الهمة في طلب العلم في ضوء القرآن الكريم
مسلم بن محمد اليوسف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[سورة آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [70] يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [سورة الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا مبحث مبسط بينت فيه الهمة في طلب العلم في ضوء القرآن الكريم أتمنى على طلاب العلم وطلاب الهمة الاستفادة منه.
العلم هو من أهم المجالات التي يجب على أصحاب الهمم العالية أن يمتازوا فيه، لهذا نجد أن كثيراً من نصوص القرآن الكريم تحث على طلب العلم و الاشتغال به، وكذلك نجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان حريصاً دائماً على أن يكون هو، وأصحابه من أوائل من سلكوا طريق العلم، لهذا فإننا إذا أردنا أن نطلع على أحوال العلماء في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو من أتوا بعده، فإننا ما نجدهم إلا أصحاب عزائم خارقة، وهمماً سامقة، فقد احتلوا ذروة الفضل، والمجد وارتقاء سنام العلم والمكانة الرفيعة وحيازة الذكر العطر الدائم، والأجر الباقي المستمر، وغير ذلك من الفضائل والمآثر، وأصحاب تلك العزائم تميزوا في علو الهمة، و دأب العزيمة، و تجشم الصعاب، و امتطاء العقبات، فاستحقوا الفوز بالجنان، فما كان فوزهم بما فازوا به، بل إن بلوغهم ما بلغوه، و فوزهم بما نالوه إنما يعتمد على علو الهمة، و مضاء العزيمة و تزايد الصبر و الدأب حتى إدراك الأمنية و الطلب.
لما كان العلم باب الدنيا، و مفتاح الآخرة كان لزاماً علينا أن نعرف هذه الماهية، و أن نقف على هذه الحقيقة.
مفهوم العلم:
العلم في حقيقته: هو عبارة عن صفة مثالية تقال على كل خير أو تقرير أو مقولة أو وصف ينطبق على واقع الأحداث، و الأشياء و تصورها تصويراً حقاً قاطعاً يقيناً لا شك فيه و لا ريب، و كل صفة بهذا النعت يقال لها علماً باشتراك في الاسم، مهما كان مصدرها إلهياً سماوياً أو بشرياً، ولكن القرآن الكريم بعد ذلك يميز بين علم الله وهو الأصل وبين علوم الملائكة والأنبياء وسائر البشر، وهو فرع مشتق من علم الله -تعالى- [[1]].
وعرف الأصفهاني العلم بأنه: [إدراك الشيء بحقيقته] [[2]].
وقال المناوي: "العلم هو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع أو هو صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض أو هو حصول صورة الشيء في العقل"[[3]].
العلم في الاصطلاح القرآني:
إن شمول العلم لكل ما يدرك بحقيقته من جهة، ومرونته للدلالات المجازية من جهة أخرى يجعل منه لفظاً واسع الدلالة.
أما في القرآن الكريم الذي يمثل الدستور الشامل للبشرية، والذي اعتنى بالعلم عناية كبيرة، فلابد أن يكون لهذا اللفظ عناية خاصة أيضاً، وقد ذكر أن للعلم أحد عشر وجهاً في القرآن الكريم، مختلفٌ فيها عند علماء التفسير، هذه الوجوه هي: العلم، والرؤية، والإذن، والقرآن، والكتاب، والرسول، والفقه، والعقل، والتمييز، والفضل، وما يعده أربابه علماً وإن لم يكن علماً.
وهذه الوجوه وإن لم يكن مسلماً بها إلا أنها تشير إلى علاقة قوية تربطها بالعلم، بحيث اعتقد دلالته عليها دون غيرها، فالقرآن الكريم و الرسول -صلى الله عليه وسلم- والعقل والفقه لا تبعد أي منها في أصلها، وحقيقتها عن حقيقة العلم، فالقرآن يجمع مختلف العلوم وأهمها، والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو من نزل عليه القرآن الكريم الذي يوصل إلى مختلف العلوم، فكان عالماً به، وعلمه الناس، وهكذا الحال في بقية الوجوه المذكورة، والتعبير عنها بالعلم يمكن أن يعد من باب المجاز، وعموماً، فإن الأمر في تأويلاتها بين المفسرين على غير اتفاق [[4]].
