قصة المجادلة.. قطوف تربوية
حمدي رحيم شعيب
صاحبة القصة نموذج للمرأة المسلمة المعتزة بكرامتها المراقبة لخالقها قصة المجادلة.. قطوف تربوية
عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: "وَاللَّهِ، فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ - عز وجل - صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ فَقُلْتُ: كَلا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: يَا خُوَيْلَةُ، ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَتَغَشَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) (المجادلة 1) إِلَى قَوْلِهِ وللكافرين عذاب أليم (4) (المجادلة)، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ . قَالَتْ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال: قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْرًا. قَالَتْ فَفَعَلْتُ". قَالَ سَعْدٌ: "الْعَرَقُ: الصَّنُّ". (1).
وردت هذه القصة، في مطلع سورة (المجادلة).
وفي هذه السورة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه.
هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية؛ فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغير فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها". (2).
وبتدبر آيات القصة يمكننا أن نضع أيدينا على بعض السمات أو الركائز؛ التي تجعل من خولة - رضي الله عنها -، شاهدة صادقة وموثقة على عصرها؛ ولتكون خير دليل، وبرهان عملي على مكانة المرأة في هذا المجتمع الرباني.
السمة الأولى: قدرتها على إدارة الأزمة:
لقد أوضحت خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها -، أن سبب المشكلة، وبداية القضية؛ أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت أخا عبادة ابن الصامت - رضي الله عنهما - في شيء مما أثار غضبه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي؛ أي محرمة عليّ، وهو من الطلاق في الجاهلية.
ثم بعد ذلك أراد زوجها - رضي الله عنه - أن يباشرها فأبت، وخرجت قاصدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شكواها، ورفع القضية إليه.
وقد ورد أن أوساً كان "امرءاً به لمم فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته وإذا ذهب لم يقل شيئاً". (3).
وسنرى كيف تصرفت خولة - رضي الله عنها - تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.
السمة الثانية: فقهها لأدب الاختلاف:
وعندما نورد هذا المثال إنما نورده، لنفتح باباً في التربية، وهو أنه إذا كان هؤلاء بشراً يخطئون، ويتشاحنون، ويختلفون، ولكن كان يظلل هذا الخلاف ضوابط معينة؛ لم تك تغيب عن امرأة من ذلك الجيل القرآني العظيم.
"وليس هذا من باب الطعن بالسلف بحالٍ من الأحوال، ونعلم أن الله - سبحانه - يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون 16. (الأحقاف) "نعم إنه ليس الطعن، ولكنها دعوة إلى الواقعية في فهم تاريخنا". (4).
وندرك أيضاً أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة ومطردة، من سنن الله - عز وجل - الإلهية. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين 118 إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين 119. (هود)
إذن لا يحق لنا أن نذهل أمام المشكلات والخلافات؛ التي تقع سواء على محيط الأفراد، أو على محيط الأسرة الواحدة، أو على محيط المؤسسات.
ولكن الخطورة هي أن ينقلب هذا الخلاف الظاهري إلى خلاف باطني مذموم، بل ومحرم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(5).
والعجيب أننا لا نعي ولا نستفيد مما وصل إليه الإداريون التربويون، في هذا الجانب؛ لقد وصلوا إلى خلاصة تعتبر قاعدة تربوية دعوية، نحن أحق بأن نعيها، وهو أن الخطأ يعتبر ظاهرة صحية في حق الجماعات، وليس الأفراد فقط؛ لأنه طريق التجربة والرصد والمعرفة ثم النماء إلى ما هو أفضل، "فالقائد يدرك أن للجماعة الحق في أن تُخطئ، وأنها لا تنمو إلا إذا تعلمت كيف تتحمل المسؤولية كاملة لِمَا تُصدره من قرارات وما تحسمه من أمور"(6).
ومن هنا يتبين لنا ألا نذهل، ولا يصيبنا الإحباط إذا رأينا بعض الخلافات الداخلية، وننظر إليها برؤية المنهج، الذي جاء ليرقى بالبشر، من حيث هم، ولم يعاملهم كملائكة مبرؤون من النواقص.
السمة الثالثة: الورع والخوف من الله:
لقد كان موقف خولة - رضي الله عنها - عظيماً وفريداً، عندما حكت عن زوجها عندما خرج وعاد؛ فقالت: "ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي قَالَتْ: فَقُلْتُ كَلا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ؛ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ً".
فتدبر أحداث تلك الواقعة، والملابسات التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج، من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الحق - سبحانه -.
وتذكر كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود؛ وهي طاعة مبصرة في غير معصية لله - عز وجل -؟.
ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حل تلك المشكلة العائلية، من أجل المحافظة على كيان الأسرة.
وهذا ما يشعرنا بالمستوى الراقي من الأخلاق والورع، الذي ربيت عليه المرأة في هذا المجتمع الرباني الفريد.
يتبع