رصاصة واحدة، فإن احتياطه سيكون محدوداً، ودفاعه يسيراً؛ لأنه يعلم أن العدو يملك سلاحاً ضعيفاً وذخيرة قليلة؛ فبمجرد أن تنتهي هذه الذخيرة فهو في مأمن، أما إذا علم الإنسان أن عدوه أكثر قوة فإنه سيستعد له بما يكفي لردعه وردّ كيده عنه.
فإذا علم المسلم أن الدنيا تصب عليه فتنها وشهواتها ليلاً ونهاراً، سماعاً ورؤيةً، وقراءةً واطلاعاً، بهذا الكم العجيب من هذه الرزايا والبلايا، فإنه لابد أن يعرف أنه في حاجة إلى جهد أكبر.
وإذا كنا نسمع من أهل الصلاح وأهل الإيمان من السلف الصالحين حرصهم على الطاعات وعلى تزكية النفوس، رغم أنهم لم يكونوا يجدون من هذه الفتن والشهوات مثلما نجد؛ وجب علينا -حينئذ- أن ندرك أننا في حاجة أكثر لتزكية النفوس.
ولذلك فقه الدعاة المخلصون هذا الأمر، فحرّضوا طلبة العلم، ومن دخل تحت مسمى الالتزام بالدين وشباب الدعوة اليوم؛ أن يكون حرصُهم على تزكية النفوس أبلغ، وربما أكثر من حرص السابقين؛ لأن السابقين لم يكونوا يجدون مثل ما نجد من الفتن؛ ولذلك يقول الراشد جزاه الله خيراً: (والمؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية)، لماذا أشد حاجة؟ لأنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، وكان أهل المعاصي والفسق يُجهدون أنفسهم في التستر والتواري عن أعين العلماء، وسيوف الأمراء، أما الآن فإن المدنيّة الحديثة جعلت الكفر بجميع مذاهبه مسموعاً مرئياً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف والمجلات، وجعلت إلقاءات شياطين الإنس والجن قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المسلم من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ابتعاد كثير من الدول والشعوب الإسلامية عن تحكيم شرع الله، فوجب على المسلم من المجاهدة والمراقبة -لوقته وقلبه- أكثر مما كان يجب على السلف.
وهذا دليل فقه وفهم لاحتياج الواقع، ولذلك قال النورسي رحمة الله عليه: (إن هذه المدنيّة السفيهة المصُيّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباح مساء؛ غَلُظَ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة) أي: بسبب هذه الفتن وقربها والتصاقها بالناس، بحيث يسمعونها ويرونها، فغلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لا يخرق ولا ينقشع هذا الحجاب إلا بصرف همة عظيمة، ولذلك اخترنا هذا الموضوع المهم.
مدخل جامع لتزكية النفس
لابد أن ندرك أن التزكية متعلقة بأمر واحد وهو (القلب)، والقلب مُتقلّب، والقلب لا يظهر للعيان، وهو سريع التأثر، فلذلك كانت المهمة صعبة، ولذلك يُعبّر ابن القيم رحمة الله عليه عن جوهر هذه التزكية، وخلاصة المعركة والمعاناة والمجاهدة فيها فيقول: (والمقصود أن يكون ملك الأعضاء -وهو القلب- قائماً بعبوديته لله سبحانه وتعالى هو ورعيته).