الهمة في طلب العلم:
أكد القرآن أهمية العلم والمعرفة، فالعلم هو عماد المجتمع، والركن الأساسي في تحقيق النهضة والرقي بين أفراد المجتمع، فالحاجة إلى العلم ملازمة للإنسان والإنسانية، والعلم أساس الحضارة [[5]]، وقوام الحياة الإنسان المعنوية والمادية، والأخروية والدنيوية[[6]]، والعلم يُعد داعياً للإيمان والعمل لاسيما العلم الذي ينبثق من تعاليم الإسلام المستمد من وحي القرآن والسنة؛ لأن الإسلام هو دين العلم، والقرآن كتاب علم، وأكبر دليل على ذلك أن أول ما نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- من القرآن الكريم قوله - تعالى -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[7].
إن هذه الآيات هي أول توجيه رباني إلى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته، وهي أول منة إلهية له، ولأمته يهديهم بها إلى ما فيه الخير، والصلاح في الدنيا والآخرة.
في هذه البيان الإلهي أمر للنبي الأمي بالقراءة، فقد وجه الخطاب له -صلى الله عليه وسلم-، وفيها إبراز للمعجزة أكثر، لأن الأمي بالأمس صار معلماً اليوم.
أما قوله -تعالى- المبين أعلاه، فهي دلالة على النبوة والرسالة، و الذي علم بالقلم، و ذلك؛ لأن من يُعلم الأمي بالقلم، يعلم غيره بدون قلم بجامع التعليم بعد الأمية، فالقادر على هذا قادر على غير ذلك، والله هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، و كل ما تعلمه الإنسان، فهو من الله -تعالى-[[8]]، فيا أصحاب الهمم العالية لا تتقاعسوا عن العلم و طلبه، و لا تتكاسلوا عن إيصال كل ما هو مفيد إلى غيركم، واسعوا ليل نهار في الارتقاء بهذه الأمة لتكون أمة متعلمة، و ليذكر كل من جعل العلم نبراسه في الدنيا أن يعي حقيقة ثابتة هي أن الله هو المنعم على العبد، فهو الذي رزقه حسن الفهم، و حب العلم، و هو المنعم بأن يَسَر للإنسان من يعلمه و يُحسن تأديبه، فالمنة و الشكر و الفضل للرحمن.
و قد ذكر الرازي في تفسيره في وجه التناسب بين الآية المذكورة في صدر هذه السورة التي قد اشتمل بعضها على خلق الإنسان من علق، و في بعضها تعليمه ما لم يعلم، ليحصل النظم البديع في ترتيب آياته إنه -تعالى- ذكر أول حال الإنسان، وهو كونه علقة، مع أنه أخس الأشياء، و آخر حالة، فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف، و هذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف، لكان ذلك الشيء في هذا المقام [[9]].
العلم مفتاح الحضارة، و باب كنوزها، و وسيلة بنائها، و برهان قولنا هو أول ما نزل من وحي السماء على قلب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم–: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[10].
فما من حضارة في التاريخ، كانت أبجديتها الأولى [أقرأ] سوى حضارة الإسلام، التي أجلت العلم، وذكرت وسائله القراءة، والكتابة.
ومع نزول سورة القلم كان بدء الإعلان الإلهي لبناء حضارة جديدة، على أسس متينة و استعد الكون لفتح صفحة من صفحات الحضارة المتميزة، والتي انتظرتها البشرية منذ عهود طوال، انقطع فيها الوحي الإلهي و كان الناس يلوبون عطشاً من الظمأ و الساقية بعيدة في السماء، فقربها الوحي الأمين حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء كما تجلت من قبل في الوادي المقدس، نشأت حضارة، فكأنما ولدتها كلمة ﭽ ﭻﭼ التي أدهشت النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - و أثارت معه و عليه العالم، فمن تلك اللحظة، و ثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قروناً طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، و تقوده إلى التمدن، و الرقي [[11]].
وتبرز أهمية العلم من خلال اختيار الإنسان ليكون المرشح للخلافة في الأرض، و ذلك من خلال تفضيل البشر على الملائكة، فاستأثر الإنسان وحده بهذا المنصب وتبعاته، منها الوصول إلى العلم و المعرفة.
يقول الله - تعالى -: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[12].
والأسماء التي علمها آدم هي مسميات الأشياء، وذواتها التي يحتاجها الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها [[13]].
