ما المقصود بالنقصان في هذين الحديثين ؟ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر" وجملة { لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي }---------قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وقوله : لم ينقص مما عندي فيه قولان :
أحدهما : أنه يدل على أن عنده أمورا موجودة يعطيهم منها ما سألوه وعلى هذا فيقال لفظ النقص على حاله لأن الإعطاء من الكثير وإن كان قليلا ؛ فلا بد أن ينقصه شيئا ما , ومن رواه : لم ينقص من ملكي يحمل على ما عنده كما في هذا اللفظ ؛ فإن قوله : مما عندي فيه تخصيص ليس هو في قوله : من ملكي
وقد يقال : المعطي إما أن يكون أعيانا قائمة بنفسها أو صفات قائمة بغيرها ؛ فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل فيظهر النقص في المحل الأول , وأما الصفات فلا تنقل من محلها وإن وجد نظيرها في محل آخر كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم , وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني , وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئا وهي من المسؤول كالهدى .
وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات أن لا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول كاللون الذي ينقص , وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على حمى المدينة أن تنقل إلى مهيعة وهي الجحفة , وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول أو بوجود مثله من غير انتقال عينه ؟ فيه للناس قولان :
إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانا كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما كبرغوث وحفص الفرد
لكن إن قيل : هو بوجود مثله من غير انتقال عنه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني .
والقول الثاني : أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أن الخضر قال لموسى لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر فقال : يا موسى مانقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر .
ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منه شيء بتعلم العباد وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ماعلق بمنقار العصفور إلى البحر
ومن هذا الباب كون العلم يورث كقوله : العلماء ورثة الأنبياء ومنه قوله : { وورث سليمان داود } ومنه توريث الكتاب أيضا كقوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } ومثل هذه العبارة من النقص ونحوه تستعمل في هذا وإن كان العلم الأول ثابتا كما قال سعيد بن المسيب لقتادة وقد أقام عنده أسبوعا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه وقال : نزفتني يا أعمى وإنزاف القليب ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقى فيه شيء ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يزل علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب .
لكن قد يقال : التعليم إنما يكون بالكلام والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم كما قال تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } ويقال : قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض مايقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته .
ومضمونه أنه في تلك السبع الليالى من كثرة ما أجابه وكلمه ففارقه أمور قامت به من حركات وأصوات بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفا .
ومما يقوي هذا المعنى أن الإنسان وإن كان علمه في نفسه فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل وقد ينساه ثم يذكره فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تكل النفس وتعيى حتى لا يقوى على استحضاره إلا بعد مدة فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالما بالفعل , وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع ومن قال هذا يقول كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه .
وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتاد في مثل ذلك وإن كان هو سبحانه منزها عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه أو على زوال علمه عنه لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم .
وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله وما نال علمي وعلمك من علم الله وما أحاط علمي وعلمك من علم الله كما قال : { لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر أي نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا وإن كان المشبه به جسما ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول وليس المشبه كذلك فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس كما قال صلى الله عليه وسلم : - إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر - فشبه الرؤية بالرؤية وهي وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي فكذلك هنا شبه النقص بالنقص وإن كان كل من الناقص والمنقوص منه المشبه ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبهه به ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث يقتبس منه كل أحد ويأخذون ما شاءوا من الشهب وهو باق بحاله .
وهذا تمثيل مطابق فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارا من جنس تلك النار وإن كان قد يقال أنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم , ولهذا قال علي رضي الله عنه : العلم يزكو على العمل أو قال : على التعليم والمال ينقصه النفقة .
وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر : أن قوله : مما عندي وقوله : من ملكي هو من هذا الباب وحينئذ فله وجهان :
أحدهما : أن يكون ما أعطاهم خارجا عن مسمى ملكه ومسمى ما عنده كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسى والخضر .
والثاني : أن يقال : بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده ولكن نسبت إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة .
ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روى هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر مرفوعا فيه : لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغزر أبرة لو غمسها أحدكم في البحر وذلك إني جواد ماجد واجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون فذكر سبحانه أن عطاءه كلام وعذابه كلام يدل على أنه هو أراد بقوله : من ملكي ومما عندي أي من مقدوري فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم . والله أعلم
ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر : لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر , وهذا قد يقال فيه أنه استثناء منقطع أي لم ينقص من ملكي شيئا لكن يكون حاله حال هذه النسبة وقد يقال بل هو تام والمعنى على ما سبق .
مجموع فتاوى ابن تيمية »https://www.islamweb.net/newlibrarybookid=