نفحات .. بين يدي سورة الفجر


هناك علاقة بين أول كلمة في السورة "وَالْفَجْرِ " وآخرها "جَنَّتِي"، تؤسس لمنهج تربوي أن صلاة الجماعة في المسجد هي الطريق إلى رضا الله والجنة، من خلال الانتقال من النفس الأمارة بالسوء إلى اللوامة ومنها إلى النفس المطمئنة؛ لأن لصلاة الفجر خصوصيات عديدة منها:
- أن الملائكة تشهد القرآن فيه.
- وهو أول وقت الصيام.
- ومصدر طِيب النفس ونشاطها.
ومعيار صدق الإيمان ونفي النفاق، والإذن لرؤية الرحمن، ومصدر النور التام يوم القيامة، ومبعث الأمل لكل من اشتدت عليه ظلمة البلاء.
- ونافلة الفجر خير من الدنيا وما فيها، وقراءة سورة "الكافرون" و"الإخلاص" فيها كل صباح تجدد صفاء العقيدة وتميز أهلها.
- كما أن لصلاة الفجر عدة لطائف فقهية وتربوية تميزها عن بقية الصلوات.
2- يدفع منطق الإيمان إلى أعلى درجات استثمار المنح الربانية مثل الليالي العشر سواء كانت الأخيرة من رمضان أو الأولى من ذي الحجة، بشرط ألا يقل ذلك عن انفعالنا وتجاوبنا مع الإعلانات المغرية بالتخفيضات أو فرص العمل ذات الدخل المادي العالي جدا؛ لأن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا.
3- إذا أقسم الله - تعالى - بالشفع والوتر فذلك تأكيد لمنهجية عقيدتنا الإسلامية: "وحدانية الخالق وزوجية المخلوقات"، ولئن اختلف المفسرون إلى أكثر من اثني عشر وجها لتفسير الشفع والوتر، فإن الراجح منها يؤكد ضرورة اليقين ودعوة اليهود والنصارى والمشركين إلى الاعتقاد بوحدانية الله ثم زوجية المخلوقات، سواء في النبات أو الحيوان أو الإنسان، بل كل شيء حتى الكهرباء والمغناطيسية ومكونات الذرة، وأن هذا المخلوق لا يستغني عن خالقه أولاً، ولا يستطيع أن ينفرد بالحياة دون الزوج الآخر ثانيا وبالكون حوله أخيرا، سواء كان حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا، صحيحا أو سقيما، عالما أو متعلما، إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا.
4- يسري الليل بأمر الله - تعالى -، والعباد يعيشون فيه بين ليل العابدين أو العابثين، فإذا رجعنا إلى الله - تعالى -فيجب أن يكون ليلنا ليل العابدين، فيتحول الليل إلى أحد الأدلة على وحدانية الخالق الذي يكور الليل على النهار، ويولج النهار في الليل، وجعل الليل والنهار آيتين، وتتحول هذه العقيدة إلى عمل متجدد في سباق إلى الله بين الأبرار، يقضون الليل بين القنوت والسجود والتهجد والتسبيح والدعاء وتلاوة القرآن والصلاة والإنفاق والتعلم، حتى إذا أجهدتهم العبادة انتقلوا إلى عبادة أخرى وهي السكن والنوم والاسترواح أو المتعة في الحلال بين الأزواج، متجاوزين ليل العابثين الذين يمكرون بالليل ما يفسد النهار، ويغفلون عن ذكر الله، ويقضون ليلهم مع الحفلات والغناء والأفلام والغيبة والنميمة وإفساد ذات البين.
5- يقسم الله - تعالى - في أول السورة كي ينتبه كل ذو عقل إلى أهمية هذا القسم وما بعده، والحِجر هو اللجام الذي يضبط نزوات العواطف بنظرات العقول، وهذا يؤكد أن النفس بحاجة دائما إلى علم يعالج الشبهات، ومجاهدة تعالج الشهوات؛ لنعالج هذا الانفلات للأهواء والنزوات سواء كانت شهوة البطن أو الجنس أو الغضب أو الكلام مما يوجب أن نجعل العقل قيِّما على شهوات النفس، موجها نحو التزام منهج القرآن والسنة عسى أن نسعد في الدنيا وأن نكون في الآخرة من أهل الجنة.
