موقف أهل الإحسان من صفات الرحمن
محمد صفوت نور الدين
مقدمة:
إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
بعث الله - سبحانه - الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح الناس في أمة هي أفصح الأمم وأرسل عليه كتاباً عربياً جعله بياناً للناس في الإيمان بالغيب وفي العبادات والمعاملات والآداب، ففهموا كلام ربهم وعملوا بأوامره واجتنبوا نواهيه، وإن وقع بينهم خلاف فهو بين أحد أمرين، خلاف تنوع يسوغ تعدد الصواب فيه كتلاوة القرآن الكريم على أحرفه السبعة التي نزل بها. أو خلاف خطأ وصواب في المسائل العملية يرجع المخطئ عن خطئه عند ظهور الدليل له بغير مكابرة أو مماراة. ولقد قبض الله - سبحانه - رسوله الكريم بعد أن فهم الصحابة أصول الدين وفروعه، وبلغهم ذلك كله وتركهم على طريق ناصع البياض.
ظل الحال على ذلك طوال القرن الأول وقد اتسعت الفتوحات ودخل كثير من الفرس والرومان في دين الله، ونقلوا فلسفاتهم إلى أهل الإسلام، عندئذ بدأ ظهور رواد المذاهب المنحرفة في فهم العقيدة ونحمد الله - سبحانه - على أن ظهورها لم يتأخر حيث كان أهل السنة متوافرون، وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام منتشرة، فكانوا يردون على كل مخالف لدين الله أولاً بأول، ونضرب لذلك مثالاً بأول حديث في صحيح مسلم جاء في مقدمته من قول يحيى بن يعمر: إن أول من أظهر الكلام في القدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين وقلنا إن لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألناه عما يقول القوم، قال فوفق لنا عبدالله بن عمر داخلاً المسجد....الخ.
والشاهد أن الصحابة ومن سار على دربهم كانوا هم المرجع عند الخلاف فأبقى الله بهم المنهج الحق الذي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة عليه، ولما طال الزمان وتداخلت أقوال أهل الكلام، اتسعت رقعت الفرق تكون منهجان منحرفان:
الأول: مذهب التأويل الذي يقول به المعتزلة حيث يجعلون العقل حاكماً على نصوص الشرع فيوجبون تأويل النصوص لتوافق - كما يزعمون - العقل.
ولست أدري أي عقل يحاكم النص الشرعي والعقول تتفاوت، بل ما فائدة الوحي إذا كان العقل هو الحاكم عليه.
الثاني: مذهب المشبهة وهم الذين بالغوا في إثبات الصفات حتى شبهوا الخالق - سبحانه - بالمخلوق، ثم ظهر مذهب ثالث: تزعمه (عبدالله بن كلاب) حاول التوفيق بين مذهب المعتزلة ومذهب أهل السنة وإلى هذا المذهب ينتسب الأشاعرة اليوم، ذلك مع أن الأشعري كان في آخر حياته على مذهب أهل السنة والجماعة وقد نقلنا من كلامه في هذه العجالة من كتاب الإبانة ما يدل على ذلك.
ولما كانت المذاهب الأخرى من أهل التأويل والتعطيل تحاول أن تدافع على أنها المذهب الحق، لذا جمعت في هذه العجالة ما يبين المنهج الصواب في عقيدة أهل السنة والجماعة آملاً من الله - سبحانه - أن يكون في ذلك الكفاية وأن يهدينا إلى سبيل الرشاد وأن يوفقنا لسعادة الدارين والله من وراء القصد.
صفات الرحمن بين السلف والخلف:
الحمدلله له صفات الكمال والصلاة والسلام على نبيه خير من أخبر عن ربه في أحكامه وأخباره وصفاته وأفعاله، فبعثه الله بكتاب هداية وامتدح من تدبره، وجعله كتاباً عربياً ويسره لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً، ونشهد أن لا إله إلا الله الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير القوي القادر الحي القيوم لا يشبهه أحد من خلقه وإن اتحدت الصفات في ألفاظها فإنها تختلف في كيفيتها فالفرق بين صفة الله وصفة المخلوق كالفارق بين ذات الله وذات المخلوق[1] فله صفات الجلال والكمال والجمال، فكل صفاته كمال - سبحانه -، وبعد فالله - سبحانه - هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر له الأسماء الحسنى والصفات العلى وهي كلها صفات جلال وكمال فهو - سبحانه - لم يلد ولم يولد وهي له صفات جلال وكمال ولكنها إن كانت في مخلوق كانت نقصاً. وهو الجبار المتكبر وهي من صفات كماله وجلاله فله الكبرياء - سبحانه - وهو صاحب الجبروت وهي صفات إن كانت في المخلوق كانت عيباً ورب العزة - سبحانه - ذكر لنا صفاته في كتابه فكانت صفات إيجاب وصفات سلب.