واعلم أخي: أن الله -سبحانه وتعالى- لما اقتضت حكته، و رحمته في إخراج آدم و ذريته من الجنة عوضهم بعهده، الذي جعله سببا موصلا لهم إليه و طريقا واضحا بين الدلالة عليه من تمسك به فاز واهتدى، ومن أعرض عنه شقي، و غوى ولما كان هذا العهد الكريم و الصراط المستقيم و النبأ العظيم لا يوصل إليه أبدا إلا من باب العلم و الإرادة، فالإرادة باب الوصول إليه و العلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه و كمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين همة ترقية و علم يبصره و يهديه، فإن مراتب السعادة و الفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما، إما أن لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها أو يكون عالماً بها، ولا تنهض همته إليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً قد أسام نفسه مع الأنعام راعياً مع الهمل، و استطاب لقيعات الراحة و البطالة واستلان فراش العجز والكسل لا كمن رفع له علم، فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه، فلزمه واستقام عليه قد أبت غلبات شوقه إلا لهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله، و لما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، و شرف العلم تابع لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى، ولا يفوت وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، و لا سبيل له إلى هذا المطلب الأسنى؛ و الحظ الأوفى إلا بالعلم الموروث عن عبده؛ و رسوله؛ و خليله؛ وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا، و أقامه على هذا الطريق هاديا، و جعله واسطة بينه، و بين الأنام، و داعيا لهم بإذنه إلى دار السلام، و أبى - سبحانه - أن يفتح لأحد منهم الأعلى يديه أو يقبل من أحد منهم سعيا إلا أن يكون مبتدأ منه، و منتهيا إليه [[14]].
فعياذا بك اللهم ممن دنت همته، و قصر في العلم؛ و الدين باعه؛ و طالت في الجهل؛ و آذى عبادك ذراعه، فهو لجهله يرى الإحسان إساءة، و السنة بدعة، والعرف نكرا، و لظلمه يجزى بالحسنة سيئة كاملة، و بالسيئة الواحدة عشرا قد اتخذ بطر الحق، و غمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل، و يرضاه؛ و لا يعرف من المعروف، و لا ينكر من المنكر إلا ما وافق إرادته أو حالف هواه يستطيل على أولياء الرسول، و حزبه بأصغريه، و يجالس أهل الغي؛ و الجهالة؛ و يزاحمهم بركبتيه قد ارتوى من ماء أجن؛ و نضلع؛ و استشرف إلى مراتب ورثة الأنبياء؛ و تطلع يركض في ميدان جهله مع الجاهلين؛ و يبرز عليهم في الجهالة؛ فيظن أنه من السابقين، و هو عند الله و رسوله و المؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل، و إذا أنزل الورثة منازلهم منها، فمنزلته منها أقصى، و أبعد منزل نزلوا بمكة في قبائل هاشم...... ونزلت بالبيداء أبعد منزل[[15]].
إن العلم هو وسيلة إصلاح المجتمع و تهذيبه، و هو المادة التي يرتكز عليها المصلحون، لاسيما العلم الصحيح بحقيقة الدين، العلم القائم على الحق، المتمثل في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و ما يتعلق بهما من دلالات اللغة، أو مناسبات النزول، فيكون العلم من مصدره مباشرة، فلا يكون علم مجرد قائم على النظريات، و لا يكون علم تخصصي دقيق منحصر في فئة معينة من الناس، بل يكون علم يستطيع العاميّ أن يتناوله، و يفهمه؛ و يطبقه في واقع حياته، و هذا هو المطلوب [[16]].
و تظهر أهمية العلم بوصفه عنصراً رئيساً من عناصر الشهادة، و يعني ذلك أن تكون الأمة الإسلامية شاهدة على الناس بعقيدتها، و في عملها على السعي الدائم للعلم القائم على الحقائق البعيد كل البعد عن الأوهام، و الخرافات، و القائم على التصور العقدي، فيما يتعلق بتكريم الإنسان، و رسالته في الحياة، و المهمة الأساسية في وجوده القائمة على الإصلاح و الهداية، و التغيير، فبذلك يحقق العلم غايته، ويكون شاهداً على الناس بتجلية الحقائق لديهم، و إخراجهم من الضلال إلى الهدى، و من حياة الشقاء إلى حياة السعادة، و المطلوب هو ذاك العلم الذي يؤثر فيهم، ويستدرجهم نحو الخير، و الصلاح [[17]].
إن القرآن الكريم يقرر كذلك حقيقة عدم الاستواء بين الذين يعلمون، و الذين لا يعلمون، في قوله - تعالى -: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [18].
فالعلم هو أساس التفاضل بين الناس، فالذين يعلمون و الذين لا يعلمون لا يستويان مثلاً، و في ذلك دلالة على فضل العلم و رفعة قدره[[19]]، فأهل العلم لهم خاصية عند الله و منزلة عالية، و يؤكد ذلك قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[20].
إن الذين أوتوا العلم لهم منازل عالية، العلم الذي يقتضي العمل [[21]].
كما أن أكثر الناس خشية من الله العلماء، كما في قوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)[22].
من عرف الله حق المعرفة، فهو أكثر الناس خشية و تقوى، و التقوى هي خير سبيل للعلم.
