التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل


للدكتور صلاح الدين إبراهيم حماد

الهدف إلى تسليط الضوء على التوجيه التربوي في الخطاب القرآني من خلال بيان ماهيته، والأهمية الشرعية والتربوية له وطبيعته وخصائصه، كما سلط الضوء على مجالات التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل من خلال وجوه عدة، منها ما يحدثنا عن تاريخهم القديم لنأخذ العبرة، ومنها ما تناول ذلك في معـرض ذكر الأنبياء والرسل الذين أرسلوا إليهم والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام. ثم تطرق للحديث عن أساليب التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل الذي يـأتي فـي معرض المدح والذم لهم؛ لاستخلاص العظات والدروس.


خصائص التوجيه التربوي في الخطاب القرآني
الربانية: فالتوجيه التربوي في الخطاب القرآني رباني المصدر من لدن عليم خبير: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه: 113) فهو وحي وتكليف من الله وليس من صنع البشر، فجاء خالدًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مُنزلًا من حكيم هاد.

ثبات الأسس: تتميز التوجيهات التربوية بالثبات والخلود لأنها صالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس:64).

الوضوح: تتسم التوجيهات التربوية في الخطـاب القرآني بالبساطة وعـدم التكلـف وبمـا يتناسب مع الفطرة الإنسانية، قال تعـالى: {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل:36).

الشمول: تتميز التوجيهات التربوية بالشمول لجميع جوانب الحياة الإنسانية بهدف إصلاح شأن الإنسان والارتقاء به من خلال الدعوة للإصلاح لقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142) وشموله في التوجيه للفرد والجماعة مراعيًا مصلحة الطـرفين ولا تعارض بينهما، كما ورد في ألفاظه: اعبدوا، أوفوا، أتأكلون... الخ

التوازن: راعت التوجيهات التربوية في الخطاب القرآني التوازن بين حاجات الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}. (القصص: 77).

الواقعية: تعامل التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بواقعية مع النفس البشرية مراعيًا دوافعها وحاجاتها في حدود قدراته وطاقاته؛ لذلك تأمره بالتقوى لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286). وكما جاء في الهدي القرآني: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16).

التطبيق العملي: يجسد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني التطبيق العملي في الحث على العمل الصالح الهادف المبني على علم، قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: 88). وكما جاء في الهدي القرآني، قال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2)

الاستمرارية: عزز المنهج التربوي في الخطاب القرآني الاستمرارية في الدعوة لكل مـن يحتاج إليها صغيرًا وكبيرًا وكذلك المجتمع، ويتضح ذلك في نصح إبراهيم عليه السلام لأبيـه، ونوح عليه السلام لابنه، ودعوته لقومه ليلًا ونهارًا، قال تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (نوح: 9-10) قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43).


مجالات التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل
يرتكز التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل على أصول عقائديـة وتهذيبية وتشريعية تتلاقى جميعًا في منهج تكاملي يُصلح من شأن الإنسان ويعمل على إسعاده في الدنيا والآخرة.
وقد تبين من خلال البحث في الآيات القرآنية ورود الخطاب القرآني بصيغة بني إسـرائيل فـي مجالات عدة تناولت الأدب التربوي في تاريخهم القديم، ومنها ما تناول الجانب الأخلاقي والفكري والاجتماعي أو غيره في معرض ذكر الأنبياء والرسل الذين أرسلوا إليهم، والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام؛ وفي مجال آخر يرد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل عندما يحدثنا الحق عن التشريعات التي شرعها لهم.
وقد ورد أيضًا التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل لليهود في زمن رسول الله ﷺ في أحوال مختلفة، لكل مجال منها جانبه التطبيقي التربوي الذي نسـلط عليه الضوء في حينه.
الأدب التربوي في تاريخهم القديم من خلال نص التنزيـل

