أثر ابن مسعود والرد على الإباضيين بقولهم القرآن مخلوق
الشيخ أسامة عطايا العتيبي


عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ((ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي)).
انظر التخريج في ركن الأسانيد وتخريج الحاديث

روى البخاري في خلق أفعال العباد(ص/33) عن سفيان بن عيينه أنه قال: [ إن كل شيء مخلوق ، والقرآن ليس بمخلوق ، وكلامه أعظم من خلقه لأنه يقول للشيء: كن فيكون . فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق ، والقرآن كلام الله ].
* وقال الترمذي(5/161رقم2884) حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال: (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي)
قال سفيان: لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض.
* ونقل الذهبي في السير(11/245-246) عن الإمام أحمد أنه قال –فيما وقع له من مناظرة الجهمية-: [واحتجوا بحديث ابن مسعود : (ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار ، والسماء والأرض ، ولم يقع على القرآن].
* وقال الذهبي في السير(10/578) : [قال أبو الحسن عبد الملك الميموني قال رجل لأبي عبد الله : ذهبت إلى خلف البزار أعظه بلغني أنه حدث بحديث عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: (ما خلق الله شيئا أعظم...) وذكر الحديث .
فقال أبو عبد الله : ما كان ينبغي له أن يحدث بهذا في هذه الأيام -يريد زمن المحنة-.
والمتن: (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي).
وقد قال أحمد بن حنبل -لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة-: إن الخلق واقع ها هنا على السماء والأرض وهذه الأشياء ، لا على القرآن .
قلت-القائل: الذهبي-: كذا ينبغي للمحدث أن لا يشهر الأحاديث التي يتشبث بظاهرها أعداء السنن من الجهمية وأهل الأهواء ، والأحاديث التي فيها صفات لم تثبت .
فإنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ، فلا تكتم العلم الذي هو علم ، ولا تبذله للجهلة الذين يشغبون عليك ، أو الذين يفهموم منه ما يضرهم ].
وانظر تاريخ الإسلام للذهبي "وفيات221-230"(ص/155-156) .
وأختم هذا البحث بقول جميل وبديع لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- .
قال -رحمه الله- في الفتاوى الكبرى(6/493) : [فقال : الحجة الرابعة لهم من السمعيات ما روى أبو الحسين البصري في الغرر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي))، وروى عنه -عليه السلام- أنه كان يقول في دعائه: (( يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم)) قال: ولا يقال: هذا معارض بمبالغة السلف من الامتناع عن القول بخلق القرآن ؛ لأنا نقول بحمل ذلك على الامتناع من إطلاق هذا اللفظ لأن لفظ "الخلق" قد يستعمل في الافتراء ضرورة التوفيق بين الروايات.]
قال شيخ الإسلام ابن تثيمية -رحمه الله- : [قلت : وجواب هذه الحجة سهل .
فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل الحديث يعلمون أن ذلك مفتر عليه بالضرورة ، كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه ،
ويكفي : أن نقل ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يوجد في شيء من كتب الحديث ، ولا في شيء من كتب المسلمين أصلاً بإسناد معروف .
بل الذي رووه في كتب أهل الحديث بالإسناد المعروف عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أنكر على من قال ذلك ، فروي من غير وجه عن عمران بن حدير عن عكرمة قال : صليت مع ابن عباس -رضي الله عنهما- على رجل فلما دفن قام رجل فقال: يا رب القرآن! اغفر له !!
فوثب إليه ابن عباس فقال: (مه! إن القرآن منه) .
وفي رواية: "القرآن كلام الله ، ليس بمربوب ، منه خرج ، وإليه يعود" .
فهذا الأثر المأثور عن ابن عباس هو ضد ما رووه .
وأما ما رووه فلا يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أصلا .
وكذلك الحديث الآخر وهو قوله: (ما خلق الله من سماء ولا أرض ...) فإن هذا لا يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلاً ، ولكن يؤثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- نفسه .
وقد ثبت عن ابن مسعود -رضي الله عنه- بنقل العدول أنه قال : "من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين ، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع" .
وقد اتفق المسلمون على أن الكفارة لا تجب بما يخلقه في الأجسام ، فعلم أن القرآن كان عند ابن مسعود صفة لله ، لا مخلوقاً له .
وإن معنى ذلك الأثر: أنه ليس في الموجودات المخلوقة ما هو أفضل من آية الكرسي لأنها هي مخلوقة كما يقال: الله أكبر من كل شيء ، وإن كان ذلك الكبير مخلوقاً ، و الله تعالى ليس بمخلوق .
وبذلك فسر الأئمة قول ابن مسعود . ذكر الخلال في كتاب السنة عن سفيان ابن عيينة أنه ذكر هذا الحديث الذي يروى : (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جبل أعظم من آية الكرسي) قال ابن عيينة : هو هكذا : (ما خلق الله من شيء إلا وآية الكرسي أعظم مما خلق) .
وروى الخلال عن أبي عبيد قال: وقد قال رجل : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي أفليس يدلك على أن هذا مخلوق؟
قال أبو عبيد: إنما قال : (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) ، فأخبر الله : أن السماء والأرض أعظم من خلقه ، وأخبر أن آية الكرسي التي هي من صفاته أعظم من هذا العظيم المخلوق .
[يقول أبو عمر العتيبي: يعني أبو عبيد -رحمه الله- بقوله: فأخبر الله : أن السماء والأرض أعظم من خلقه. قوه تعالى : {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سورة غافر(آية/57) ]
وروى عن أحمد بن القاسم قال: قال أبو عبد الله: هذا الحديث : (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم) فقلت لهم: إن الخلق ههنا وقع على السماء والأرض وهذه الأشياء لا على القرآن لأنه قال : (ما خلق الله من سماء ولا أرض) فلم يذكر: خلق القرآن ههنا .
وقال البخاري في كتاب "خلق الأفعال" : وقال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن عبد الله قال: (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من :{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}) ، قال سفيان : تفسيره : إن كل شيء مخلوق ، والقرآن ليس بمخلوق ، وكلامه أعظم من خلقه ن لأنه إنما يقول للشيء : {كن فيكون} ، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق ، والقرآن كلام الله .
وأما تأويلهم أن السلف امتنعوا من لفظ الخلق لدلالته على الافتراء ، فألفاظ السلف منقولة عنهم بالتواتر عن نحو خمسمائة من السلف ؛ كلها تصرح بأنهم أنكروا الخلق الذي تعنيه الجهمية ؛ من كونه مصنوعاً في بعض الأجسام ، كما أنهم سألوا جعفر بن محمد عن القرآن : هل هو خالق أو هو مخلوق ؟
فقال : (ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله) ،
ومثل قول علي -رضي الله عنه- لما قيل له: حكمت مخلوقاً فقال: (ماحكمت مخلوقاً وإنما حكمت القرآن) ، وأمثال ذلك مما يطول ذكره.
والمقصود هنا أن السلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهذا الذي أجمع عليه السلف ليس معناه ما قالته المعتزلة ، ولا ما قالته الكلابية ، وهذا الرازي : ادعى الإجماع ! وإجماع السلف ينافي ما ادعاه من الإجماع، فإن أحدا من السلف لم يقل هذا ، ولا هذا ، فضلاً عن أن يكون إجماعاً.
ويكفي أن يكون اعتصامه في هذا الأصل العظيم بدعوى إجماع ، والإجماع المحقق على خلافه ، فلو كان فيه خلاف لم تصح الحجة ، فكيف إذا كان الإجماع المحقق السلفي على خلافه؟!!].
انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد