تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 1234567 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 139

الموضوع: التتار من البداية إلى عين جالوت

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    سعي التتار لعقد تحالفات مع ملوك النصارى ونتائج ذلك (41)


    كل هذا الذي حدث في هذا الوقت كان على المحورين الدبلوماسي والسياسي لدولة التتار، وذلك لإسقاط الخلافة العباسية، فالسفارة الصليبية الأولى في عهد منكو خان فشلت، وأما سفارة ملك أرمينيا فقد نجحت نجاحاً كبيراً سواء بالنسبة لملك أرمينيا أو ملك التتار.
    وكان من رغبات منكو خان أيضاً أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، فالنصارى الكاثوليك كان لهم أكثر من مملكة أو إمارة في منطقة الشام وتركيا، فقد كان لهم إمارات في أنطاكية وطرابلس وصيدا وحيفا وعكا وغيرها، فأراد منكو خان أن يتحالف مع هؤلاء الأمراء؛ وذلك لشغل المسلمين في منطقة الشام وتركيا عن الخلافة العباسية؛ حتى لا يدافعون عنها، ولتشجيع هؤلاء الأمراء الصليبيين أرسل لهم ملك التتار طالباً التحالف معهم مع هيثوم ملك أرمينيا، فقد أصبح مجرد رسول وسفير لدولة التتار، وذلك مثل الرحلات الم****ة لوزير خارجية إنجلترا في إيران وباكستان وأفغانستان وتركيا وغيرها، والتاريخ يتكرر، ووعد ملك التتار أمراء الإمارات الصليبية في الشام بإعطائهم بيت المقدس هدية إذا ساعدوه في إسقاط الخلافة العباسية، وكأنه يملك بيت المقدس.


    وبيت المقدس كان قد أعطي هدية من قبل المسلمين في الشام إلى نصارى الإمارات الصليبية سنة 626 كما قلنا قبل ذلك، ثم حرر في سنة 643هـ على يد الملك الصالح نجم الدين أيوب ملك مصر في ذلك الوقت.


    ومع كل هذا التشجيع فقد تردد أمراء الإمارات الصليبية في الشام في مساعدته باستثناء بوهمند أمير أنطاكية، فقد استحسن هذا الأمر جداً، وانضم مباشرة إلى ملك التتار، وأما بقية الأمراء الصليبيين في الشام فقد رفضوا هذه الفكرة ولم يستحسنوها، لسببين:

    أولاً: أنهم يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، ويضحون بهم في مقابل أي شيء أو بلا مقابل.
    ثانياً: أنهم يعيشون في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار بل لعلها أقرب، ومن ثم لم يتحمس هؤلاء للتحالف المعلن مع التتار، وآثروا الانتظار إلى أن تتم الحرب بين التتار وبين المسلمين، ومن انتصر منهم سارعوا إليه ويسمون هذا سياسة.


    وقد سعى منكو خان أيضاً إلى عقد بعض الاتفاقيات مع نصارى الشام والعراق من عامة النصارى الذين ليسوا بأمراء، الذين كانوا يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية في الشام والعراق، ولم تكن هذه اتفاقات رسمية أو معلنة، بل كانت اتفاقات سرية مع بعض رءوس النصارى والقساوسة؛ حتى يسهلوا مهمة دخول التتار إلى البلاد وينقلوا الأخبار من وإلى التتار، وقد نجح منكو خان في الوصول إلى بعض الرءوس الكبيرة في الشام والعراق وعلى رأسهم ماكيكا بطريرك بغداد، فكان عاملاً مساعداً هاماً في دخول بغداد.


    ثم عقد منكو خان معاهدات مع مملكة الكرج النصرانية بعد أن دمرها التتار ثلاث مرات على حرب المسلمين، وإذا كان تاريخ التتار مع مملكة الكرج أسود فكذلك تاريخ المسلمين مع مملكة الكرج أسود، فقد كانت بينهم حروب طويلة جداً وقديمة.
    وحروبهم مع المسلمين كانت حروباً عقائدية، كما قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، فتعاونوا مع التتار للمصلحة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    الإعداد السياسي والدبلوماسي (42)

    المحور الثاني: الاستعداد السياسي والدبلوماسي، فبدأ في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف والقوى الموجودة على الأرض؛ لضمان نجاح المهمة الكبيرة وإسقاط الخلافة العباسية، وهذا تغير كبير جداً في السياسة التترية، ويحتاج إلى وقت ومجهود، والتتار طول عمرهم لم يعرفوا التحالفات ولا الدبلوماسية، فقد كانوا دائماً محاربين للأطراف الأخرى، لأن هذه الخطوة جديدة على السياسة التترية الآن فقد تولاها منكو خان شخصياً خاقان التتار الجديد سنة 651 من الهجرة،
    يعني: بعد سنتين من حكمه، فقد استقبل سفارة صليبية أرسلت من قبل لويس التاسع ملك فرنسا، الذي نزل سنة 647 في دمياط، ثم هزم في سنة 648 في موقعتين شهيرتين جداً، أولاهما: موقعة المنصورة، والثانية: موقعة فارسكور وأسر فيها ثم فدي بالمال، وكان عنده حقد كبير جداً على الشام ومصر،
    ويريد أن يعيد الكرة في حربه من جديد، ففي سنة 651هـ أرسل سفارة جديدة إلى منكو خان يريد التعاون معه ضد المسلمين، وبدأت المفاوضات ولكنها فشلت، فـ منكو خان كان رجلاً في منتهى الصراحة، فهو لم يكن متعوداً على الأحلاف كما قلنا، ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، فالغرب عنده طرق ملتوية من تنميق الألفاظ واختيار العبارات للحصول على ما يريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه فرط في شيء، فـ منكو خان لم يكن يعرف أي شيء عن النفاق الأوروبي المعروف، ولا يعرف الابتسامة الأوروبية التي تخفي وراءها كل الحقد، بل كان رجلاً في منتهى البساطة والوضوح جداً، ويحدد رغباته مباشرة، فقال في بداية المفاوضات في أول كلامه:
    إنني لا أقبل أن يكون في العالم سيد سواي، أنا لا أعرف كلمة صديق إنما أعرف كلمة سادة، أصدقائي هم من يتبعونني ويعلنون الولاء والطاعة الكاملة لي، وأعدائي هم الذين يحاربونني ولا يقبلون طاعتي سياسة بسيطة جداً، وهي سياسة القطب الواحد في العالم، فهو يقسم العالم إلى دول صديقة، أي: تابعة، ودول مارقة، أي: معادية، وبالطبع رفض ملك فرنسا لويس التاسع أن يتحالف على أساس هذا الشرط، ومن ثم فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوروبا.
    وهذه أول مفاوضة عملها منكو خان ولم تتم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    تحالف التتار مع هيثوم ملك أرمينية والأسباب الدافعة لذلك (43)


    وإذا كان نصارى غرب أوروبا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع منكو خان على أساس التبعية فهناك من الملوك الآخرين من يقبل بذلك، ويعتبر هذا نوعاً من الواقعية، وعلى سبيل المثال هيثوم ملك أرمينيا النصرانية فكر في التحالف مع التتار على أساس التبعية وكما يريد منكو خان، فملك أرمينيا يعلم قوة التتار، بل قد دمرت بلاده قبل ذلك مرتين على يد التتار، مرة في عهد جنكيز خان ثم في عهد أوكيتاي، وكذلك يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة لا تقارن بأي حال من الأحوال بدولة التتار القوية، فمساحة أرمينيا كلها لا تزيد على 30 ألف كيلو متر مربع، يعني: مثل مساحة محافظتين من محافظات مصر، وفوق ذلك فملك أرمينيا يعلم أنه محصور بين قوات التتار من جهة وقوات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جداً بينه وبين المسلمين، فهو يتحرق شوقاً لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيرغم عليها غداً، فسيدخل التتار العراق وأرمينيا وساعتها سيفقد كل شيء بلا ثمن.

    كل هذا دفع هيثوم إلى أن يذهب بنفسه لمقابلة منكو خان في قراقورم عاصمة المغول، فلم يبعث سفارة مثل ملوك أوروبا، ومنكو خان كان غضبان نتيجة فشل السفارة الصليبية الأولى، فبدأ يتعلم طرق السياسة والاعتماد على المظاهر والكلمات المنمقة المختارة، فأقام احتفالاً كبيراً واستقبالاً رسمياً مهيباً لـ هيثوم ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع وإن كانت كل بنود الاتفاق لا تقوم إلا بين سيد وتابع لا ملك وملك، وإنما كان كل واحد منها يمثل على الثاني تمثيلية مكشوفة لغرض السياسة، وبعد الاستقبال الحافل الكبير لملك أرمينيا قدم ملك أرمينيا نفسه على أنه من رعايا منكو خان، فأعطاه منكو خان وعوداً كبيرة وهدايا عظيمة؛ يشتري بذلك ولاءه وتبعيته، ولم يقل له: افعل كذا وكذا، ولكن فخمه وعظمه وأعطاه، وكان مما أعطاه:
    أولاً: ضمان سلامة ممتلكات الملك هيثوم الشخصية، وهذه أهم شيء عند هيثوم.
    ثانياً: إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب، فالتتار كان يفرضون الضرائب على كل شيء.
    ثالثاً: مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون من الأرمن في حروبهم معهم، وقد كان بين الأرمن وبين السلاجقة في تركيا تاريخ طويل من الحروب، فوعده منكو خان هذه المدن إليه.
    رابعاً: اعتبار ملك أرمينيا كبير مستشاري الخاقان الكبير منكو خان فيما يختص بشئون غرب آسيا، وأعطاه مركزاً ومكانة.
    وكان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني الضعيف الذي لا تقارن قوته بأي صورة من الصور بقوة التتار لعدة أسباب، وهي:

    أولاً: للاستفادة من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين، فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة جداً، وقد خبر الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، فلاشك أن المعلومات التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في احتلال بلاد المسلمين، وتذكر ما حدث بين أمريكا وإنجلترا من تحالف، فأمريكا تحالفت مع إنجلترا الضعيفة جداً مقارنة بأمريكا، ولكنها عندها خبرة كبيرة جداً في أرض المسلمين، وبالذات في أرض العراق وأفغانستان، فإنجلترا قبل ذلك احتلت أفغانستان والعراق.
    ثانياً: حاجة التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، وإذا كان هؤلاء الأعوان من أهل البلد أو مجاورين له فهذا يعطيه قدرة أكبر على إدارة هذه البلاد وعلى تهدئة الشعوب في هذه المناطق.
    ثالثاً: بهذه الخطوة يفتح ملك التتار باب المعاملات من جديد مع النصارى، فهو خسر قبل ذلك معاهداته مع النصارى في غرب أوروبا، والآن قام بمعاهدات مع ملك أرمينيا، والأرمن كاثوليك مثل غرب أوروبا، فمن الممكن أن يكون ملك أرمينيا رسولاً بين التتار وبين ملوك غرب أوروبا، فتاريخ التتار مع النصارى في أوروبا تاريخ أسود، فآلاف وملايين النصارى ذبحوا على يد التتار، ومنكو خان يريد إصلاح العلاقات من جديد من أجل أن يسقط الخلافة العباسية إسقاطاً كاملاً.
    رابعاً: إن الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي كبير عند المسلمين، فالحرب مع التتار شيء ومع قوات التحالف شيء آخر، ومع أن القوات المتحالفة مع التتار لا تمثل شيئاً بالمرة بالنسبة إلى التتار، إلا أن كلمة التحالف لها وقع خاص جداً على قلوب الناس، ومن أجل ذلك تجد الدول الكبيرة تتحالف مع دول لا قيمة لها؛ حتى يسموا جيشهم جيش التحالف.
    خامساً وأخيراً: قد توكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهام الخطرة في المناطق الملتهبة، فيحارب فيها الأرمن ويكون ضحاياها من الأرمن وليس من التتار، وهذا كما بدأت إنجلترا تسيطر على منطقة البصرة وما حولها، والناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار وبين الأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئاً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    إصلاح البنية التحتية (44)


    وقد اشتغل هولاكو في أربعة محاور رئيسة:
    المحور الأول: الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات الذي سيتم فيه القتال؛ ليضمن بذلك استمرارية وسيولة الإمداد والتموين من الصين إلى بغداد، ومن أجل ذلك عمل الآتي:
    1 - بدأ في إصلاح كافة الطرق من الصين إلى العراق وتهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع المسافات الرهيبة الطويلة والطبيعة الجبلية القاسية لمنطقة طاجاكستان وأفغانستان وفارس والموانع الطبيعية الكثيرة في هذه المنطقة.
    2 - أقام الجسور الكثيرة والكبيرة على كل الأنهار في المنطقة وبالذات نهري سيحون وجيحون، ووضع قوات تترية كافية لحماية هذه الجسور، وضمان استمرار عمليات الإمداد والتموين.
    3 - جهز مجموعة ضخمة جداً من الناقلات العملاقة لنقل أدوات الحصار الضخمة من الصين إلى بغداد.
    4 - كل مدينة أو مركز يتحكم في محاور الطرق من الصين إلى بغداد وضع عليه قوات إضافية؛ حتى لا تباغت ظهور القوات التترية المتجهة من الصين إلى العراق.
    5 - قام بشيء عجيب وفيه ذكاء شديد، فقد أخلى كل الطرق من الصين إلى بغداد من الماشية، سواء كانت ماشية برية أو مملوكة للسكان؛ وذلك حتى تنمو الحشائش والأعشاب؛ لتكون طعاماً كافياً للأعداد الهائلة جداً من الخيول الخاصة بالفرسان والدواب المكلفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام وما إلى ذلك، وبذلك لم يكن بحاجة لأن يحمل معه طعاماً للحيوانات، ولو تعرض لمفاجأة غياب طعام الحيوانات فقد تتعطل الحرب كلها، فالطعام بالنسبة للحيوانات مثل الوقود بالنسبة للسيارات، بل أشد، فالسيارة بإمكانها انتظار الوقود وأما الحيوان فلا يستطيع الصبر على الجوع، وبهذا الإعداد استطاع هولاكو أن يجعل الأرض ممهدة تماماً لاستقبال الأعداد الهائلة من الجيوش التترية من كل مكان من أجل تجميعها لغزو العراق.
    وهذا الكلام الذي نقوله بسهولة وبسرعة يأخذ عدة سنين، فإصلاح الطرق وإقامة الكباري وإخلاء الطرق من الماشية مجهود ضخم جداً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت


    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    إضعاف جيش الخلافة العباسية (45)


    والمحور الرابع والأخير: هو إضعاف جيوش الخلافة العباسية، فطلب هولاكو من الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي أن يقنع الخليفة العباسي المستعصم بالله بأن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وألا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب، وأن يحول الجيش إلى الأعمال المدنية والزراعية والصناعية وغيرها، حتى يصبح الجيش مشغولاً بزراعة الطماطم والخيار وبناء الكباري وعمل المخابز والأطعمة، ولا داعي للتدريب والقتال والسلاح والجهاد، حتى لا تثار حفيظة التتار، ونقول لهم: نحن قوم سلام ولسنا قوم حرب، وانظروا إلى جيشنا ماذا يعمل، فلما قال مؤيد الدين العلقمي الشيعي هذا الكلام للخليفة المستعصم بالله وافقه على ذلك،
    فخفض ميزانية التسليح وقلل أعداد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله سنة 640 من الهجرة لا يزيد على 10 آلاف فارس فقط في سنة 654 هجرية، وكان هذا هبوطاً مروعاً في إمكانيات الخلافة العسكرية، وليس هذا فقط، بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، فكان الجندي لا يجد ما يأكل أصلاً، حتى أنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق، وأهملت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش مكانتهم، حتى لم يوجد بينهم من له القدرة على التخطيط أو الإدارة أو القيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم تماماً معاني الجهاد.
    وهذه هي الخيانة الكبرى والجريمة العظمى، وابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية يلقي باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة، ولكني أنا ألقي باللوم على الخليفة ذاته، فهو الذي قبل بهذا الهوان ورضي بهذا الذل، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يدافع عن ترابه وأرضه ضد أي غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه وتسليح جنده، وأن يربي الشعب بكامله لا الجيش فقط على حب الجهاد والموت في سبيل الله، ولم يفعل الخليفة المستعصم ذلك، ولا عذر له عندي؛

    فإنه كان يملك من السلطان ما يجعله قادراً على أخذ القرار، ولكن النفوس الضعيفة لا تقوى على أخذ القرارات الحاسمة.
    كان هذا هو إعداد هولاكو ومنكو خان، وقد كان إعداداً مبهراً عظيماً كبيراً حقاً.
    وفي المقابل لم يكن هناك أي رد فعل مناسب أو غير مناسب من المسلمين استعداداً للغزو التتري القريب عما قليل للخلافة العباسية، فما هي خطوات هولاكو في تجميع الجيوش وغزو العاصمة الإسلامية التليدة العتيدة بغداد؟ وما هو الذي فعله التتار داخل بغداد؟ وما هو رد فعل المسلمين في بغداد وما حولها من بلاد المسلمين؟ وما هي النتائج الخطيرة التي ترتبت على سقوط بغداد بعد ذلك؟ هذا ما سنعرفه وغيره بإذن الله في الدرس القادم.
    وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    الحرب النفسية ضد المسلمين (46)

    والمحور الثالث الخطير: الحرب النفسية على المسلمين، فـ هولاكو كانت له أكثر من طريقة لشن حرب مهولة نفسية على المسلمين قبل اللقاء والحرب وإسقاط بغداد، ومن هذه الوسائل مثلاً:
    القيام بحملات إرهابية استنزافية في المناطق المحيطة بالعراق؛ لتذكير المسلمين بالذكريات الأليمة الرهيبة في عهد جنكيز خان وأوكيتاي، فقد مضى إلى الآن 10 سنين من سنة 639هـ إلى سنة 649هـ، ولم يكن فيها مجازر، فأراد تذكيرهم بذلك، فقام بمجازر بشعة في شمال العراق وما حولها فقتل ونهب وسلب، كما كان يفعل التتار قبل ذلك، وفوق ذلك سيطر على القوافل التجارية، وذلك لعمل ضربة اقتصادية كبيرة للعراق قبل غزوها، فعلى سبيل المثال استولى على قافلة تجارية بلغت الأموال فيها 600 ألف دينار، وكان هذا ضربة اقتصادية في منتهى القوة للخلافة العباسية، وعلى هذه الشاكلة كانت هناك حروب كثيرة لإضعاف الروح المعنوية للمسلمين.
    وأيضاً من الوسائل الخطيرة التي استخدمها التتار لإضعاف الروح المعنوية: الوصول إلى بعض الأدباء والشعراء المسلمين؛ ليقوموا بحرب إعلامية قذرة داخل البلاد الإسلامية، يعظمون فيها جداً من إمكانيات التتار ويقللون جداً من إمكانيات المسلمين؛ حتى لا يتخيل مسلم أنه يحارب تترياً، فتجد أن الكتب في ذلك ملأت بكلمات غريبة، مثل: التتار تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وأن نساءهم يقاتلن كرجالهم، فبدأ رجال المسلمين يخافون من نساء التتار، وأن خيول التتار تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تحتاج إلى الشعير، وأن التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين، وأنهم يأكلون جميع اللحوم ويأكلون بني آدم.
    وهذه الكلمات موجودة في الكتب، وكانت ترعب العوام وتؤثر في نفوس الخواص.
    وهذا إعلام إسلامي عميل في داخل البلاد الإسلامية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    وأيضاً من وسائل الحرب النفسية الخطيرة التي استخدمها التتار: كتابة الرسائل التهديدية الخطيرة، وأعد التتار العدة المناسبة لذلك الأمر، ووصلوا إلى بعض الأوباء المنافقين من المسلمين الذين لهم حس أدبي وفن في كتابة الرسائل ليكتبوا لهم الرسائل، وبدلاً من كتابة الرسالة باللغة المنغولية ثم ترجمتها إلى لغة قد لا تصل بالمعنى المطلوب كانوا يأتون بشاعر أو أديب عربي يكتب الرسالة بالسجع المشهور في ذلك الوقت، وكانت رسالاتهم في منتهى القوة والخطورة، وكانت تدب الرعب في قلوب المسلمين.
    وسنعرض في الدروس القادمة أمثلة من هذه الرسالات.
    ومن وسائل الحرب النفسية التي استخدمها التتار أيضاً: إعلان التحالفات مع أمراء المسلمين وغيرهم، فالقوات التي ستحارب المسلمين الآن ليست قوات التتار وإنما قوات التحالف من التتار والأرمن والكرج وأنطاكية وغيرها، وهذا يدخل الرعب في قلوب المسلمين.
    وكل هذا كان معلناً أمام الناس كلهم، وعندما يرى الشعب أميره يتحالف مع التتار تنعدم المقاومة تماماً في قلبه، وبهذه الوسائل وبغيرها استطاع التتار أن يبثوا الرعب والهلع في قلوب المسلمين، وبذلك أصبح الجو مناسباً جداً لدخول القوات التترية الغازية إلى بغداد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    عقد التتار تحالفات مع بعض الإمارات الإسلامية(47)


    ثم عقد التتار معاهدات مع بعض أمراء المسلمين لضرب بلاد المسمين، ولم يعقد منكو خان هذه المعاهدات بنفسه، فقد استهان جداً بهؤلاء الأمراء، ووكل هولاكو بعقد هذه المعاهدات مع هؤلاء الملوك والزعماء، وكان كل منهم يحمل لقباً أكبر من حجمه مليون مرة، فمنهم من يلقب بالمعظم، ومنهم من يلقب بالأشرف، ومنهم من يلقب بالعزيز، ومنهم من يلقب بالسعيد، فكل منهم يحمل لقباً.
    فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء، {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، فجاء إلى هولاكو بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل ليتحالف معه، وأصبحت منطقة الشمال العراقي التي يعيش فيها الأكراد متحالفة مع التتار؛ لدخول بغداد من الشمال، وجاء سلطان السلاجقة كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ليتحالفا مع هولاكو، وقد كان سلطانهما في تركيا في شمال العراق، فهو مكان في منتهى الحساسية، فهم سيفتحون المجال الأرضي التركي لدخول القوات التترية من شمال العراق إلى بغداد.
    وجاء الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، حفيد الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولكن لم يكن يشبهه في أخلاقه ولا في روحه ولا في فروسيته ولا من أي شيء، فقد كان مهيناً إلى درجة أن أرسل ابنه العزيز ليقود فرقة إسلامية تنضم إلى جيش التتار لغزو العراق.
    وكذلك جاء الأشرف الأيوبي أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار الجديد، وكانت هذه التحالفات بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها في منتهى الخطورة، فقد زادت جداً من قوة التتار حتى أنهم حاصروا العراق من كل مكان، من الناحية الشمالية والغربية والشرقية، هذا بالإضافة إلى أن هذه التحالفات أدت إلى هبوط معنويات الأمة الإسلامية بشكل مريع، فلما شاهد المسلمون أمراءهم على هذه الصورة المخزية ضعفت هممهم وفترت عزائمهم وانعدمت ثقتهم تماماً في قوادهم، ومن ثم لم يعد لهم طاقة للوقوف في وجه التتار، فكانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس:

    ثم وصل التتار إلى شخصية خطيرة جداً في البلاط العباسي نفسه، فوصلوا إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، والشخصية الثانية في الدولة بعد المستعصم بالله، وهو الوزير مؤيد الدين العلقمي الشيعي، ولا يغرك اسمه، فقد كان رجلاً فاسداً خبيثاً جداً، وكان رافضياً، يرفض خلافتي الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان شديد التشيع كارهاً للسنة وأهلها، ومن العجب أن يصل إلى هذا المنصب المرموق في دولة سنية تحمل اسم الخلافة وهو على هذه الصفة، ولا شك أن هذا كان قلة رأي وضحالة فكر وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله، الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الخطير.
    روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما استخلف الله خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله».


    وأسوأ من ذلك أن هذا الوزير المفسد لم يتول الوزارة شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين، وإنما بقي فيها 14 سنة كاملة من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية عندما سقطت بغداد، فقد تولى المستعصم بالله خلافة المسلمين سنة 640هـ، وبعد سنتين جاء بهذا الوزير المفسد إلى مركز كبير وزراء الخلافة العباسية.
    فاتصل هولاكو بـ مؤيد الدين العلقمي الشيعي، واستغل فساده وتشيعه واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد بالآراء الفاسدة الاقتراحات المضللة على قدر ما يستطيع، في مقابل أن يكون له شأن في مجلس الحكم الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، فقام الوزير الفاسد بدوره على أكمل وجه، كما سنرى.


    هذه هي الجهود الدبلوماسية التي قام بها منكو خان وهولاكو، ومن خلالها يتبين أنهما بذلا جهداً كبيراً وضخماً للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، وقد أخذت هذه الجهود منهما 5 سنوات كاملة، فقد تعاونا تعاوناً قوياً مهماً مع ملوك أرمينيا والكرج وأنطاكية النصارى، وحيداً إلى حد كبير أمراء الإمارات الصليبية في الشام، وأقاما تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وتحالفا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي.
    ويجدر القول هنا أن المسلمين بصفة عامة كانوا يراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم، أو أنهم كانوا يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمس من القيام أو الحرك

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت


    تجهيزات الجيش التتري لغزو العراق (48)


    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    في المحاضرة السابقة تحدثنا باستفاضة عن الإعداد المبهر لـ هولاكو لغزو الخلافة العباسية وإسقاط بغداد، وتحدثنا عن إعداده لمسرح العمليات، وعن تحالفاته ومعاهداته، وعن حربه النفسية ضد المسلمين، وعن جهوده في إضعاف جيش الخلافة العباسية ذاته، وذكرنا أنه على قدر براعة هذا الإعداد فإن رد فعل المسلمين كان هزيلاً جداً، بل وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة غير معقولة من العمالة أو الخيانة.
    بعد خمس سنوات كاملة من الإعداد وفي سنة (654هـ) شعر هولاكو أن الظروف أصبحت ملائمة للهجوم المباشر على الخلافة العباسية، فبدأ في عملية حشد هائلة للجنود التتار، فجمع أكبر جيوش التتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيز جان، وكان الذين كلفهم بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه وجنوبه، وغير القوات المكلفة بحماية الطرق وتأمين عمليات الإمداد والتموين، وغير الفرق المساعدة للجيوش، سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة.
    ونتبين تركيبة الجيش التتري في عشر نقاط:

    النقطة الأولى: الجيش التتري الأصلي كان متمركزاً منذ سنوات طويلة في منطقة فارس وأذربيجان في شرق العراق.
    النقطة الثانية: استدعى هولاكو فرقة كبيرة من جيش التتار الذي فتح روسيا، والتي كانت متمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، وكان على رأس هذا الجيش ثلاثة من أبناء أخي باتو، القائد الشهير الذي فتح أجزاء من أوروبا.
    النقطة الثالثة: أرسل هولاكو أيضاً في طلب فرقة من جيش التتار الذي فتح أوروبا، والذي كان متمركزاً في ذلك الوقت على أطراف الأناضول في شمال تركيا، فجاءت الفرقة الكبيرة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير جداً بيجو الذي تكلمنا عنه من قبل.
    النقطة الرابعة: أرسل هولاكو إلى صديقه ملك أرمينيا يطلب المساعدة، فجاءه هيثوم ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من الجيش الأرميني.
    النقطة الخامسة: طلب هولاكو أيضاً من ملك الكرج أن يرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فوراً.
    النقطة السادسة: استدعى هولاكو ألفاً من الرماة الصينيين المهرة، الذين اشتهروا بتسديد السهام المحملة بالنيران.
    النقطة السابعة: وضع هولاكو على رأس الجيوش أفضل قواد التتار في ذلك الوقت واسمه كتبغانوين، وفوق إمكانيات هذا القائد القيادية والمهارية، فإنه كان نصرانياً، وكان هذا اختياراً مناسباً من هولاكو؛ لأن كتبغانوين النصراني سيستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش من أرمينيا والكرج وأنطاكيا.
    وقد ضم الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار قاطبة، وهم هولاكو وكتبغانوين وبيجو.
    النقطة الثامنة: راسل هولاكو أمير أنطاكيا بوهمند، فتعذر عليه أن يخترق الشام كله، إلا أنه كان على استعداد تام للحرب، ومجهزاً كل جيوشه، وعلى استعداد -حال سقوط العراق- للمشاركة في إسقاط الشام.
    النقطة التاسعة: كان هناك فرقة إسلامية في داخل الجيش التتري، على رأسها ولي عهد دمشق العزيز بن الناصر يوسف الأيوبي حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، تشارك في جيش التتار لإسقاط العراق.
    النقطة العاشرة: كانت هناك فرقة إسلامية أخرى أرسلها بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل؛ لتساعد أيضاً جيش التتار في إسقاط العراق.
    وهاتان الفرقتان الأخيرتان كانتا هزيلتين، وليس لهما أي قيمة، ولكنهما كانتا تحملان معان كثيرة، فهناك مسلمون في جيش التتار يشتركون مع التتار في حرب المسلمين، بل اشترك في عملية إخلاء العراق من الخلافة العباسية عراقيون متحالفون مع التتار، باعوا كل شيء في مقابل شيء حقير أو إمارة تافهة أو دراهم معدودة، أو مجرد حياة أي حياة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    بدء تحرك جيش التتار نحو بغداد وسحقهم للإسماعيلية الشيعة على طريقهم (49)


    للنصر أسباب ينبغي الأخذ بها، ولا يجوز إغفالها بأي حال من الأحوال، ومن الوهم اكتفاؤنا باعتقاد أننا أصحاب الدين الحق مع عدم إعداد العدة، فللهزيمة أسباب ينبغي تجنبها، وأخطر هذه الأسباب وأشدها التفرق والتناحر والتشرذم، كما كان الحال عند اجتياح التتار لبغداد.

    بهذا الإعداد العالي المستوى للتتار اكتمل جيش التتار، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطة المعركة، وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق، يعني: بين الجيش التتري وبين الخلافة العباسية، سوف تمثل خطورة كبيرة على الجيش التتري، فهي مشهورة بقوة القتال والحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان، ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، وأنها من المنافقين الذين يتزلفون إلى الأقوياء، إلا أن التتار لم يطمئنوا لهم أبداً، فآثروا ألا يتركوا شيئاً للمفاجآت، وقرروا عدم دخول بغداد إلا بعد استئصال شأفة الإسماعيلية تماماً، ومع أن هذا سيأخذ منهم وقتاً إلا أنه لابد أن يعمل لكل شيء حسابه.


    فتحركت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية وحاصرتها حصاراً محكماً، ودارت حروب شرسة بين التتار والإسماعيلية انتهت بسحق كامل للإسماعيلية وخلو المنطقة تماماً منهم، وأصبح الطريق مفتوحاً إلى بغداد.
    وقد استغرقت هذه الحروب سنة (655) للهجرة بكاملها.
    وهذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم نقصد منه إظهار الانبهار بـ هولاكو أو الاحتقار للمسلمين، وإنما هو محاولة للبحث عن مبرر واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد، فالناظر للأحداث دون تعمق، أو الدارس للأمر بسطحية قد يتساءل:

    لماذا يسمح الله عز وجل للتتار وهم أخس أهل الأرض بسفك دماء المسلمين، واستباحة الحرمات بهذه الصورة، مع أن المسلمين مهما وقع منهم من قصور إلا أنهم موحدون، ومقيمون للصلاة، وقارئون لكتاب الله عز وجل؟ أقول: أحببت أن أتابع معكم هذا الإعداد الطويل المرتب، الذي لم يقابل بأقل درجات الاهتمام من جانب المسلمين، لتحدث بذلك المأساة الكبرى والبلية العظمى، والذي يعتمد فقط على كونه من الموحدين المسلمين، ولا يعد العدة للقتال، ولا يأخذ بالأسباب، فهو واهم في إمكانية تحقيق النصر.
    وكثيراً ما رأينا في التاريخ وفي الواقع اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس أو الشيوعيين الملاحدة ينتصرون على المسلمين، بل ويكثرون من إهانتهم، عندما يأخذ هؤلاء الأقوام بالأسباب المادية ويتركها المسلمون، وسنة الله عز وجل لا تبديل لها ولا تغيير.


    ثم اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، فالقرار فيه هو غزو العاصمة بغداد وإسقاط الخلافة الإسلامية، وعقد مجلس الحرب هذا في مدينة همذان الفارسية، وأخذ القرار فعلاً بالحرب، واهتم هولاكو بوضع مراقبة لصيقة على الفرق الإسلامية، فقد كان خائفاً من الخيانة، ولكن هذا الخوف لم يكن حقيقياً، فالأمراء المسلمون الذين انضموا إلى هولاكو لم يكن في نيتهم أبداً الغدر بـ هولاكو، وإنما كانت نيتهم وعزمهم أن يغدروا ببغداد، ثم انطلقت الجيوش من همذان في اتجاه العراق، وبينهما (450) كيلو متر.
    قسم هولاكو جيشه إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وقاده هولاكو بنفسه، ثم لحقت به أكثر من فرقة من الفرق الهامة في الجيش التتري، فلحقت به الفرقة التي أتت من روسيا، والفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، واخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد، ومر بمدينة كرمان شاه، بعد أن نقيت هذه المنطقة تماماً من الإسماعيلية، ليحاصر بغداد من الجهة الشرقية.
    القسم الثاني: الجناح الأيسر لجيش التتار، وقاده كتبغانوين أفضل قواد هولاكو، وقد تحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد إلى الجنوب من الجيش الأول.
    وتم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية -إن كان هناك مخابرات- أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً أنه كان على جيش كتبغانوين اختراق سهول العراق والتوجه لحصار بغداد من جنوبها.
    ومع أن المسافة من همذان إلى بغداد (450) كيلو متر إلا أن هولاكو كان يتميز بالحذر، الذي استطاع معه أن يخفي هذا الجيش بكامله عن عيون العباسيين، ولم يكتشف العباسيون جيش التتار إلا وهو على بعد أقل من (50) كيلو متر من بغداد.


    القسم الثالث: الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول شمال تركيا الآن، وهو الذي فتح أوروبا، وكان على رأسه الزعيم التتري الكبير بيجو، وقد جاء هذا الجيش من المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب، حتى وصل إلى بغداد؛ ليحاصرها من الشمال، ثم التف أيضاً ليحاصرها من الغرب، وبذلك حوصرت بغداد بين هولاكو شرقاً وكتبغانوين من الجنوب وبيجو من الغرب والشمال.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    حصار هولاكو لبغداد (50)


    كانت بغداد في ذلك الوقت من أشد مدن الأرض حصانة، وكانت أسوارها من أقوى الأسوار، فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، فقد أنفق على تحصينها أموال طائلة وجهود هائلة، وكانت هذه الجهود جهود سنين وقرون، ولكن وا أسفاه على المدينة الحصينة، فالحصون تحتاج إلى رجال يحمونها، ويبدو أن الرجال قد ندروا في ذلك الزمان.
    في يوم (12) محرم سنة (656هـ) ظهر جيش هولاكو فجأة أمام الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وبدأ ينصب معدات الحصار الثقيلة جداً حول المدينة، وجاء كذلك كتبغا بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية.
    ارتاع خليفة المسلمين، وعمل اجتماعاً عاجلاً طارئاً جمع فيه كبار المستشارين، وكان على رأسهم الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي، فكان رأي مؤيد الدين العلقمي مهادنة التتار وإقامة مباحثات سلام، ولا مانع عنده من كثير من التنازلات، وكان يقول: ليس هناك أمل، والحل الوحيد هو السلام غير المشروط، ولكن الخير لا يعدم في هذه الأمة، فقام رجلان من الوزراء، وهما مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه يشيران على الخليفة بحتمية الجهاد، وهذه الكلمة كانت جديدة تماماً على هذا الجيل من الدولة العباسية، وجاءت الإشارة إليها متأخرة جداً، فقد انتهى زمن الإعداد ووقت الاختبار، ولكن لعله يحرك جيشاً، وكان الخليفة محتاراً، فهواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي، فهو ليس قادراً على الحرب، وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه؛ لأن تاريخ التتار كله لا يبشر بأي فرصة للسلام،

    كما أنه كان يسمع من أجداد أجداده أن الحقوق لا توهب إنما تؤخذ، فكان الخليفة محتاراً متردداً هيناً ليناً ضعيفاً، والجهاد لا ينفع أبداً مع هذه الصفات، فالجهاد ليس قراراً عشوائياً، ولا يوجد مجاهد بالصدفة أبداً، فالجهاد إعداد وتربية وتضحية مع الإيمان، فهو ارتقاء إلى الأعلى، حتى الوصول إلى ذروة سنام الإسلام، فهو ليس على سبيل التجربة نجرب لنجاهد، ما ينفع هذا الكلام.
    فسمح الخليفة للمرة الأولى تقريباً في حياته باستخدام الجيش، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يحارب فيها هذا الجيل من الجنود، وأول مرة ينتقل إلى الأعمال العسكرية، فقد انتقل من الأعمال المدنية في الزراعة والصناعة وزراعة الخيار والطماطم إلى الأعمال العسكرية، فخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي على رأسها مجاهد الدين أيبك لتلاقي جيش هولاكو المهول، فخرجوا من أسوار بغداد في اتجاه الشرق لمقابلة جيش هولاكو، ثم سمعوا بقدوم جيش بيجو من الشمال، وحتى لا تحاصر بغداد أيضاً من الشمال والغرب فتصبح مطوقة تماماً، عدل مجاهد الدين أيبك إلى محاربة جيش بيجو بدلاً من محاربة جيش هولاكو؛ لكي لا تحاصر بغداد من كل الجهات، فانتقل بجيشه الضعيف الهزيل لملاقاة جيش بيجو في الشمال، والتقى معه في منطقة الأنبار، التي شهدت انتصاراً خالداً قبل أكثر من (600) سنة على يد البطل الخالد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وأما في هذه المرة للأسف لم يوجد خالد ولا جيشه، فاستدرج الجيش المسلم في أرض الأنبار وسحق فيها، واستطاع مجاهد الدين أيبك بأعجوبة أن يهرب بفرقة ضعيفة جداً من الجيش الضعيف أصلاً ويعود إلى داخل بغداد، وهلك الجيش العباسي أو معظمه.
    وكانت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في (19) محرم، يعني: بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    المفاوضات بين التتار والخلافة العباسية (51)


    لم يضيع بيجو الوقت، فانتقل بجيشه من الأنبار مباشرةً إلى شمال بغداد وحاصرها، فطوقت بغداد بين هولاكو وبيجو وكتبغا.
    فاستغل مؤيد الدين العلقمي الفرصة وقال للخليفة: لابد أن نجلس مع التتار على طاولة المفاوضات، وكان الخليفة عارفاً أنه إذا جلس قوي شديد القوة مع ضعيف شديد الضعف، فإن هذا لا يعني أبداً مفاوضات، وإنما يعني استسلاماً، وفي الاستسلام عادة ما يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض،

    ومع ذلك وافق الخليفة المسكين على الاستسلام، أي: على المفاوضات، فبعث وفداً رسمياً للمفاوضات مكوناً من مؤيد الدين العلقمي الشيعي الذي يكن في قلبه كل الحقد والغل والغيظ على الخلافة العباسية، وأرسل معه البطريرك النصراني ماكيكا، فكان الوفد الرسمي الممثل للخلافة الإسلامية العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضم إلا رجلين فقط: أحدهما: شيعي، والآخر: نصراني.
    فدارت المفاوضات السرية جداً بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية الإسلامية، وأعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وكان أهم هذه الوعود أن يكونا عضوين في مجلس الحكم الجديد الذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار، فعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة بالشروط التترية، وهذه العروض والوعود كانت:

    أولاً: إنهاء حالة الحرب بين الدولتين، وإقامة علاقة سلام دائم.
    ثانياً: زواج ابنة هولاكو الزعيم التتري، الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم المستعصم بالله، وكان هذا شيئاً كبيراً على المستعصم بالله.
    ثالثاً: بقاء المستعصم بالله على كرسي الحكم، وكان هذا شيئاً مهماً جداً بالنسبة له.
    رابعاً: إعطاء الأمان لأهل بغداد جميعاً لو فتحت أسوارها.
    وأما الشروط

    فأولها وأهمها: قمع حركة الجهاد التي أعلنت في بغداد؛ لأن الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات السلام، وعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رءوس الحركة الإسلامية ببغداد مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه.
    ثانياً: تدمير الحصون العراقية، وردم الخنادق، وتسليم الأسلحة.
    ثالثاً: الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية.
    وختم هولاكو المباحثات مع المبعوثين الساميين بأنه جاء إلى هذه البلاد لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان، وبمجرد أن تستقر الأمور وفق الرؤية التترية، فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويديرون شئون بلادهم بأنفسهم.


    فقال: مؤيد الدين العلقمي الشيعي للخليفة: إن هذه المفاوضات مرضية جداً، وشروطها بسيطة سهلة، والتتار عندهم وعود وعهود، وهولاكو رجل طيب، فكان الخليفة مضطراً إلى الموافقة مع شك كبير جداً، فالشروط في قلبه قاسية جداً، فهو متردد وليس قادراً على الموافقة عليها، مع أن الموقف خطير، والوزراء يحاولون إقناعه بأنه لا أمل له في الحياة إلا إذا أطاع هولاكو، فهو يرى أنه سيعيش ذليلاً وضيعاً، وسيبيع كل شيء بثمن بخس، فهو متردد، والشعب الضخم الذي كان يعيش في بغداد كان أيضاً متردداً، ونداء الجهاد لم يعد ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جداً، فعامة الناس انخلعت قلوبهم لحصار التتار، فقد عظمت الدنيا جداً في عيون أهل بغداد في ذلك الزمن، واستحال عليهم أن يضحوا بالدنيا، فقد كثر الخبث فعلاً في بغداد، وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جداً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت
    قصف التتار لبغداد (52)

    كان الخليفة يريد القليل من الوقت ليفكر، وهولاكو ليس عنده وقت.

    كان هولاكو محاصراً لبغداد بجيوش تترية ضخمة تكلفه آلاف الدنانير كل يوم، وكان هذا الحصار في شهر محرم سنة (656) هجرية الموافق لشهر يناير سنة (1258) ميلادية في جو شديد البرودة، وفوق كل هذه الصعوبات كان هولاكو ينظر إلى بغداد ويرى الحلم الجميل الذي راود أجداده من قبل، حلم اجتياح بغداد وإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية، فهو لن ينتظر وقتاً طويلاً، فبدأ يقصف بغداد بالقذائف الحجرية والنارية، ومع أول قذيفة سقط قلب الخليفة في قدمه، واستمر القصف على بغداد أربعة أيام متتالية.


    وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية موقفاً بسيطاً ولم يعلق على الموقف، ولكنه حمل معاني كثيرة، يقول ابن كثير: وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل مكان، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة.


    فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرة الستائر على دار الخلافة.
    هذا الحدث ذكره ابن كثير ولم يعلق عليه، وهو وإن كان في ظاهره أمر بسيطاً عابراً، إلا أنه يحمل معاني هائلة عندي، فقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة، فالخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.
    وقد تكون الجارية ملك يمينه حلالاً له، ولكن أتحاصر عاصمة الخلافة الإسلامية، والموت على بعد خطوات منها، والمدفعية المغولية تقصف بمنتهى العنف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري! أين العقل والحكمة؟

    فقد أصبح رقص الجواري في الدماء، وصار كالطعام والشراب لابد منه حتى في وقت الحروب، ولا أدري والله كيف كانت نفسه تقبل أن تنشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة، وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة، فقد اختيرت بعناية، فقد كتب عليه: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم.
    يعني: أن الله عز وجل قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب عقل الخليفة وعقل أعوانه وشعبه.
    ولاشك أن هذه العبارات المنتقاة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة، التي يمارسها التتار بمنتهى المهارة على أهل بغداد، ويكفي دليلاً على قلة عقل الخليفة، أنه بعد قتل الجارية الراقصة لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، وإنما فقط أمر بزيادة الاحتراز! ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية، ولزيادة الوقاية، ولستر الراقصات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    واستمر القصف على بغداد من يوم (1) صفر إلى (4) من صفر في سنة (656) من الهجرة، وفي (4) من صفر سقطت الأسوار الشرقية لبغداد وانهارت.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    خروج الخليفة ووزرائه وكبار قومه إلى هولاكو وقتل التتار لهم (53)

    مع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً، فلم يبق من عمره إلا لحظات قليلة، فأشار عليه الوزير مؤيد الدين العلقمي أن يخرج بنفسه لمقابلة هولاكو؛ فلعله يقتنع هولاكو في مباحثات السلام، فذهبت الرسل من عند الخليفة إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ومعه كبار رجال الدولة من الوزراء والفقهاء والعلماء وأمراء الناس وأعيانهم؛ حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وتصبح المفاوضات ملزمة للجميع، فلم يكن عند الخليفة اختيار، فجمع كبار قومه، وخرج في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو ومعه (700) من قادة المسلمين وعلمائهم في بغداد، وخرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، فهذه أول مرة يخرج فيها بهذه الذلة والمهانة،
    فقد كان من عادته أن يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، والآن يخرج بهذه الصورة، وكان ماشياً بجواره وزيره مؤيد الدين العلقمي الشيعي، فلما اقترب الوفد من خيمة هولاكو اعترضه فرقة من الحرس الملكي التتري قبل الدخول على هولاكو، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو،
    وقالوا: سيدخل الخليفة ومعه (17) رجلاً فقط، وأما الباقي فعليهم الخضوع للتفتيش الدقيق، فدخل الخليفة ومعه (17) من رجاله، وحجب عنه بقية الوفد، ولكنهم لم يخضعوا للتفتيش، بل أخذوا جميعاً للقتل، فقتل الوفد بكامله إلا الخليفة ومن كان معه في داخل الخيمة، فقتل كبراء القوم ووزراء الخلافة وأعيان البلد وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى، وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر، واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله، واكتشف ما كان واضحاً لكل الخلق ولم يره هو إلا الآن، اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10].

    واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه، وإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك، ولكن هذا الاكتشاف جاء متأخراً للأسف، وبدأ السفاح هولاكو يصدر الأوامر الصارمة:

    الأول: على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة، وكان هذا أمراً سهلاً؛ لأنه لا يوجد شخص في المدينة رافعاً للسلاح.
    الأمر الثاني: تقييد الخليفة المسلم وسوقه إلى المدينة يرسف في أغلاله؛ لكي يدل التتار على كنوز العباسيين.
    الأمر الثالث: قتل ولدي الخليفة أمام عينه: أحمد وعبد الرحمن، ما كان اسمهما: عدي وقصي، وإنما أحمد وعبد الرحمن.
    الأمر الرابع: أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة، وخديجة، ومريم.
    الأمر الخامس: أن يكتب ابن العلقمي أسماء علماء السنة وحملة القرآن وخطباء المساجد داخل بغداد، ثم أمر بإخراجهم مع أولادهم ونسائهم إلى مكان خارج بغداد بجوار المقابر، فكان ينام العالم على الأرض ويذبح كما تذبح الشياة، ثم تؤخذ نساؤه وأولاده سبايا أو للقتل، فكانت مأساة بكل المقاييس، وقد ذبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن العالم الإسلامي المشهور ابن الجوزي رحمه الله، وذبح أولاده الثلاثة معه: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، وذبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه صدر الدين علي بن النيار، ثم ذبح بعد ذلك خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن، والخليفة حي يشاهد هذا، فيا ترى كم من الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة؟!


    ولو تخيل الخليفة ولو للحظات أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، فلا شك أن إدارته للبلاد ستختلف اختلافاً جذرياً، والأيام لا تعود، وهذه سنة الأيام، فألقى أهل المدينة السلاح وقتلت الصفوة.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت


    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    استباحة التتار لبغداد (54)

    بعد هذا الأمر انساب جنود هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة، وأصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية -
    يعني: أن للجيش التتري أن يفعل فيها ما يشاء، فيقتل ويأسر ويسبي ويزني ويسرق ويدمر ويحرق، وكل ما بدا له أن يفعله فليفعله، فانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين، واستبيحت مدينة بغداد العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكم من الجيوش خرجت لتجاهد من هذه المدينة العظيمة بغداد؟ وكم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة؟ وكم من طلاب العلم شدوا الرحال إليها؟ والآن لم يبق لها أحد.

    أين خالد بن الوليد؟ وأين المثنى بن حارثة؟ وأين القعقاع؟ وأين النعمان؟ وأين سعد؟ أين الحمية في صدور الرجال؟ وأين النخوة في أبناء المسلمين؟ أين العزة والكرامة؟ أين الذين يطلبون الجنة ويقاتلون في سبيل الله؟ بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟ لم يوجد منهم أحد، ففتحت بغداد أبوابها على مصراعيها، فلا مقاومة لا حراك، فلم يبق في بغداد رجال، ولكن أشباه رجال، واستبيحت المدينة العظيمة، مدينة الإمام أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، مدينة الرشيد رحمه الله والمعتصم فاتح عمورية، واستبيحت عاصمة الإسلام التي بقيت كذلك لأكثر من خمسة قرون، وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل أبداً، فبدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع وميدان وبيت وحديقة ومسجد ومكتبة، واستحر القتل في المسلمين، والمسلمون لا حول لهم ولا قوة،

    ولا هم لهم إلا الهرب إلى أي مكان، فكان المسلم يهرب إلى داره ويغلق عليه الباب، فيأتي التتري ويحرق الباب أو يقلعه ويدخل عليه، فيهرب إلى السطح ويصعد التتري وراءه ويقتله فوق السطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة.
    ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط، بل كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، والنساء إلا من استحسنوها منهن فكانوا يأخذونها سبياً، بل وكانوا يقتلون الأطفال والرضع، فقد وجد جندي من التتار (40) طفلاً في شارع جانبي قد قتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعاً، فقد كانت قلوب التتار قاسية كالحجارة أو أشد قسوة، وتزايد أعداد القتلى في المدينة بشكل بشع على مر الأيام، ولم تتوقف الإبادة ولم تنته، ولم يكن هناك دفاع ولا مقاومة، ودخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون لا يجرحون، بل إنهم لا يموتون، حدث كل هذا والخليفة حي يشاهد، وهذا هو العذاب بعينه،

    ولنتخيل مدى الحسرة والألم في قلب الخليفة وهو واقف يتفرج على هذه الأحداث، وقد سيق كما يساق البعير في داخل مدينته الكبيرة، لاشك أنه قال مراراً: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، ولاشك أنه نادم يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ولابد أنه قد مر على ذهنه شريط حياته في لحظات، وأن لسان حاله كان يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
    روى أبو داود وأحمد رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة -وهي نوع من أنواع الربا- وأخذتم أذناب البقر -أي: عملتم في رعي المواشي- ورضيتم بالزرع -أي: رضيتم بالاشتغال بالزراعة وأعمال الرعي في وقت الجهاد المتعين- وتركتم الجهاد» ، فإذا حدثت هذه الأمور: ( «تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا دينكم».


    فقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة، بل في العلم والتعلم، وتركوا الجهاد في سبيل الله، فكانت النتيجة هذا الذل، ثم سيق الخليفة المستعصم بالله إلى خاتمته الشنيعة بعد أن دل على كل كنوز العباسيين، فقد انتهى دوره، وقتل الخليفة المسلم، فقد وضعه التتار في كيس، ثم أمر هولاكو أن يقتل الخليفة رفساً بالأقدام في ذل وإهانة.
    وإنا لله وإنا إليه راجعون.


    لم تسقط بغداد فقط، بل سقط معها آخر خلفاء بني العباس في بغداد، وسقط معه الشعب بكامله، وكان هذا في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها، يوم (14) صفر سنة (656) من الهجرة، ولم تنته المأساة بقتل الخليفة، وإنما أمر هولاكو لعنه الله باستمرار عملية القتل في بغداد، فاستمر القتل مدة (40) يوماً متصلة، لم يكن فيها هم للجنود التتر إلا قتل المسلمين، فقتل في بغداد ألف ألف مسلم ما بين رجال ونساء وأطفال، قتلوا في (40) يوماً فقط.
    أقول

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    إغراق التتار لمكتبة بغداد في نهر دجلة (55)

    بينما كان فريق من التتار يقتل المسلمين ويسفك دماءهم، اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر، ليس له مبرر، إلا أن التتار قد ملأ الحقد قلوبهم لكل ما هو حضاري في بلاد المسلمين، فقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين، فالمسلمون لهم تاريخ طويل جداً في العلوم والدراسة والأخلاق، ولهم عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم الديني منها والدنيوي، فقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات، بينما التتار لا حضارة لهم، بل هم أصلاً أمة لقيطة، نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها، وقاتلت كما تقاتل الحيوانات، بل عاشت كما تعيش الحيوانات، فلم ترغب مطلقاً في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا كما فعل المسلمون قبل ذلك، ولكنهم عاشوا فقط للتخريب والتدمير والإبادة.

    فشتان بين أمة التتار وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.
    وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة، فاتجه فريق من أشقياء التتار إلى تدمير مكتبة بغداد العظيمة، أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، فقد كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من (600) عام، جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون، من علوم شرعية، كالتفسير والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق، وعلوم حياتية، كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا، وعلوم إنسانية، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة، وكل أنواع العلوم، هذا بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر، والترجمات المختلفة لكل العلوم الأجنبية اليونانية والفارسية والهندية وغيرها.


    فقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس، ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس، وقد مرت مكتبة قرطبة بنفس التجربة قبل (20) سنة فقط من سقوط بغداد -أي: عام 636 من الهجرة- فقد أحرقت مكتبة قرطبة تماماً عندما سقطت في يد نصارى أوروبا، وقام بذلك الحرق أحد قساوسة النصارى بنفسه واسمه قمبيز.


    حمل التتار الكتب الثمينة والتي بلغ أعدادها ملايين الكتب الثمينة، وألقوا بها جميعاً في نهر دجلة، هكذا ببساطة، وهذا من غباء التتار، فقد كان يمكنهم أخذ هذه الكتب إلى قراقورم عاصمة المغول؛ ليستفيدوا منها، فهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية، ولكن التتار أمة همجية لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم، فهي لا تعيش إلا لملذاتها وشهواتها فقط.
    وكان هدفهم في الدنيا هو تخريبها، فألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، حتى قيل: إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من الضفة إلى الضفة الأخرى.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت


    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    إتلاف الغزاة لمكتبات المسلمين في كل حروبهم(56)



    إن إغراق مكتبة بغداد ليست جريمة في حق المسلمين فقط، بل في حق الإنسانية كلها، وهي جريمة متكررة في التاريخ، فقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس في مكتبة قرطبة الهائلة كما ذكرنا من قبل، وفعلوها مرة ثانية في الأندلس في مكتبة غرناطة عند سقوطها،
    فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة، وفعلوها في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها.
    وفعلها الصليبيون النصارى أيضاً في الشام في مكتبة طرابلس اللبنانية، فقد أحرقوا ثلاثة ملايين كتاب، ومكتبة طرابلس لا تقارن بالمرة بمكتبة بغداد، فتخيل الرقم الذي أغرق في نهر دجلة من الكتب من مكتبة بغداد، وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبة غزة والقدس وعسقلان،

    ثم فعلها بعد ذلك المستعمرون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكنهم كانوا أكثر ذكاء من أجدادهم، فقد سرقوا الكتب إلى أوروبا ولم يحرقوها، ومازالت المكتبات الكبرى في أوروبا إلى الآن تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض، والكتب الأصلية في أوروبا أضعاف أضعاف ما يمتلكه المسلمون في بلادهم.

    فقد كان هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم، إما بحرق الكتب، أو تغريقها في الأنهار، أو سرقتها، أو بتغيير مناهج التعليم كما يعملون الآن حالياً؛ لتفريغ الأمة من أهم ما تمتلك من العلم والدين والأخلاق.

    بعد أن فرغ التتار من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة والمباني الأنيقة، فتناولوها بالتدمير والحرق، وسرقوا محتوياتها الثمينة، وما عجزوا عن حمله من المسروقات أحرقوه، فتحولت المدينة الكبيرة إلى ركام وخراب، فقد كانت ألسنة النار والدخان تتصاعد من كل مكان.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    تعيين هولاكو لمؤيد الدين العلقمي حاكماً على بغداد (57)


    ثم أصدر أيضاً هولاكو قراراً جديداً بتعيين مؤيد الدين العلقمي الشيعي رئيساً على مجلس الحكم المعين من قبل التتار، على أن توضع عليه وصاية تترية، فلم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، حتى وصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن هذه الإهانة تأتي من قبل هولاكو بل من صغار الجند في جيش التتار؛ لأنهم يريدون أن يحطموا نفسيته حتى لا يشعر بقوته، ولا يظن أنه رئيس فعلاً، بل يظل تابعاً للتتار في منتهى الذلة.
    وهكذا من باع دينه ووطنه ونفسه، فإنه يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء ليس له أي قيمة، ولم يعش الوزير الخائن بعد أن تولى الحكم إلا أياماً قليلة في ذل ومهانة، ثم مات في بيته، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة؛ ليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
    ثم ولى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، وكان الابن قد ورث الخيانة من أبيه، ولكن هذا المنصب أصبح شؤماً على من يتولاه، فقد مات الابن الخائن الجديد الشاب الصغير في نفس السنة التي سقطت فيها بغداد سنة (656) من الهجرة.
    ولا عجب فمن تمسك بهذه الدنيا أهلكته، فقد تمسك بها الخليفة فهلك، ثم الوزير الخائن فهلك، ثم ابن الوزير فهلك،


    وتمسك بها شعب بغداد فهلك،
    وهذه سنة ماضية.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت


    أثر سقوط بغداد على العالم الإسلامي (58)


    وصلت أخبار سقوط بغداد إلى العالم بأسره، فأما العالم الإسلامي فكان سقوط بغداد بالنسبة له صدمة رهيبة، لم يمكنه استيعابها مطلقاً، فبغداد لم تكن مدينة عادية، فكونها أكبر مدينة على وجه الأرض في ذلك الحين،
    وبها أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، وأنها من أعظم دور العلم والحضارة والمدنية في الأرض، ومن ثغور الإسلام القديمة، فهي عاصمة الخلافة الإسلامية.
    وتساءل الناس سؤالاً خطيراً: ماذا يعني سقوط بغداد؟ وماذا يعني قتل الخليفة وعدم تعيين خليفة آخر؟ لم تكن تعني للمسلمين شيئاً بدون خلافة أو خليفة، فحتى مع مظاهر الضعف الواضحة في السنوات الأخيرة للخلافة العباسية، إلا أن ذلك لم يكن يلغي معنى الخلافة من أذهان الناس، فالخلافة كانت تعتبر رمزاً هاماً للمسلمين، فإذا كان هناك خلافة ولو ضعيفة، فقد يأتي زمان تتقوى فيه الخلافة، أما أن تختفي الخلافة بالمرة فهذا غير مفهوم عند المسلمين.


    ثم ظهر عند المسلمين في ذلك الوقت اعتقاد غريب، فسيطر على كثير منهم اعتقاد أن ظهور التتار وهزيمة المسلمين وسقوط بغداد ما هي إلا علامات للساعة، وأن المهدي سيظهر قريباً جداً؛ ليقود جيوش المسلمين للانتصار على التتار.
    وأنا أقول: سيظهر المهدي في يوم ما، وسينزل المسيح عليه السلام، وستقوم الساعة، فنحن نؤمن بذلك يقيناً، وأما متى فلا يدري أحد، {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
    ثم لماذا تظهر مثل هذه الدعوات في أوقات الهزائم والانتكاسات؟ هذا ليس له إلا مبرر واحد، وهو أن الناس أحبطوا تماماً، وأصبحوا يشكون في إمكانية النصر على أعداء الله بمفردهم، فقد أيقن الناس أنهم لا طاقة لهم بـ هولاكو وجنوده، ولذلك بحثوا عن حل آخر أسهل، وهو انتظار خروج المهدي، وعندها سيقاتلون معه، أما الآن فلا يستطيعون، فجلسوا يراقبون الموقف عن بعد، وينتظرون المعجزة.
    كان هذا هو الوضع في العالم الإسلامي.
    وأما العالم النصراني فقد عمت البهجة والفرح أطرافه بكاملها، وكان هذا الشيء متوقعاً جداً منهم، فقد ذكرنا في أول هذه المحاضرات أن قوى العالم الرئيسية في هذا القرن كانت ثلاث قوى: العالم الإسلامي، والعالم النصراني، والتتار، وكانت الحروب بين المسلمين والنصارى على أشدها.
    وكانت هذه الضربة التترية ضربة موجعة جداً للعالم الإسلامي، ولاشك أن أطماع الصليبيين ستتجدد في الشام ومصر، وبغض النظر عن سرور النصارى أو التتار فقد سقطت بغداد، ومع عظم المصيبة على المسلمين، والمكاسب الهائلة التي حققها التتار، والكنوز الثمينة التي نهبوها، إلا أن الذي يشرب من الدم لا يرتوي أبداً.
    لذلك كان من الواضح أن بغداد لن تكون المحطة الأخيرة للمعتدين، ولابد أنهم سيبحثون عن كنز آخر وضحية جديدة.
    فماذا سيفعل التتار؟

    وإلى أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي سيتجهون؟ وما هو رد فعل المسلمين؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
    أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت


    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    موالاة أمراء المسلمين للتتار (59)

    في المحاضرة السابقة تعرضنا للكارثة الكبرى التي أصابت المسلمين وهي احتلال العراق وسقوط بغداد، وقتل مليون مسلم في بغداد، وتعرضنا لاستباحة كل شيء في هذه المدينة العظيمة، وتدمير المخزون الثقافي والحضاري الهائل في مكتبة بغداد، وكان واضحاً من خطوات التتار ومن رد فعل المسلمين أن احتلال العراق لن يكون أبداً المحطة الأخيرة للتتار في بلاد المسلمين، وإنما ستعقبه ولا شك أطماع جديدة، وأحلام توسعية كبيرة جداً في أراضي المسلمين.
    اجتاح التتار العراق وبلاد الشام في زمن يسير، ساعدهم على ذلك تعاون بعض أمراء المسلمين الخونة معهم، وكذلك تحالف النصارى، وتفرق المسلمين فيما بينهم، وعدم وجود روح الأخوة بين الشعوب المسلمة لمساعدة إخوانهم المحاصرين.
    بعد تدمير العراق انسحب هولاكو من بغداد إلى همذان بفارس، ثم توجه إلى قلعة تسمى: قلعة شاها على شاطئ بحيرة أرمية، وبحيرة أرمية في الشمال الغربي لإيران، وفي هذه القلعة وضع الكنوز الهائلة التي نهبها من قصور العباسيين، ومن بيت مال المسلمين، ومن بيوت التجار وأصحاب رءوس الأموال وغيرهم.

    وترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية، لا شك أن الخطوة القادمة ستكون سوريا، فبدأ يدرس الموقف في هذا المنطقة، وبينما هو يقوم بهذه الدراسة ويحدد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون ولاءهم للتتار، وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار، وتطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع الصديق الجديد، رجل الحرب والسلام هولاكو، ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجف بعد، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو، فالفجوة هائلة بينهم وبين هولاكو، والأفضل في اعتباراتهم أن يفوزوا بأي شيء، وهذا أحسن من لا شيء، أو على الأقل يحيدون جانبه ويأمنون شره.


    يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72]، فقد فرح هؤلاء الأمراء بعدم الاشتراك في الدفاع عن بغداد وعن العراق؛ لأن بغداد سقطت، وهكذا هم مع المنتصر، يسارعون إليه أياً كان.
    وقد كان هؤلاء الأمراء يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء، الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب، وقد كان لهم خطب قوية نارية حماسية، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]، وقد كان هناك كثير من العلماء الأصوليين يؤيدون خطوات الأمراء، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباع هؤلاء الأمراء، والرضا بأفعالهم مهما كانت،

    ولا شك أن هؤلاء العلماء كانوا يضربون لهم الأمثال من السنة النبوية المطهرة، ويقولون لهم: لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية المشركين، فلماذا لا نعاهد نحن التتار الآن؟ ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة المنورة، فلماذا لا نعاهد نحن التتار في بغداد؟ وهكذا.
    ثم يقولون: إن التتار جنحوا للسلام، والله عز وجل يقول:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61] فالتتار جنحوا للسلم معنا، ويريدون أن يقيموا معنا معاهدات وأحلافاً، أفتريدون أن نقع في مخالفة شرعية ولا نسمع لكلام ربنا؟!

    وهل تريدون سفك الدماء وتخريب الديار وتدمير الاقتصاد؟! إن الحكمة كل الحكمة ما فعله أميرنا من التصالح والتعاهد والتحالف مع التتار، ولنبدأ صفحة جديدة من الحب لكل البشرية {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78].

    ذهب هؤلاء الأمراء إلى هولاكو وقلوبهم تدق وأنفاسهم تتسارع، وهم يتساءلون: هل سيقبل سيدهم هولاكو أن يتحالف معهم؟ جاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع الصديق هولاكو، فقد جاء الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، والأمير كيكاوس الثاني، والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول وسط وغرب تركيا، والأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص، والأمير الناصر يوسف حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أمير حلب ودمشق، وكان هؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق.

    ولا حوله ولا قوة إلا بالله .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,530

    افتراضي رد: التتار من البداية إلى عين جالوت

    - التتار من البداية إلى عين جالوت

    حصار التتار لمدينة ميافارقين (60)


    ظهرت مشكلة أمام هولاكو، وهي أن أحد الأمراء الأيوبيين رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات السلام مع التتار، وقرر أن يجاهدهم حتى النهاية، فاعتبر هولاكو أن هذا الرجل إرهابي، يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا شك أن هولاكو قال:
    إنه يعلم أن هذا الرجل لا يمثل دين الإسلام؛ لأن الإسلام دين السماحة والرحمة والحب والسلام، وهولاكو ليس عنده أي اعتراض على الإسلام، ولكنه معترض على هذا الذي يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة.
    وهذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظاً بمروءته وكرامته ودينه، هو الأمير الكامل محمد الأيوبي رحمه الله أمير منطقة ميافارقين وهي تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة وان، وجيوش الكامل محمد رحمه الله كانت تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، فهذا الرجل كان يسيطر على شرق تركيا، وعلى الشمال الغربي من العراق، والشمال الشرقي من سوريا.


    كان هولاكو يريد احتلال سوريا، فكان عليه أن يجتاز منطقة الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الكامل محمد رحمه الله، وأن يمر في شمال العراق، وعلى الرغم من خنوع وخضوع معظم أمراء المنطقة، إلا أن إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح أمراً لازماً، ومدينة ميافارقين حصينة جداً، وتقع بين سلسلة جبال الأسود، واحتلالها صعب جداً، وكان هولاكو لا يريد أن يدع أي شيء للمفاجآت،

    فحتى يخرج من هذا المأزق بدأ بالطرق السهلة وغير المكلفة، فحاول إرهاب الكامل وإقناعه بالتخلي عن فكرة الجهاد الطائشة، فأرسل إليه رسولاً يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، والدخول فيما دخل فيه غيره، فكل الأمراء الذين حوله قد استسلموا، وهو المعارض الوحيد؛ وقد كان هولاكو في منتهى الذكاء في اختيار الرسول، فلم يرسل رسولاً تترياً، وإنما أرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه قسيس يعقوبي، فهذا الرسول من ناحية يستطيع التفاهم مع الكامل محمد بلغته، وأن ينقل إليه أخبار هولاكو وقوته وبأسه، ثم هو من ناحية أخرى نصراني فيلفت بذلك نظر الكامل محمد إلى أن النصارى متعاونون مع التتار،
    وهذا الأمر خطير بالنسبة للكامل محمد جداً، وله بعد إستراتيجي في منتهى الأهمية؛ لأن إمارة ميافارقين الواقعة في شرق تركيا يحدها شرقاً مملكة أرمينيا النصرانية، وهي متحالفة مع التتار، ويحدها من الشمال الشرقي مملكة الكرج النصرانية، وهي أيضاً متحالفة مع التتار، فإذا ما اعترض الكامل محمد رحمه الله على هولاكو فإنه سيصبح كالجزيرة المحصورة في خضم هائل من المنافقين والمشركين والنصارى، وسيحاصر من كل الجهات، فمن الشرق سيحاصر بمملكة أرمينيا النصرانية، ومن الشمال الشرقي بمملكة الكرج النصرانية، التي هي جورجيا الآن، ومن الجنوب الشرقي بإمارة الموصل العميلة للتتار، فالجانب الشرقي كله محاط بعملاء وبنصارى، وفي الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار أيضاً، ففي وسط وغرب تركيا كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وهما عميلان للتتار، ومن الجنوب الغربي إمارة حلب الخاضعة للناصر يوسف الأيوبي، وهي عملية للتتار أيضاً، فلا يوجد أي منفذ للكامل محمد من أي طريق، سواءً من بلاد المسلمين أو من بلاد النصارى، وفوق كل هذا فجيش التتار سيأتي لمحاصرة المنطقة، فالموقف في منتهى الخطورة.

    ولكن الكامل محمد رحمه الله أمسك الرسول النصراني قسيس يعقوبي وقتله، وقد كانت الأعراف تقضي ألا يقتل الرسل، ولكن الكامل محمد قام بذلك؛ ليكون إعلاناً رسمياً للحرب على هولاكو، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين؛ انتقاماً من ذبح مليون مسلم منذ أيام؛ ولأن التتار ما احترموا أعرافاً في حياتهم، وكان قتل قسيس يعقوبي رسالة واضحة من الكامل محمد إلى هولاكو، فأدرك هولاكو فوراً أنه لن يدخل الشام إلا بعد القضاء على الكامل محمد تماماً، فاهتم هولاكو جداً بهذا الموضوع، فهذا أول صحوة في المنطقة، ولم يضيع الوقت، بل جهز بسرعة جيشاً كبيراً جداً،


    ووضع على رأسه ابنه أشموط بن هولاكو مباشرة، فتوجه الجيش التتاري إلى ميافارقين مباشرة بعد أن فتح له أمير الموصل العميل بدر الدين لؤلؤ أرضه للمرور، فحاصر جيش التتار ميافارقين حصاراً شديداً، وكما هو متوقع جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان بداية الحصار الشرس في شهر رجب سنة (656 هـ)، أي: بعد حوالي أربعة أشهر من تدمير بغداد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •