شباب الشات والدردشة
حجازي عبد المنعم سليمان

اعتاد بعضُ شباب هذا العصرِ قضاءَ يومهم أمامَ واحدةٍ من شاشات الحياة الخادعة، مثلها مثل
التلفاز وقنوات الكابل، وأمام ما يسمَّى بالشات أو الدردشة لساعات طويلة، بهدف وبغير هدف، وحينما نسأل بعضَهم عن هدفه، فيرد أحدهم بأنه - وبكل صراحة - يسعى للتعرُّف إلى فتاةٍ ما، ربما من عالمنا، وربما من عالم الأوهام، على ما صوَّرها له عقله، وربما يراوغ آخر مدعيًا أنه يبحث عن الأصدقاء والصحبة الجديدة، ويقول آخرون بأنهم يقتلون الوقت قبل أن يقتلهم، فيجلسون بالساعات الطويلة؛ كي ينقضيَ عمرُهم وهم لا يشعرون.
إني أتساءل: من أين يأتي الشاب بذلك الوقت، وهو مطالَبٌ بأمور كثيرة، ربما لا يمكِّنه وقتُه من الوفاء بها؟ فمثلاً هو طالب علم، أو عامل وعليه من الأعباء وشؤون حياته الأخرى الكثير، ولكنه يقصر، وحينما يُسأل عن ذلك، يرد قائلاً بأنه لا يملك الوقت الذي يمكِّنه من أداء فروضه وأعباء حياته.
حقًّا، عجبًا لمثل هذا الإنسان! كيف يكذب على نفسه بمثل تلك الصورةِ التي يكذب بها على الآخرين؟ وكيف يصدِّق كذبه ويدَّعي أنه يقول الحقيقة، مع أنه هو صاحب الكذبة، وهو أول من نطق بها، وأول من روَّج لها؟!
إنني لا أنكر فضْل الشات وخدماته التي يقدِّمها، ولكن سؤالي يقول: هل استفدنا من خدماته ووقفنا عند حدِّ الخدمة؟ ألم نتجاوز قليلاً - وربما كثيرًا - في قتْل عقولنا وألبابنا ونحن نبحث عن السراب أو الوهم؟ فكم من شابٍّ ضيَّع أوقاتَ صلواته وهو جالس مندمج مع نظيرٍ له! وكم حُرمة تم انتهاكُها! وكم من وقت ضيعه وهو في أمسِّ الحاجة إليه لعمله ودراسته وحياته وأولاده وزوجته! وكم من آفة جررتَها على نفسك وأنت واقف وكأن على رأسك طائرًا لا تتحرك، وكأن الدنيا ستفوتك!
وكم من مرة قمتَ فيها بعد وقت طويل، وقد شعرتَ بأن عقلك يكاد يطير، وأن ثمة صداعًا يكاد يفتك برأسك! وكم من حُلمٍ بل كابوس طاردك بعد نومك مباشرة لحلقة شات! وكم فتاة قابلتَ وغزوت بيتها، وأنت تعلم أنك لا تفعل ذلك دون ذاك الشات! هل أخذت موافقة أهلها على ما فعلتَ؟! وما رأيك لو رأيت أختك تفعل مع فتى ما تفعله أنت؟! هل ستكون رجلاً وتتخذ معها إجراءً قد يجعلك رجلاً ثم تطبقه على نفسك، أو أنك ستكون عصريًّا وتسمح لها بما سمحتَ به لذاتك؟!
لقد فاجأني أحد طلابي ذات يوم بسؤالٍ، ما كنتُ لأفهم قصده وقتَها، حينما قال لي: أتدخل مثلنا على الشات؟ فرددت بعفوية مجيبًا بنعم، فقال: هل عندك وقت لمثلِ هذه الأمور؟ ماذا؟ لقد صار الشات مهمًّا إلى درجة أننا أصبحنا نخصص له وقتًا لمزاولته، وكأنه فريضة يومية لا تستقيم حياتنا بدونه، فيا للعجب ويا للعار! هل أدَّينا واجباتنا جميعَها، وانتهينا من كافة مشاغل حياتنا؛ كي نخصص وقتًا نضيعه في الدردشة والثرثرة الفارغة على الهواء مع كل من "هب ودب"؟! والغريب حقًّا أنني حينما سألته عن سبب دخوله، فإنه أجاب بأنه يقتل الوقت!
ما هذا؟ أمَا زلنا نتحدَّث عن المجتمع الشرقي الإسلامي؟ أم أننا قد انتقلنا في واحدة من آلات الزمن الوهمية إلى عصرٍ آخرَ غريبٍ عنا بثقافته وعلومه وآدابه وسلوكياته؟! هل في العمر وقت يضمنه "مدردش" ما مع غيره سوف يعوض عليه الوقت الذي يضيعه "مدردشًا"؟!