6- ذكر الله - سبحانه وتعالى - أن عادًا وثمود وفرعون اشتركوا في خاصيتين هما: الطغيان والفساد، فاستحقا الهلاك والعذاب، وجاء التعقيب (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ) الفجر: 14-، ليؤكد مع نصوص أخرى في القرآن الكريم على منهجية أن "الطغيان والفساد سببان للهلاك في الدنيا والاخرة"، فلا يتخلف عن أية أمة في أي مكان أو زمان.
7- يبدو لي أن الحديث عن قوم عاد وثمود وهلاكهم بعد الحديث عن الفجر والليالي العشر يجعلنا نوقن في منهجية: "صلاة الفجر من أسباب النصر"، فهي تحقق جزءًا من خصائص الإيمان التي لا يتحقق النصر بغيره، وقد كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام أن يبدءوا الغزو بعد صلاة الفجر، ولا يزال الصهاينة يؤكدون أن أمن إسرائيل مرتبط بالفجوة الهائلة بين عدد مصلي الفجر والجمعة.
8- وضحت الآيات منهجية التعامل مع الابتلاء بسعة الرزق أو قلته، حتى نصل إلى نفس مطمئنة راضية مرضية، ولا يتحقق ذلك إلا بالرضا بالله ربَّا أولا، ثم الرضا عن الله في قضائه وقدره، خيره وشره، وهو يعني الشكر عند النعمة الأولى واستمرار الشكر مع طول العطاء، والصبر عند الصدمة الأولى واستمرار الصبر مع طول البلاء، فإذا لم يحقق الإنسان ذلك رضي بالدنيا وبالقعود عن الواجبات، وينتقل من سخط في الدنيا على نفسه وحياته إلى غضب الله وعذابه في الآخرة.
9- يلزم في المال التخلية عن جمعه من الحرام، أو منعه من الواجبات مثل: أكل التراث أكلا لمَّا، وعدم إكرام اليتيم وإطعام المسكين، ثم التحلية بإعطاء كل ذي حق حقه في المال وحض الناس على الإطعام وكفالة الأيتام، والتأكيد على "تَحَاضُّونَ" في السورة وغيرها مما يوجب تحويل أعمال البر من المبادرات الفردية إلى المؤسسات الخيرية حتى تتم كفاية وكفالة فقراء وأيتام الأمة والعالم بشكل مستمر مستقر، وتؤكد الأدلة الشرعية والإحصاءات الواقعية على أن كفالة الأيتام والفقراء بشكل مؤسسي من الفرائض الشرعية والضرورات الواقعية.
10- تحث السورة بكل قوة أي مسلم أو مسلمة على الاستعداد للقاء الله قبل يوم المعاد، قبل أن تدك الأرض دكًا، ويأتي أمر ربنا والملك صفًا صفًا، ويؤتى بجهنم ويعلو الندم، ويشتد العذاب والوثاق، فإذا سأل أين المخرج؟ جاءه النداء في رحمة من الله أن يرجع الإنسان إلى ربه، وأن يدخل مع الصالحين من عباده ليكون أهلا لمرضاته وجناته، فيعود بواجبات عملية من خلال القرآن والسنة يستعد بها ليوم النشور.
11- يلزم من سياق السورة كلها ضرورة الجمع بين صلاة الفجر وقيام الليل، ومقاومة الفساد والطغيان، ثم العودة إلى تثبيت الإيمان بالقضاء والقدر والرضا عن الله، ثم الخروج لإطعام الطعام وكفالة الأيتام فرديا وجماعيا، ثم الاستعداد ليوم المعاد أملا أن ننال رضا الله والجنة.
