المداومة على العمل الصالح



إعداد: خالد بن عبد العال


لقد انتهى شهر رمضان المبارك، وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقُبل فيه من قُبل، وطُرد فيه من طُرد، لقد رأينا المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، ورأينا المساجد في رمضان مزدحمة بصفوف المصلين، بل وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بالذكر وكلام رب العالمين، بل وأسعد قلوبنا في رمضان تنافس أهل البر من المحسنين.

ولكن، مع أول فجر من شهر شوال تبكي عينك، ويتألم قلبك، ويتحسر فؤادك، وتذهب نفسك حسرات! أين المؤمنون؟! أين أعداد المصلين الذين كانوا في رمضان؟! أين القائمون الذين كانوا في رمضان؟! أين الذاكرون الذين كانوا في رمضان؟! خلت المساجد مع أول فجر من شهر شوال؛ فهي تشكو حالها إلى الله -تعالى- ما الذي حدث؟ ترى إعراضاً وفتوراً، ويا ليت الأمر يتوقف على النوافل، بل وصل الأمر إلى ترك الفرائض!؛ فالله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به -سبحانه.


الإيمان والعمل الصالح طريق الوصول

فرض الله -تبارك وتعالى- على الناس أمرين: إيمان صحيح، وعمل صالح؛ ثم قرن بينهما في القرآن الكريم، ليبين للناس أنه لا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فمن آمن ولم يعمل صالحاً، فلا يغني عنه إيمانه عند الله شيئًا، ومن عمل صالحًا ولم يؤمن بربه، فلا يغني عنه عمله عند الله شيئًا، يقول الله -تعالى-: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً}(مريم: 96)، ويقول -تعالى-: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا}(الكهف: 107)، ويقول -تعالى-: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة: 277).

ويقول -تعالى-: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً}(النساء: 57)، ويقول -تعالى-: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}(البقرة: 82)، ويقول -تعالى-: {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين}(آل عمران: 57)، ويقول -تعالى-: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}(ص: 24)، ويقول -تعالى-: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}(العصر: 1-3)، والآيات في الباب كثيرة، تصريحاً -كما تقدم- وتلميحاً- كما في عشرات الآيات القرآنية الأخرى.

وروى مسلم في صحيحه رقم (214) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لاَ يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»، والأحاديث في الباب - أيضاً – كثيرة؛ فمن حقق هذين الأصلين فهو من السعداء، ومن أعرض عنهما أو عن أحدهما فهو من الأشقياء.

وجوب المدوامة على العمل الصالح

العبد مأمور بالعمل الصالح على الدوام وإن قلَّ، حتى يلقى الله -تعالى-، وهو مقيم على طاعته، كما قال -تعالى-: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}(الحجر: 99).

واليقين هو الموت، بدليل ما رواه البخاري في صحيحه رقم (1243) عن أُمَّ الْعَلَاءِ «امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ؛ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقُلْتُ: -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ- أَبَا السَّائِبِ!؛ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟!».

فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!؛ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟؛ فَقَالَ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي؟!»، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا.

وصية الله لعباده

وأوصى الله -تعالى- عباده بالمدوامة على العمل الصالح؛ فقال -تعالى-: {وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}(مريم: 31).

وأثنى على من يداومون على أعمالهم الصالحة؛ فقال -تعالى-: { الذين هم على صلاتهم دائمون – إلى قوله – أولئك في جنات مكرمون}(المعارج: 23-35).

وذم الكسالى المنقطعين عن العمل الصالح بعد أن عملوه؛ فقال -تعالى-: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها}(الحديد: 27).

ونهانا الله أن نكون كذلك؛ فقال -تعالى-: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}(النحل: 92).

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره: قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}، قال عبد الله بن كثير، والسدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرجح وأظهر، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا. أهـ.

الحور بعد الكور

وروى البخاري في صحيحه رقم (1152)، ومسلم في صحيحه رقم (1159) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ! كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومعناه: النقصان بعد الزيادة، والحالة السيئة بعد الحالة الحسنة.

روى مسلم في صحيحه رقم (1343) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ.

والكور: مأخوذ من تكوير العمامة، وهو لفها وجمعها؛ والحور: نقض العمامة بعد لفها، يقال: كار عمامته: إذا لفها، وحارها: إذا نقضها، ومعنى الحور: الرجوع.

قيل: الرجوع من الإيمان إلى الكفر، وقيل: الرجوع من الطاعة إلى المعصية، وقيل: الرجوع من الزيادة إلى النقصان، وقيل: كان رجلاً صالحاً ثم رجع على عقبه، وقيل: غير ذلك.

وكل هذه المعاني متلازمة، ومفادها واحد، وهو الرجوع عن الحالة الحسنة إلى الحالة السيئة، أو من الصلاح إلى ضده.

قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في (جامعه): إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية. إنما يعني: الرجوع من شيء إلى شيء من الشر. أهـ.

وقال أبو عمر ابن عبد البر في (التمهيد): يعني رجع عما كان عليه من الخير، أي: رجع عن الاستقامة، وذلك مأخوذ عندهم من كور العمامة. أهـ.

وقال النووي في (شرح مسلم): قال المازري: قيل أيضاً إن معناه: أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها.

وقيل: نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها، كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس، وقال أبو عبيد: سئل عاصم عن معناه؛ فقال: ألم تسمع قولهم: حار بعد ما كان، أي: أنه كان على حالة جميلة فرجع عنها. أهـ.