لا والله، ما نملك مثلَ ذلك القدر من الوقت، ولعمري إن الحياة تخبئ لنا من مقدراتها ما نعجز عن تحمُّل تكلفته، وما زلنا نسعى كل يوم لتعويض ما يفوتنا، فنقول: "لو كنا فعلنا كذا"، و"لو أننا لم نضيع وقتنا في كذا"، وحينما يفوتنا موعد مهم، نقول: "لِمَ تأخرنا، ألم يكن باستطاعتنا التخلِّي عن اللهو واحترام مواعيدنا؟ أليس هذا مصدرَ رزقنا أو رزق أولادنا؟!".
وأيُّ دينٍ هذا الذي يسمح لنا باقتراف ما حرَّمه الله علينا؟! وكيف نقابل على الشات من لا نعرفه ولا يعرفنا، ثم نناقشه في آمالنا وأعزِّ أحلامنا؟! أإلى هذه الدرجة رخصتْ أنفسنا، فوزَّعناها على من نعرف ومن لا نعرف؛ كي تكون ألعوبةً أو مصدرَ سخرية الغير، ونحن من فعلنا هذا بها؟!
إن عقولنا تائهةٌ بين ضبابيات من الجهل، وعدم الرقابة، والبلبلة، وسوء التربية والنشأة، ولا أقصد هنا تربية الجسد؛ وإنما تربية المشاعر والأحاسيس والعقول والأفئدة، وهنا نناشد الوالد والوالدة والأخ والصديق، بأن يكون كلٌّ عونًا للآخر على عبور الحياة، وقد سمت عقولنا ومشاعرنا بحيث لا نَضر ولا نُضر، وليكن المسؤول في بيته مسؤولاً حقيقيًّا بما تنطوي عليه تلك المسؤولية، فاليومَ انخرط ولدي في علاقات مع أشباح إلكترونية، وغدًا قد تكون فتاتي الصغيرة، وبعدها قد تنقاد زوجتي خلف الفتنة، وهنا فإن الوالد هو من جرَّ على ذاته كلَّ هذا؛ لأنه لم يكن رقيبًا متابعًا، ولم يقم بدوره في حساب أولاده على ما يفعلونه في حجرات إلكترونية مغلقة.
والكارثة أن الآباء سيتعللون بقولهم: "وما الضير في ذلك إن كان أولادنا لا ينقادون ولا يتمادَون؟ "، فأقول: لم أقصد انتقاد ذلك النوع من التوجيه، ولم أسعَ إلى تسليط الضوء على ما يفهمه الجميع، ولكن سأسأل ذلك الوالد قائلاً: بحقِّ الله، هل تعلم كلَّ ما يفعله صغيرُك - أو صغيرتك - في تلك الحجرات المغلقة؟ وهل تعي إلى أي مدى قد تنساق الأحلام الضائعة خلف سراب من الوهم، بحجة البحث عن الذات؟ وهل تعلم أنت ذاتك كيف تتحكم في ذلك النوع من التعامل مع الأجهزة؟
وهذه الأخيرة مشكلة أخرى، وهي أن الشاب يفعل ما يفعل وهو على يقين في أغلب الحالات بأنه لن يُضبط؛ لأنه بكل بساطة يعلم مقدمًا بأن والده على جهل مطبق بهذا الغبي المسمَّى كمبيوتر، فما بالنا بتلك الموجات المتدفِّقة عبر أسلاك وموجات على الإنترنت وتحوي من الصور والأفلام السيئة ما هو كفيلٌ بإفساد العقول والأخلاق والأفئدة؟! هل حرَص الوالد يوم أدخل الحاسبَ بيتَه أن يتعلَّم مع ولده؟ إنه يفضل لعبة أخرى صار يتقنها مع خلاَّنه من الأقران في مقهى أو نادٍ ما، ولا يطيق صبرًا الانتهاء من عمله كي يسارع إليهم، تاركًا بيته بهمومه وآلامه في معية أمٍّ، قد تكون هي الأخرى عاملة، أو مرهقة من الخدمة طول اليوم في بيتها.
إنها مسؤولية مزدوجة، ومن لا يدرك حجمَ خطورتها، فإنه لا يرى، وليكن تأديبنا لأولادنا والثقة المتبادلة والصراحة المفرطة هي ديدننا، وليكن الوالد والوالدة أقربَ الأصحاب إلى بناتنا وأولادنا، نشاركهم أفراحهم وأحلامهم، ونعايشهم في واقعهم، ونهوِّن عليهم ما يصعب على قلوبهم الصغيرةِ احتمالُه، وليكن ولدي الصغير هذا صاحبي بديلاً لي عن صاحب المقهى، وابنتي المدللة الصغيرة بلسم جروحي وصديقتي؛ لنعبر معًا جسر الحياة بأيدي متشابكة نحو غدٍ مشرق من صنع أيدينا.