و القرآن الكريم يدعو الإنسان ذا العقل السليم أن يجعل همته في التعلم، واكتساب المعرفة؛ لأن النتائج المترتبة من ذلك عظيمة للفرد و المجتمع بأكمله، فقد حث الإسلام على التعليم في مختلف العلوم الدنيوية و اعتبرها من فروض الكفاية مثل الطب و الصيدلة و الهندسة، و شجع على تعلم الحرف، و رغب بتعلم العلوم الشرعية، و جعل تعلم الحد الأدنى من الحلال و الحرام منها فرض عين لما يعود ذلك على المجتمع الإسلامي من الخير الكثير، و أمر الفرد المسلم أن يستزيد من التعلم ويبحر به، فلو قام كل فرد بتعلم ما يرغبه من العلوم و عمل به، لكانت الأمة الإسلامية بألف خير و رقي و نهضة.
يقول الله - تعالى -: (فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)[23].
فالأمر الإلهي بالاستزادة من العلم واضح جليٌّ لا خلاف فيه.
والعلم حلية العقل، وبه يُهتدى إلى اكتشاف كنه الأشياء وسبر أغوارها، وتحليل جزيئاتها، والقرآن الكريم فتح أبواب العلم النافع على مصراعيها، فدعوته للنظر في آفاق الكون الرحيب، والتدبر في الخلق، كل ذلك ينشأ منه علم زاخر.
قال - سبحانه وتعالى-: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)[24].
فالكون صفحة مشرعة للعلماء، و النفس صفحة مفتوحة لاكتشاف آيات الله في الخلق، و لا يكون ذلك إلا بالعلم.
قال الله - سبحانه وتعالى -: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[25].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) [[26]]
فالعلم في حضارة الإسلام يجري ثوابه بعد الممات، و تبقى آثاره الحسنة تخط في الأرض، و تسجل في السماء، و يظل صاحبه يرتقي الدرجات بفضل علم علمه الناس فخلف لساناً حميداً، و قولاً سديداً، و لو أردنا أن نستقصي آيات العلم في القرآن الكريم، لطال بنا العد، فالقليل يغني في التمثيل، و هكذا تتظاهر النصوص في مصادر الحضارة الإسلامية لدفع المسلمين إلى التعلم، و التعليم بشكل لا نظير له في أية حضارة أخرى، و العلم المقصود الذي تهدي إليه الحضارة الإسلامية، و به قامت، هو العلم الذي يهدي إلى الخير، و يحذر من الشر، و من الخير ما فيه كمال إنساني في أي نوع من أنواع الكمالات المعتبرة، في أسس الحضارة الإسلامية [[27]].
فالعلم نهج يرفع لبنات الحضارة في الأعالي، و طريقة من طرائق التفكير التي بها تشاد الحضارة، فقال - سبحانه وتعالى --: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)[28].
فهذا بحث و نظر، و هو تعليم في إدراك الأدوات، و معرفة الوسائل.
قال - سبحانه وتعالى -: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)[29].
وإذا كانت الحضارة نبت العلم، فليس ثمة شك في أن العلم يدفع إلى الإبداع و التفكر و التدبر و كل من الإبداع و التفكر و التدبر، ينبت الحضارة و ينشئ معرفة[[30]].
وكما أن القرآن الكريم أقر المبادرة إلى العلم باعتباره من قوام الحياة، أمر أيضاً بالمسارعة إلى أهل العلم ذوي التخصص حينما يشكل على المسلم أي قضية من قضايا دينه و دنياه، بقوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[31].
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[32]
فأهل الذكر هم أهل العلم على الإطلاق، فالعالم بالشيء يكون ذاكراً له، سواء أكان هذا العلم في الأمور الدينية بالقرآن، و ما يتعلق به من علوم، أم بالعلوم الدنيوية، فأمر الله -تعالى- إلى رجوع الناس إلى الرسل حتى يبينوا لهم ما يشكل عليهم من أمور دينهم، فيكون الحكم عاماً بالقياس [[33]].
وقد حث المعلم الأول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على طلب العلم، و شجع على التنافس في طلبه، فقد ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا))[[34]].
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْلُكُ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً إِلا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقَ الجَنَّةِ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُه))[[35]].
إن العلم النافع الذي يخدم الفرد، ومجتمعه العلم الذي يبتغي فيه رضا الله - تعالى- هو الذي يقوده إلى الجنة.
وسار على هديه -صلى الله عليه وسلم- الصحابة – رضوان الله عليهم- فقد كانوا يبذلون الوقت و الجهد لتحصيل آية أو حديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يبذلون الأوقات و الجهود في سبيل ذلك؛ لأن اعتقادهم الدائم أن العلم هو الذي يقودهم إلى صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة.
