من المعاني القرآنية للحج منافع دنيوية وأخروية
د. زيد بن محمد الرماني

الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر بشري عظيم، يجد فيه المسلمون أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل - عليه السلام -.
الحج مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع المادية الاقتصادية والمعنوية الفكرية والثقافية والإعلامية.
يقول - عز وجل - في كتابه العزيز:"وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى"كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم"(الحج).
قال المفسرون - رحمهم الله -: إن الله - سبحانه - لما أمر بالحج في قوله"وأذن في الناس بالحج"، ذكر حكمة ذلك الأمر بقوله:"ليشهدوا منافع لهم".
واختلف المفسرون في هذه المنافع، وقد حملها بعضهم على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة، وبعضهم حملها على منافع الدنيا، وهي التجارة في أيام الحج.
والأْولى حملها على الأمرين جميعاً، يقول ابن الجوزي - رحمه الله - في تفسيره: والأصح من حملها على منافع الدارين جميعاً، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإنما الأصل قصد الحج والتجارة تبع.
ثم إن المنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام كثيرة، فهناك المنافع الروحية التي تفيض من جلال المكان وروعته، وبركته، وهناك المنافع الاقتصادية المادية، إذ يعتبر الحج مؤتمراً إسلامياً لحل مشكلات المسلمين الاقتصادية، كما أن في الحج رواجاً اقتصادياً للمسلمين من خلال توزيع وتبادل وبيع وشراء السلع والخدمات اللازمة، إضافة إلى منافع البُدْن والذبائح للفقراء والمساكين والمحتاجين، ومنافع التجارة وكسب المعيشة أيام الحج خاصة.
ولذا، قال - عز وجل - في محكم كتابه وهو يخاطب عباده الحجاج:"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"(البقرة: 1998).
يروي البخاري - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنه - سبب أن نزول هذه الآية أن ذا المجاز وعكاظ كانتا متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت الآية.
وقد أوضح علماؤنا أنه من الممكن قياس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام، فلدفع هذه الشبهة نزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، أي تطلبوا عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والاسترباح منها.
يقول القرطبي - رحمه الله - في تفسيره: لما أمر الله - سبحانه - بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال، رخَّص في التجارة وهي من فضل الله.
ومن رحمته - سبحانه - أن سمَّى إباحة البيع والشراء والكراء في الحج، ابتغاءً من فضله، ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضله، حين يتجر، وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق.
ومن أجل ذلك، فقد أمر - عز وجل - عباده الحجاج بالتزود لرحلة الحج، فقال - سبحانه -:"وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"(البقرة: 197).
يقول القرطبي - رحمه الله - في تفسيره أمر الله - سبحانه - عباده باتخاذ الزاد، حيث كانت طائفة من العرب تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فكانوا يبقون عالة على الناس فنهوا عن ذلك وأُمروا بالزاد.
وغير خاٍف، أن التزود شمل التزود للأسفار الدنيوية، والتزود بالأعمال الصالحة، فقد قال علماؤنا: أمر - عز وجل - بالتزود لسفر العبادة والمعاش، وزاده الطعام والشراب، والمركب والمال، وبالتزود لسفر المعاد، وزاده التقوى والعمل الصالح.
كما أن في الآية دعوة للتزود في رحلة الحج، زاد الجسد وزاد الروح، فقد جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام، والتقوى زاد القلوب والأرواح.
وعليه، فينبغي أن يكون زادنا إلى الآخرة باتقاء القبائح، فإن ذلك خير الزاد، فليس السفر من الدنيا بأهون من السفر في الدنيا، وهذا لابد له من زاد، فكذا ذلك بل يزداد.
ختاماً أقول:إذا كان زاد الدنيا يُخلِّص من عذاب منقطع موهوم، فإن زاد الآخرة ينجي من عذاب أبدي معلوم.