وجعل صفات السلب لبيان كمال الإيجاب فهو الحكم العدل وقال: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]، فلبيان كمال عدله وحكمه نفى الظلم عن نفسه، وهو الحي القيوم وقال: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)[البقرة: 255]، لبيان كمال حياته وقيوميته. قال (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 4]، لبيان كمال أحديته وصمديته، وهكذا كل صفات السلب إنما وردت لبيان كمال الإيجاب لأن السلب[2] لا يفيد كمالاً ولا مدحاً، فعلى المسلم أن يتحرى الصواب في صفات الله - تعالى -حكاية ونقلاً وفهماً وتدبراً[3].
قال الشيخ عبدالقادر الجيلاني في كتابه الغنية: باب معرفة الصانع - عز وجل -: وهو بجهة العلو مستوٍ على العرش محتوٍ على الملك محيط علمه بالأشياء، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون.. إلى أن قال: ... والماء فوق السماء السابعة وعرش الرحمن فوق الماء والله - تعالى -على العرش.. ثم قال: ... وهو منزه عن مشابهة خلقه ولا يخلو من علمه مكان ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان.
بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال جل ثناؤه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، ثم ساق آيات وأحاديث قال بعدها: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأن استواء الذات على العرش لا على معنى القعود كما قالت المجسمة والكرامية. ولا على معنى العلو[4] والرفعة كما قالت الأشعرية، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة لأن الشرع لم يرد بذلك ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث ذلك بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق انتهى كلامه.
وقال أبو الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه الأشاعرة في كتابه الإبانة: "إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله - عز وجل - يستوي على عرشه كما يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وقد قال الله - عز وجل -: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فاطر: 10]، وقال: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)[النساء: 158]، وقال: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)[السجدة: 5]، وقال حكاية عن فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)[غافر: 36-37]، فكذَّب فرعون نبي الله موسى - عليه الصلاة والسلام - في قوله: إن الله - عز وجل - فوق السماوات، وقال عزل وجل: ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ? [الملك: 16]، فالسموات فوقها العرش. فلما كان العرش فوق السماوات قال: ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ?، لأنه مستوٍ على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء ?، يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات (إلى أن قال). ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله - عز وجل - مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله - عز وجل - على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحيطونها إذا دعوا إلى الأرض... ).
ثم أفاض الشيخ أبو الحسن الأشعري في الرد على من قال: استوى يعني استولى وملك وقهر، ونسب ذلك القول إلى المعتزلة والجهمية والحرورية وأخذ في سرد الأدلة والرد على الشبهة، ونأمل أن يراجع ذلك من ينتسب إلى الأشعري حتى لا يخالفه في عقيدته مع انتسابه إليه.
وأهل السنة والجماعة موقفهم من صفات الله - عز وجل - إمرارها كما جاءت بغير تأويل ولا تعطيل ولا تكييف، ولقد ضلت كثير من الفرق فخالفت ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه أصحابه وما تابعهم عليه من بعدهم من التابعين لهم بإحسان، فكانت الجهمية قد نفت أن يوصف الله بصفة حتى قالوا: إن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، وأما المعتزلة فأولوا جميع الصفات، ثم جاءت الكرامية بتجسيم صفات الخالق - سبحانه -. أما الأشاعرة فتناقضوا لأنهم أثبتوا البعض ونفوا البعض من أن دليل ما أثبتوه يبطل تأويل ما نفوه، واحتجوا على تأويلهم بأن الجاهل قد يفهم تجسيماً مع أنه من المعلوم أن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحضرها العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ونقيضه والعبد والحر والشريف والوضيع، ويخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصوص الشرع وصفات رب العالمين من الفوقية واليدين ونحوهما ولم ينقل عنه تفريق في الإخبار ولا تحذير من الإيمان بالظاهر بل لما قالت الجارية إن الله في السماء وهو - صلى الله عليه وسلم - يختبر إيمانها قال: إنها مؤمنة فكيف نرد عليه - صلى الله عليه وسلم - حكمه.