قال - تعالى -: (هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ)[36].
و ذكر السلمي في تفسيره لهذه الآية قولاً للواسطي في أن المقصود بالراسخين في العلم أنهم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب و سر السر، فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلوم بالفهم و عجائب الخطاب، فنطقوا بالحكم.
و قيل: هم الذين كملوا في جميع العلوم و عرفوها و أطلعوا على همم الخلائق كلهم أجمعين [[37]]، و هم الذين يعلمون تأويل القرآن الكريم.
و قد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا لابن عباس - رضي الله عنه - قائلاً: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ))[[38]]، و قيل أن الراسخون في العلم هو الذين يعلمون التفسير[[39]]، فعالي الهمة لا يرضى بالدون، و لا يرضى بأن يقطف من الشجرة ثمرة بل لا يرضى بدون كل الثمر، فهذا هو العالم الفقيه يقطف من كل الثمرات، و لا يكتفي بالقليل، و نراه إذا علم سعى، لأن ينطلق بعلمه ليطور و يرتقي بعمله فالعلم والعمل كالجناحين الذين لا يطير عالي الهمة إلا بهما، فيصل إلى المعالي فينير سماه، وينشر هذا النور لينير عتمة كل إنسان، و لهذا قيل أن العلم هو إمام العمل، و العمل تابع له، و مؤتم به، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتدياً به، فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه، كما قال بعض السلف: "من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح"[[40]].
ومن على بهمته في طلب العم وصل إلى أعلى المراتب في الدنيا، وارتقى على سلم المجد، فالعالم هو من يفضل على كثير من الخلق، و ما يكون إلا من أعالي القوم و أشرفهم، و لذلك يقول الله - تعالى -عن اختياره لطالوت ملكا: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[41].
إن الله -تعالى- اختار طالوت ملكا عليكم، و أعلم بالمصالح منكم و لا اعتراض على حكم الله، ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب و المال و هما العلم المبسوط و الجسامة، و الظاهر أن المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب، و يجوز أن يكون عالما يالديانات و بغيرها، و ذلك أن الملك لابد أن يكون من أهل العلم، فإن الجاهل مزدري غير منتفع به، و أن يكون جسيماً يملأ العين جهازه، لأنه أعظم في النفوس، و أهيب في القلوب، أي الملك له غير منازع فيه فهو يؤتيه من يشاء و من يستصلحه للملك، و الله -تعالى- واسع الفضل والعطاء، بوسع على من ليس له سعة في المال، ويُغنيه بعد الفقر، و الله عليم بمن يصطفيه للملك [[42]].
و نجد مما سبق أن تفضيل الله لطالوت ما كان إلا، لأنه نهل من منهل العلم، وشرب من ينبوعه الكثير و الكثير و ما كان ليرتوي أبداً، فالعلم ما هو إلا كالماء والهواء له.
و ها هم أنبياء الله -تعالى- يضربون لنا أروع الأمثال في علو همتهم، و في حب التعلم، فقد كانوا أكثر الناس حرصاً على التعلم، فها هو نبي الله موسى –رضي الله عنه- ارتحل و سافر طويلاً و قطع من البلاد الكثير حتى يصل إلى من يعلمه، فيزداد في علمه، فيعرض القرآن الكريم نموذجاً للهمة العالية في طلب العلم في سورة الكهف.
قال - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا* وَأَمَّا الغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)[43].
قال - تعالى -: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)[44].
ففي هذه الآية قال موسى – رضي الله عنه- للخضر[[45]] استئذانا منه في إتباعه له على وجه التعلم أي علمني كل علم ذا رشد أُرشد به في ديني، و الرشد هنا هو إصابة الخير، و هذا الفعل لا ينافي نبوته و كونه صاحب رسالة و شريعة لا يعني أن لا يتعلم من نبي آخر فيما لا يتعلق بأحكام شريعته، و أراد أن يعلمه علماً نافعاً، وعمل صالح [[46]]،
والمعنى لا أزال على ما أنا عليه في السير و الطلب و لا أفارقه حتى يقع إما بلوغ المجمع أو أمضي الحقب، أي: زماناً أتيقن معه فوات المجتمع، و هذا منتهى الهمة و العزيمة و الإرادة و الإصرار على تحقيق الهدف، فهذه هي الهمة العالية الجازمة التي بدونها لا يصل الإنسان إلى النجاح في العمل، لأن العمل الناجح يحتاج إلى همة عالية و عزيمة صادقة.
يتبع