احتساب الجارة على جارتها
ناصر أحمد العاهمي



إن المتأمل في النصوص الشرعية يجدها توضح بجلاء الوصية بالجار قال الله - تعالى -: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا )[النساء: 36] فذكر المولى - سبحانه - صنفين من الجيران في هذه الآية وأوصى بهما:
الصنف الأول: من بينك وبينه قرابة، والصنف الثاني: من ليس كذلك قال ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) يعني الذي بينك وبينه قرابة، (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) الذي ليس بينك وبينه قرابة([1])، ومما يبين أهمية الجارة لك أختي المسلمة ما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))([2]) فلعظيم حقه ظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد يأتيه جبريل - عليه السلام - بأمر رباني بأن له حقاً في ماله، والمرأة تدخل في اسم الجار الموصى به كما هو معلوم([3])وهل تتصورين أيتها المحتسبة أن لجارتك حقاً حتى فيما تطبخين من مرق اللحم، ففي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) ([4]) بل نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كمال الإيمان عمن كان مؤذياً لجاره، ففي حديث أبي شريح - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه))([5]) وإياك أيتها المحتسبة أن تظني أن هذه الأحاديث تخاطب الرجال فقط، بل وتخاطبكِ كذلك وهاك بعض منكرات ترتكبها جارتكِ لتحتسبي عليها ولتقومي بحقها عليك في ذلك:
•المنكر الأول: احتقار الهدية فقد تهدي لها صديقة هدية على قدر حالها، وتكون هدية متواضعة، فبدلاً من أن تشكر لها صنيعها ذلك وتعتبر الهدية رمز مودة تحتقرها فتكسر قلب المهدية لها وتورث فيه البغض مكان المحبة فيكون دورك أيتها المحتسبة في مثل هذا الموقف أن تنقلي لها صورة مماثلة ذكرها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة))([6]) فالنهي في هذا الحديث يحتمل أن لا تحتقر المسلمة من هدية أختها أي شيء ولو أهدت لها عظما قليل اللحم([7])
•المنكر الثاني: تفضيل بعض الأولاد على بعض: قد تلاحظ الجارة على جارتها تفضيل بعض أولادها على بعض لغير غرض صحيح فهنا يكون احتسابها أن تببين لها أنها إن كانت تريد منهم أن يكونوا في برها سواء فلتعاملهم بالسوية، وإلا فإن مثل هذا التفضيل يبعث في نفوس الحقد والبغضاء، ودليل ذلك حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أنه قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: ((أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)). قال فرجع فرد عطيته([8])
•المنكر الثالث: تعليق صور ذوات الأرواح وهذا المنكر منتشر في كثير من البيوت، فيلزم الجارة أن تحتسب على جارتها في ذلك، وقد ورد النهي عنه في حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: إنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك؛ لتقعد عليها، وتوسدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم أحيو ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة))([9])
•المنكر الرابع: إهمال الجارة نفسها عن الزينة للزوج: وهذا من المنكرات التي قد تهدم البيوت فلا بأس على من رأت من جارتها تقصيراً في حق زوجها أن تأمرها بما فيه صلاح بيتها، وقد جاء في حديث أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟. قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال كل، قال فإني صائم، قال ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق سلمان))([10])وهذا الحديث وإن كان فيه احتساب رجل على امرأة فالمرأة على أختها من باب أولى.
•المنكر الخامس: كثرة شكاة الجارة من سوء الحال: فللجارة في إنكار هذا المنكر أن تقص عليها قصة زوجة إسماعيل - عليه السلام -: (... فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي - عليه السلام - وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء، قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها... )([11]) وتبين لها أن إبراهيم - عليه السلام - وهو خليل الرحمن قد جعل شكاة زوجة ولده منكراً تستحق معه الطلاق.
•المنكر السادس: نشوز الزوجة: قد ترى الجارة من جارتها نشوزاً على زوجها فيكون واجبها أن تجلس معها جلسة تفسرلها قول الله - تعالى -: ( وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء: 34] قائلة: النشوز: هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المُعْرِضَة عنه، المُبْغِضَة له، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظْها وليخوّفها عقابَ الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تَسْجُدَ لزوجها، من عِظَم حَقِّه عليها)) وروى البخاري، عن أبي هريرة، - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إلى فِرَاشِه فأبَتْ عليه، لَعَنَتْهَا الملائكة حتى تُصْبِح)) ورواه مسلم، ولفظه: (( إذا باتت المرأة هَاجرة فِراش زَوْجِها، لعنتها الملائكة حتى تُصبِح)) ([12])•
وضابط النشوز ارتفاع المرأة عن طاعة زوجها بأن تعصيه بالقول أو الفعل ([13]).
•المنكر السابع: كفران العشير:
والعَشِير: هو المعاشرُ والمخالط مطلقًا، والمرادُ به هنا: الزَّوْج، والكفر: كفرانُ الحقوق، فإذا أحست الجارة من جارتها كفرانها لزوجها ذكرتها ما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)) ([14])
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية - كان ذلك دليلاً على تهاونها بحق الله، فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة. ([15])والله أعلم.
([1])تفسير ابن كثير (2 / 298)
([2])صحيح البخاري (5 / 2239)
([3])فتح الباري (10 / 441)
([4])صحيح مسلم (4 / 2025)
([5])صحيح البخاري (5 / 2240)
([6])صحيح البخاري-ن - (2 / 907)
([7])فتح الباري (5 / 198)
([8]): صحيح البخاري (2 / 914)
([9])صحيح البخاري (2 / 742)
([10])صحيح البخاري (2 / 694)
([11])صحيح البخاري (8 / 432_433)
([12])تفسير ابن كثير (2 / 294)
([13])تفسير السعدي (1 / 177)
([14])صحيح البخاري (1 / 19)
([15])فتح الباري (1 / 4