يرد الخطاب القرآني بصـيغة بني إسرائيل على وجوه عدة يجدر بنا- قبل الخوض في الحديث عنها- أن نسـلط الضـوء علـى تعريف معنى إسرائيل.
التعريف: إسرائيل اسم أعجمي، ولذلك لم ينصرف، وقد ورد له عدة معانٍ، منها ما حدثنا عنه ابن عباس بقوله: «إسرا بالعبرانية هو عبد، وإيل هـو الله». وهناك آراء أخرى.
أما في ضوء ما ورد في أدبيات الفكر الإسلامي فإن إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي عن شهر بن حوشب، قال حدثني عبد الله بن عباس قال: قد حضرت عصابة من اليهود يومًا على النبي ﷺ فقال لهم: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا، وطال سقمه منه، فنذر اللهَ عز وجل نذرًا لئن شفاه من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه ألبان الإبل وأحب الطعام إليه لحم الإبل، قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله ﷺ: اشهد عليهم».

التوجيه التربوي في الخطاب القرآني
لقد جاءت التوجيهات التربوية في الخطاب القرآني عـن بني إسرائيل على وجوه عدة:
أولًا: يرد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة (بني إسرائيل) حتى يحدثنا عن تاريخهم القديم لنأخذ العبرة والعظة التي نستمد من التعاليم القرآنية قيمتها بصفة عامة من حيث إنـها موجهة إلى من يملك من الناس عقلًا راجحًا.
في ضوء ما سبق نرى بأن هذه التسمية تسموا بها قديمًا حين كانوا في مصر: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (طه: 47) واستمرت هذه التسمية بعد موسى عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } (البقرة: 246)، وظلت هذه التسمية ملازمة لهم حتى حين فسادهم، وعلوهم في الأرض بغير الحق،: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (الإسراء: 4)، وظلت هذه التسمية مستعملة فـي زمـن عيسى عليه السلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّي نَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14).

ثانيًا: يرد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة (بني إسرائيل) في معرض ذكر الأنبياء والرسل الذي أرسلوا إليهم والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام؛ فقد أرسل الله لهم رسلًا فكذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم الآخر: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (المائدة: 70).

واقتضت حكمته أن يجعلهم أكمل البشر خلقًا وأفضلهم علمًا وأشرفهم نسبًا ليكونوا حملة مشـعل الهداية والإصلاح لبني إسرائيل وما كان ذلك إلا بالاختيار والإعداد والتربية ولقد أشار التوجيـه التربوي في الخطاب القرآني إلى ضرورة اختيار الموجهين وإعدادهم في حديثه عن إبراهيم عليه السلام: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل: 121).
وكذلك أرسل الله لهم عيسى عليه السلام رسولًا بعثه الله لبني إسرائيل، وعلى هذا فرسالته خاصة ببني إسرائيل، وليست عامة: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 49)، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف:6).
ولذلك نجد أنبياء بني إسرائيل– عليهم السلام– يستخدمون هذه التسمية في مخاطبة أقـوامهم، أو حين الحديث عنهم: فعندما أنزل الله عز وجل التوراة على موسى عليه السـلام، وفيهـا نـور وهداية لهم قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} (غافر: 53).
كذا هارون عليه السلام: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94)، وبهذه التسمية خاطب عيسى عليه السلام قومه، حين دعاهم إلى عبادة الواحد الأحد.
وبهذه التسمية لعن أنبياء بني إسرائيل الذين كفروا من قومهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78).


ثالثًا: يرد الخطاب القرآني بصيغة (بني إسرائيل) عندما يحدثنا الحق في محكم التنزيـل عـن التشريعات التي شرعها لهم؛ ليذكرهم بحدود الله ونعمه عليهم؛ فقد ورد هذا الاسم عند ذكر أخذ العهود، والمواثيق منهم،: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّ كُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (المائدة:12).

ثم ورد هذا الاسم أيضًا عند ذكر تشريع القصاص كما في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 32).

رابعًا: ويرد هذا الاسم في معرض بيان أن هذا القرآن يبين الحق الذي اختلف فيه بنو إسرائيل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76).

بهذا فقد اشتمل التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل على إشارات تربويـة لبيـان أهمية الانتباه في التوجيه والتعليم واكتساب المعرفة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37).

خامسًا: كما ورد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل لليهود في زمـن المصطفى ﷺ في المواقف التالية:

يطلق على الذين أسلموا منهم واتبعوا الحق وآمنوا بمبعثه وصفاته ﷺ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الأحقاف: 10).

ويطلق عليهم حين يذكرهم بسالف نعم الله على آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به مـن إرسـال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم، وتفضيلهم على سائر الأمم، من أهل زمانهم، ليحثهم على الإيمان من خلال تذكيرهم بما أنعم عليهم في مواضع عدة كما في قوله تعالى: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (المائدة: 20) يوجه المولى عز وجل النداء إلى بني إسرائيل ويمن عليهم ويذكرهم بأنه منحهم الحرية والنِّعَمَ والمُلك بعد أن استكانوا للعبودية والذل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 47)، يقرر الخطاب لبني إسرائيل بطريقة النداء مماثلًا لما وقع في خطابهم الأول بقصـد التأكيـد للاهتمام بهذا الخطاب وما يترتب عليه، فإن الخطاب الأول قصد داعية لامتثال ما يرد إليهم من الله من أمر ونهي للوقوف عند حدوده تعالى. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقـرة: 122) يتكرر نداء بني إسرائيل في آيات الذكر الحكيم مرة أخرى للتنبيه، والتذكير– والتأكيد– والإنـذار والحث على اتباع الرسول النبي الأمي محمد ﷺ الذي يجدون صفته في كتبهم: محذرهم من كتمان هذا أو كتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعم الله عليهم مـن الـنعم الدنيوية والدينية، ويطلق على اليهود هذه التسمية حين يذكرهم بسالف نعمه على آبائهم وأسـلافهم وما كان فضلهم به، ليحذرهم من مغبة الإعراض عن دلائل الله تعالى لأن عقابه شـديد كما ورد في نص التنزيل بقوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 211).

ومعنى الآية سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات وأنكروها، استوجبوا العقاب مـن الله تعالى، وذلك تنبيهًا لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم لأخذ العظة والعبرة.

أساليب التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل
على هذا يمكن إجمال أساليب التوجيه التربوي- على سبيل المثال لا الحصر- التي أمكن اشتقاقها من خلال الخطاب القرآني لبني إسرائيل على النحو الآتي:

القدوة: يكتسب التوجيه القدوة أهميته من خلال كونه يقدم نموذجًا سلوكيًا عمليًا يوفر الجهـد والوقت على المعلم ويتبع الفرص للمتعلم لاكتساب خبرات جديدة، كما ورد على لسان موسى عليه السلام: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:142)، فالقدوة من أهم العوامل المؤثرة في التربية. والقدوة نوعان: قدوة مطلقة: معصومة متمثلة في الرسل. وقدوة مقيـدة: كمـا هـي فـي الصالحين والأتقياء والمربين وهي ذات تأثير عميق في النفس.

أسلوب النداء الإقناعي: إنه نداء إقناعي مصحوب بالتودد وإثارة العاطفة كما ورد على لسان هارون لموسى عليهما السلام: {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} (طه: 94). وكما ورد في خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه قائلًا: «يا أبت» أربع مرات، وفي هذا دلالـة علـى الأدب والتوقير وتوظيف البعد الإنساني الذي يشكل بعدًا هامًا بشخصية الموجه والمدعو فهو ابن وأب وصديق وقريب ومواطن وإنسان. ولا ينبغي للداعية أن يغفل هذا الجانب وإلا فانه يسيء لنفسه وإلى دعوته.

توجيه الانتبـاه: يشير التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل على إثارة الانتبـاه إلى خطأ ليصحوا من ضلالتهم، وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 47). وهذا نداء التنبيه والإنذار والتذكير ههنا للتأكيد على اتباع الرسول النبي الأمـي الـذين يجـدون صفته في كتبهم نعته وصفته وأمره وأمته، وحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم.

أسلوب التوجيه بالحوار: قد استخدم الخطاب القرآني هذا الأسلوب في الحوار بـين الرسـل وأقوامهم، ومثال ذلك حوار نبي الله إبراهيم مع قومه لتوجيههم، ولقد استخدم الأنبياء عليهم السلام أسلوب الحوار مع بني إسرائيل عبر الخطاب التربوي القرآني المنطقي الهادئ المصحوب بالنداء الإقناعي، قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 211). ويؤكد بعض الباحثين على أن الحوار كان ولا زال من أنجح الأساليب والوسائل فـي التوجيـه والتربية التعليم.

أسلوب التوجيه بالتوبة والاستغفار: إن التوبة والاستغفار أسلوب هام في التعلـيم والتربيـة، وينفرد الفكر الإسلامي في فتح هذا الباب الواسع للمسلم ويجعله مفتوحًا إلى نهاية العمر. ويشير التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل إلى أساليب تغيير الذات وذلك بالاستعانة بالله، فقد جاء على لسان موسى عليه السلام لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (الأعراف: 128). كما ورد التوجيه بالتعريض كما في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67)، وهذا أسلوب تعريض يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وفي هذا دفعٌ لهم إلى إجادة الأدب والتوبة والاستغفار، قال تعالى عن موسي عليه السلام: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 143).

أسلوب التوجيه ببيان الخطأ وإصلاحه: كما ورد في الحوار بين موسى عليه السلام وقومـه: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138)؛ فموسى عليه السلام قد وجه قومه للإله الحق عندما انحرف فكرهم، فقد وجههم إلى خطئهم وقـام بتصحيح مفهوم الإله عندهم فورا لأن التأخر في عملية التوجيه قد يضعف ويقلل تأثيرها علـى النفس الإنسانية.

أسلوب التذكير بالنعم: كما جاء على لسان موسى لقومه: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (المائدة: 20). فلقد أمتن عليهم وذكرهم بأنه منحهم الحرية والنعم والملك بعد أن استكانوا للعبودية والذل.


النتائج

أن بني إسرائيل هم قوم أو شعب من سلالة نبي الله يعقوب عليه السلام، أُطلِق عليهم هذا الاسـم حيث مقامهم في مصر بعد يوسف عليه السلام.

خاطبهم الله تعالى بهذا الاسم، كما كان الرسل يخاطبونهم بهذا الاسم، سواء كان خطاب مـدح أو ذم.

خطاب القرآن، لهم بهذا الاسم في زمن رسول الله ﷺ يأتي في حالتين:

الأولى: يطلق على الذين أسلموا منهم واتبعوا الحق.

والثانية: يطلق عليهم حين يذكرهم بالنعم التي أنعم الله بها على أسلافهم ليحثهم على الإيمان.

أن دولة إسرائيل الحالية قائمة على أساس ديني، فإسرائيل هو الاسم الثاني لبني يعقـوب عليـه السلام وعلى هذا يكون عداء إسرائيل للمسلمين قائمًا على أساس ديني.

وتأتي التوراة بعهد وتشريعات ووصايا عشر، وتكون الحاكمية المطلقة على هذا الشعب كلـه فلا اجتهاد ولا تصرف بشري ولا استخلاف، بل كلما مات نبي أو قُتل خلفه نبي آخر لينقل تعليمات الله المباشرة إلى بني إسرائيل وينقل طلبات الشعب إليه جل شـأنه فهـي منظومـة حسية تهيمن عليها الإرادة الإلهية بشكل ظاهر، وعلى هذا فبنوا إسرائيل الذين عاشوا فـي مصر الفرعونية وبعث فيهم رسول الله موسى عليه السلام لينقذهم من ذل العبودية وليجاوز بهم البحر بمعجزة خارقة تقودهم للاستقرار في الأرض المقدسة فيقيموا النموذج الذي يبـرز الفروق الهائلة بين العبودية للعبيد، والعبودية ﷲ تعالى- قد أصيبت تجربتهم بإخفاقات هائلـة انتهت بالفشل التام واستبدلت بهم أمة النبي محمد ﷺ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر: 32) وبهذا تم الاصطفاء إلى أمة خاتم الأنبياء والمرسلين، التي حملت هذه الأمانة لتبليغها.