وأنا أقتطف من رسالة للجويني والد إمام الحرمين جاء فيها: وبعد فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفا والإخلاص والوفاء ثم يقول: وكنت أخاف من طلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجدها تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها مخبراً عن ربه واصفاً له بها (ثم أطاق الشيخ في سرد الأدلة وقال بعدها): إذا علمنا ذلك واعتقدنا، تخلصنا من شبه التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا - سبحانه - وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته. والحق واضح في ذلك والصدور تنشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وغي مع كون أن الرب - تعالى -وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها، ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها، فما وصف نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ولا نقف في ذلك. وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله - تعالى -للإثبات بلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله - تعالى - (انتهى من رسالة الإثبات والفوقية للجويني المتوفى سنة 438هـ).
وقال ابن قدامة المقدسي في لمعة الاعتقاد والتي طبعت ملحقاً لمجلة الأزهر جاء فيها بعد سرد أدلة الصفات من القرآن والسنة قوله: فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعلت روايته نؤمن به ولا نرده ولا نجحده ولا نتناوله بتأويل يخالف ظاهره ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين ونعلم أن الله - سبحانه - لا شبيه له ولا نظير: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]، وكل ما يخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله - تعالى - بخلافه.
وعن كتاب العقيدة الطحاوية قال: روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر لأن الله يقول: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، وعرشه فوق سبع سموات. قلت: فإن قال: إنه على العرش ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء ومن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره لأن الله في أعلى عليين وهو يدعي من أعلى لا من أسفل. انتهى.
وينسب بعض الناس إلى السلف الصالح أنهم كانوا لا يعلمون معاني آيات صفات رب العزة - سبحانه -: وهذا خطأ بين لأن السلف كانوا يعلمون المعاني ولكن لا يعلمون الكيف لأنه لا طاقة للخلق بمعرفة الكيف، ولأن القرآن جاء بلغة العرب فهم يعرفون معاني الألفاظ، والله خاطبهم بما يعرفون، أما الكيف فلا سبيل لمعرفته (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه: 110].
قال القرطبي في تفسير الآية 54 من سورة الأعراف، وقد كان السلف الأول - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله - تعالى - كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف أنه استوى على العرش حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته، قال مالك - رحمه الله - الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة. انتهى.
هذا وأدلة السمع والعقل دالة على أن ما أخبر الله به عن نفسه معلوم من حيث المعنى ومجهول من حيث الكيف. أما المعنى فأدلة السمع في قوله - تعالى -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]، وقوله - سبحانه -: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)[ص: 29]، فحث الله - تعالى - على تدبر القرآن كله ولم يستثن، وبين أن الحكمة من إنزاله أن يتدبره فيتعظ به أصحاب العقول ولولا أن له معنى يعلم بالتدبر لكان الحث على تدبره من لغو القول، ولكان الاشتغال بتدبره إضاعة للوقت لأنه لا يعقل، والحث على تدبر القرآن شامل لجميع الآيات الخبرية العلمية والحكمية العملية إذ لا يمكن العمل ولا الاعتقاد بدون فهم للمعاني.
وأما أدلة العقل: فهل يعقل أن يكون ما أخبر الله به عن نفسه أدنى مما أخبر عن فرعون والمكذبين من الأقوام فيكون الإخبار عن الله مجهول المعنى وعن غيره معلوم المعنى فيكون وصف الكريم الرحيم مجهولاً بمنزلة الحروف المقطعة.
وأما الكيف فمجهول وأدلة السمع في قوله - تعالى -: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه: 110]، وقوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء: 36]، وقوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33].
وأما أدلة العقل: فإن الشيء لا تدرك كيفيته إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك لا سبيل له في كيفية صفات الله - تعالى -. فكل ما خطر على بال أحد من الخلق فالله بخلافه بل أعظم وأجل وأفضل.
قال ابن كثير في تفسير الآية 54 من سورة الأعراف: وأما قوله - تعالى -: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[الأعراف: 54]، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد شيخ البخاري قال: من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله نفسه فقد كفر.
وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله - تعالى - ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله - تعالى - النقائص فقد سلك سبيل الهدى. انتهى.
وإن استدلالات القائلين بالتأويل تبلغ في بطلانها درجة عجيبة، حتى أن أهم نص عندهم في ذلك بيت من الشعر قال: ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة بشر بن مروان في أحداث عام 74هـ وقد امتدحه الفرزدق والأخطل. والجهمية تستدل على الاستواء على العرش بأنه الاستيلاء ببيت الأخطل:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
وليس فيه دليل فإن هذا الاستدلال باطل من وجوه كثيرة وكان الأخطل نصرانياً. انتهى.
ولقد كان منغمساً في نصرانيته قال الذهبي: إن الأخطل قيده الأسقف وأهانه فليم في صبره له، فقال: إنه الدين إنه الدين. ولم يكن الأخطل محتاجاً ولا مغموراً فلقد كان كما شهد له الفرزدق بأنه أحسن الشعراء في المدح فلما سئل من أشعر الناس قال: (ابن النصرانية إذا امتدح). ولذا فلقد حصّل أموالاً طائلة من الأمراء في مدحهم بشعره هذا ولقد نشأ الأخطل في الحيرة بأطراف العراق فهو شاعر مولد لا يجوز الاستدلال بشعره على معاني كلمات الوحي. هذا ولقد جاء في لسان العرب مادة (سوا) قال داود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابي[5] فأتاه رجل فقال: ما معنى قول الله - عز وجل -: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ?، فقال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر. فقال: يا أبا عبدالله إنما معناه استولى. فقال ابن الأعرابي: ما يدريك؟ إن العرب لا تقول استولى على الشيء حتى يكون له مضاد فأيهما غلب فقد استولى أما سمعت قول النابغة:
ألا لمثلك أو من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الأمد
وسئل مالك بن أنس: استوى كيف استوى؟ فقال: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. انتهى.
خلاصة القول أن يعلم المسلم أن الصحيح هو قول أهل السنة وأن التفويض في المعنى هو قول الجهمية أما أهل السنة فإنهم يثبتون المعنى ويفوضون الكيف فلا يعلمه إلا الله - سبحانه -، فلقد كان السلف الصالح يحرصون كل الحرص على عدم التكلف بالتأويل والتحريف دون الوقوع في التشبيه، فيفهمون معاني النصوص بحسب وضعها اللغوي، أما الخلف فقد تكلفوا التأويل وقالوا على الله بغير علم وأهل السنة وسط بين هذه الفرق المجسمة والمعطلة والمفوضة والمؤولة وذلك فضل الله على كل من لزم أهل السنة والجماعة وسار مع الفرقة الناجية المنصورة.
الرحمن على العرش استوى:
كان ولا يزال من أكثر الصفات التي وقعت فيها فرق الأمة في الخلاف بين تأويل وتعطيل وتجسيم وتفويض هي صفة الاستواء وهي ثابتة بالقرآن والسنة، وقد كان الكلام السابق عن الصفات جملة والاستواء خاصة وقد حاولت أن أنقل أقوال أئمة لا يسع المعارض إلا أن يسلم لهم بالإمامة في العلم والدين وقدمت ذلك على نقل الأدلة من القرآن السنة.
ولقد تصفحت الكتب وأولها القرآن الكريم فوجدت أن الأدلة يضيق المقام عن حصرها وأن الجهابذة من العلماء قد صنفوا فيها بين مطولات ومختصرات، ثم وقفت على مقال لعالم جليل شغل في جامعة الأزهر ثم في جامعات المملكة العربية السعودية مناصب رفيعة وكان له باع طويل في الدعوة إلى الله من خلال جماعة أنصار السنة المحمدية، وله تلامذة يجلونه ويحملون الدعوة من بعده ولقد قبض - رحمه الله - وله جولات مكثفة للدعوة إلى الله - سبحانه - في مدن وقرى مصر وحول البلد التي كان يسكنها (طنطا).
وجدت في هذا المقال اختصاراً لطيفاً غير مخل ولا مطول ولقد كتبه بروح المتحمس للدعوة إلى الله - سبحانه -، والمدافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة حماساً ظهر في مقاله الذي ننقله هنا.
يقول الشيخ - رحمه الله تعالى -: اعلم أن أهل الإثبات بحمد الله عندهم من هذه النقول ما يملأ مجلدات وهم لا ينقلون إلا عن كل إمام ثقة في علمه ودينه من سلف الأمة. الذين هم أكملها علماً وإيماناً وأبرها قلوباً وأقلها تكلفاً وأهداها سبيلاً.
وإليك أيها القارئ طائفة من الحجج والبينات التي يعتمد عليها أهل الحق والإثبات في هذا الباب، لكي تدرك الفرق بين ما يسوقه المعطلة من شبه واهية ساقطة، وبين ما يستند إليه أهل الحق من أدلة ناصعة قاطعة.
يتبع