12- من الأهمية بمكان تحويل الترنم بآيات القرآن، والالتزام بأحكام التجويد إلى معان ثرية وأفكار ندية، مثل المد والقلقلة والغنة واختيار الحروف، والفروق بين المد بالفتحة والكسرة، بما يؤكد أن اختيار الله - تعالى - لكل حرف وكلمة هو من الاختيار العميق الدقيق الذي يستحق حضور القلب وثراء العقل مع التغني بآيات القرآن الكريم.
13- هناك يقين راسخ أن كل آية من آيات القرآن عامة وسورة الفجر خاصة تؤكد على درس أو دروس تربوية لإصلاح النفس وأخرى دعوية لإصلاح المجتمع، فإذا اكتملا وتعانقا "الدروس التربوية والدعوية" فإن العناية الإلهية تبسط رداءها على صاحب الإيمان الذي يجمع بين التصديق بالقلب والجنان والعمل بالجوارح والأبدان.
وقد قدمت السورة من الروائع التربوية في تثبيت صلاة الفجر والاجتهاد في العبادة في الليالي العشر والاهتمام بصلاتي الشفع والوتر، وقيام الليل ومجاهدة النفس بلجام العقل، والاعتبار بقصص الغابرين، ومقاومة الطغاة والظالمين والمفسدين حتى لا ينزل علينا سوط العذاب، ومن الدروس التربوية أيضا تمام الرضا بالله وعن الله - تعالى -، وإكرام اليتيم والحض على طعام المسكين، والحد من حب المال حبًا يدفع إلى أكل التراث الحرام، والارتعاش من هول يوم القيامة مع ما فيه من دكِّ الأرض، ومجيء الملائكة، وبروز جهنم، وكثرة الندم، وشدة الوثاق والعذاب، ولا يجد الإنسان ملاذًا آمنًا إلا في الرضا عن الله، والتعلق بالصالحين من عباد الله تمهيدًا لدخول جنة الله.
14- لا يكفي أن يقوم الإنسان بهذه الدروس التربوية بل يجب أن يسعى بهمَّة نحو التزام الدروس الدعوية بترغيب كل من حولنا - من أقارب وأرحام، وأصدقاء وخلان، وعشيرة وجيران - في كل معنى تربوي اجتهد في تطبيقه، وذاق حلاوته؛ ليأخذ بيد من حوله إلى هذه الصبغة الإيمانية في التعبد والتنسك، ومقاومة الطغيان، والرضا عن الرحمن، وإكرام المساكين والأيتام، والاستعداد للقاء الله يوم القيامة.
15- هناك يقين راسخ أن التزام هذه الدروس التربوية في إصلاح النفس، والدعوية في إصلاح المجتمع، هذا ينزل العناية الربانية ليكون الإنسان في بوتقة الرحمة والرعاية، ونزول الهداية، وتمام الحماية، وجمال الرضا، وسعة القلب، وزيادة البركة، والأمان من العذاب، والاطمئنان في أكناف رب الأرباب.
16- ينقسم الناس أمام آيات الرحمن إلى مُعرضٍ عن ذكر الله من أهل الشمال، أو ملتزم بالفرض من أهل اليمين، ومتسابق إلى الفضل من المقربين، فأصحاب الشمال سمتهم نوم عن صلاة الفجر، وليلهم ليل العابثين، وهم شركاء في الظلم والطغيان مع المفسدين، ويسخطون على الله في قضائه وقدره ويأكلون التراث ويحرمون الفقير واليتيم من حق الله في أموالهم، وهم غافلون عن الاستعداد ليوم المعاد، أما أصحاب اليمين فيصلون الفجر، ويقاومون المفسدين في الأرض، ويحمدون في السراء والضراء، ويستعدون ليوم الحساب مع ما يخلطون من عمل صالح وسيء ثم يتوبون ويعودون إلى الله، أما المقربون فهم على صلاة الفجر في المساجد دائمون، ومع هجعة الليل قائمون، وفي مقاومة الظلم والطغيان مبادرون، وفي الضراء شاكرون، وفي السراء صابرون، ومن هول يوم القيامة يرتعدون، وفي رحمة الله راغبون، وهم الراضون المرضيون المطمئنون