تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    سياتل..ولاية واشنطن ..
    المشاركات
    977

    Lightbulb الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    بسم الله الرحمن الرحيم


    والصلاة والسلام على سيد المجاهدين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم...
    اما بعد:
    اخواني في الله
    أقدم بين يديكم هذه السلسلة الرائعة جدا جدا ومن أروع السلاسل التاريخية التي سمعتها على الاطلاق والتي اتمنى أن تنال اعجابكم جميعا .

    سلسلة: الأندلس .. من الفتح إلى السقوط


    -------------------
    نبدأ بتاريخ الأندلس...
    كثير من المسلمين لا يعرف تفاصيل هذا التاريخ ...
    لماذا ندرس التاريخ الأندلسي الذي يشمل اكثر من 800 سنة؟
    لماذا ذهب المسلمون لفتح الأندلس؟
    من هو عبد الرحمن الداخل؟
    من هو عبد الرحمن الناصر؟
    من سمع بيوسف ابن تاشفين؟
    من سمع بابي بكر ابن عمر اللمتوني؟
    من سمع بأبي يوسف يعقوب المنصور؟
    من يعرف مسجد قرطبة وكيف حول الى كنيسة؟ من يسمع عن مسجد اشبيلية؟ ومن يسمع عن جامعة قرطبة والمكتبة الاموية؟
    من سمع عن موقعة العقاب؟
    كيف سقطت الاندلس؟وما هي عوامل السقوط التي ان تكررت في اي امة سقطت لا محالة.. وغيرها وغيرها وغيرها ...

    تاريخ الاندلس ثروة حقيقية من العلم ومن الخبرة ومن العبرة ...


    أرجو من الله أن يجعلها لنا عظة وعبرة
    وأن تكون لنا لا علينا
    ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

    الأندلس .. من الفتح إلى السقوط
    بقلم د. راغب السرجانى


    [/URL][/img]



    الفصل الأول: الطريق إلى الأندلس


    في بداية حديثنا عن تاريخ الأندلس وفي محاولة لتحليل التاريخ تحليلا دقيقا، نحاول أن نقلب صفحات، ونُظهر أحداثا قد علاها التراب أعواما وأعواما، نحاول أن نظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يخرجوه لنا في صورة باطل وهو حق، أو إظهار الحق وكأنه باطل.

    فكثير من الناس يحاولون أن يزوروا التاريخ الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جد خطيرة يجب أن يقف ويتصدى لها المسلمون.

    سنن الله في خلقه:

    وفي بداية الحديث أيضا يهمنا أن نتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه سبحانه وتعالى في أرضه، فلله سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كما يقول سبحانه وتعالى: [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلً] {فاطر:43}

    فهذا أمر الله سبحانه وتعالى قرره في كتابه وجعله من سننه الثوابت، وكمثال عملي على ذلك نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظل يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن ثبّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي عند درجة ثلاثين - مثلا - وغدا عند درجة خمسين، وبعد غد عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس مع هذا الأمر، ولن تستقر أمورهم؛ لأن كل يوم غير الآخر، وكل شكل فيه تبدل وتحول لم يُعهد.

    والله سبحانه وتعالى وضع قواعد محكمة وسُننًا ثابتة.

    فالنار تحرق وستظل تحرق إلى يوم القيامة، إلا أن هناك استثناءات لا ينبني عليها، فتلك النار التي الأصل فيها الإحراق لم تحرق إبراهيم عليه السلام. وهذا استثناء، والمؤمن الكيّس الحصيف لا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على قواعد أصولية ثابتة راسخة.

    فهل يستطيع المؤمن في حياته أن يبني على الاستثناء ويضع يده - مثلا - في النار؟ ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هذا غير جائز على الإطلاق، ولا يمكن أن يتفوه به أحد.

    إذن، هي ثوابت الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وقس على ذلك ما شئت، فالإنسان والحيوان بصفة عامة لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو بدون شراب، ولو عاش إنسان بدون طعام وشراب أياما كثيرة أو حتى شهورا، فمآله لا محالة إلى الموت.

    كذلك وبالمثل فإن سنن الله تعالى في تغيير الأمم هي سنن ثابتة، فقد جعل الله لتغيير الأمم وتبديلها من الفساد إلى الصلاح، ومن الصلاح إلى الفساد سننا ثابتة لا تتغير، فإن أنت سرت في طريق معين كانت الخاتمة معلومة وواضحة جدا ؛ إذ هي ثابتة عند الله سبحانه وتعالى.

    وحينما تقرأ التاريخ، وحينما تُقلِب في صفحاته تشاهد سنن الله سبحانه وتعالى في التغيير والتبديل، فالتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، حتى والله لكأنك تقرأ أحداثا حدثت منذ ألف عام أو أكثر، فتشعر وكأنها هي هي، نفس الأحداث التي تتم في هذا الزمن، مع اختلاف فقط في بعض الأسماء أو المسميات.

    فحين تقرأ التاريخ كأنك تقرأ المستقبل بأحداثه وتفصيلاته؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد قرأه لك بسننه الثوابت، وحدد لك كيف ستكون العواقب، وما نهاية هذا الطريق الذي ستبدؤه وتتبعه.

    والمؤمن الحصيف لا يقع في أخطاء السابقين، والمؤمن العاقل الواعي هو الذي يكرر ما فعله السابقون من المحامد والإيجابيات، فيفلح بفلاحهم واقتدائه بهم، وهو نفسه الذي لا يقع في أخطاء من عارض منهج الله سبحانه وتعالى، أو وقع في خطأ مقصود كان أو غير مقصود.


    لماذا تاريخ الأندلس ؟

    وقد يبرز هنا سؤال آخر، لماذا تاريخ الأندلس بالذات؟ لماذا ندرس تاريخ الأندلس دون غيره؟

    فنقول: إن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة، ثمانمائة سنة من تاريخ الإسلام، وتحديدًا من سنة 92 للهجرة إلى سنة 897 للهجرة، أي ثمانمائة سنة وخمس سنين، هذا إذا أغفلنا التداعيات التي أعقبت ما بعد 897 هجرية، فهي إذن فترة ليست بالهينة من تاريخ الإسلام.

    فمن العجيب إذن ألا يعرف، أو يتعرف المسلمون على تفاصيل فترة هي أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، هذا أمر. والأمر الآخر أن تاريخ الأندلس لكبر حجمه وسعة مساحته، مرت فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان، ففيه كثير من الأمم قامت وارتفع نجمها، وفيه أيضا كثير من الأمم سقطت وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية، ومن ثم راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير من الدول سقطت وهوت، وأصبحت في تعداد الدول المنهزمة والتي نسمع عن مثلها في هذه الآونة، أيضا ظهر في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر في تاريخ الأندلس الخائف الجبان، ظهر في تاريخ الأندلس التقي الورع، وظهر في تاريخ الأندلس المخالف لشرع ربه سبحانه وتعالى، ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وظهر في تاريخ الأندلس الخائن لنفسه ولدينه ولوطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الحكام والمحكومين والعلماء وحتى عوام الناس.

    وإن دراسة مثل هذه الأمور يفيد كثيرا في استقراء المستقبل المجهول للمسلمين.


    هل سمعت عما جرى في الأندلس ؟

    والآن، تُرى كم من المسلمين يسمع عن موقعة وادي برباط؟ تلك الموقعة التي تُعد من أهم المواقع في التاريخ الإسلامي، الموقعة التي فُتحت فيها الأندلس، الموقعة التي تُشَبّه في التاريخ بموقعتي اليرموك والقادسية، ومع ذلك جم غفير من المسلمين لا يسمع من الأساس عن وادي برباط.

    وتُرى، هل قصة حرق السفن التي حدثت في عهد طارق بن زياد رحمه الله هل هي حقيقة؟ أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت؟ إن كانت حدثت، وإن لم يكن قد حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟!

    ثم، من هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله؟ وكم من الناس يعرف تاريخه؟ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.

    ومن هو عبد الرحمن الناصر؟ أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى على الإطلاق. ماذا تعرف عن حياته؟ كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في عالم عصره؟

    يوسف بن تشفين رحمه الله القائد الرباني، صاحب موقعة الزلاقة، كيف نشأ؟ كيف ربّى الناس على حياة الجهاد؟ كيف تمكن من الأمور؟ بل كيف ساد دولة ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من الفترات؟

    أبو بكر بن عمر اللنتوني، من يسمع عن هذا الاسم؟؟ من يسمع عن ذلك المجاهد الذي دخل الإسلام على يده أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية؟! إنه أبو بكر بن عمر اللنتوني، من يسمع عنه؟

    من يسمع عن أبي يوسف يعقوب المنصور، صاحب موقعة الأرك الخالدة، تلك التي دُكّت فيها حصون النصارى وانتصر فيها المسلمون نصرا ساحقا؟

    من يسمع عن دولة المرابطين المجاهدة؟ ومن يسمع عن دولة الموحدين وكيف قامت؟

    من يسمع عن مسجد قرطبة؟ ذلك المسجد الذي كان يُعد أوسع مساجد العالم، ثم كيف حُوّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟

    من يسمع عن مسجد أشبيليه؟ من يسمع عن جامعة قرطبة؟ من يسمع عن قصر الزهراء ومدينة الزهراء؟ من يسمع عن قصر الحمراء؟ وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسوما وأطلالا، وهي اليوم في عداد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا وتُزار من عموم الناس سواء مسلمين أو غير مسلمين.

    ثم من يسمع عن موقعة العقاب؟ تلك التي مُني فيها المسلمون بهزيمة ساحقة ، رغم تفوقهم على عدوهم في العدد والعدة، وكأن حنين عادت من غابر التاريخ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُر في الأندلس شاب صالح للقتال.

    من يعلم أن عدد المسلمين الذين هلكوا في هذه الموقعة الضخمة قد تجاوز ثمانين ألف مسلم؟ فهل نسمع عن موقعة العقاب؟

    كيف سقطت الأندلس؟ وما هي عوامل السقوط التي إن تكررت في أمة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة.

    ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس في غرب أوروبا متزامنا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوربا؟

    ما هي مأساة بلانسير ؟ وكيف قتل ستة آلاف مسلم في يوم واحد؟ وما هي مأساة أوبدّة؟ وكيف قتل ستة آلاف مسلم آخرين في يوم واحد؟

    ما هي مأساة بربشتر، وكيف قتل أربعة آلاف مسلم في يوم واحد، وسبي سبعة آلاف فتاة بكر من فتيات بربشتر؟ وإننا لنشاهد هذه الأحداث الغابرة تتحدث الآن عن نفسها في البوسنة والهرسك.

    ماذا كان رد فعل المسلمين، وكيف تصرفوا، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة، أسئلة كثيرة وكثيرة، لو استطعنا الإجابة عنها لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم.

    فتاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة - أكثر من ثمانمائة سنة - يعد ثروة حقيقية، وثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نلم بكل أحداثه وتفصيلاته، ولذلك فلا بد وأن نُغفل منه بعض الجوانب، ليس تقليلا من شأنها وإنما اختصارا للمساحة.

    وواجب على الجميع أن يبحث في هذا التاريخ، تاريخ الأندلس، تاريخ ثمانمائة سنة؛ إذ هو يحتاج أكثر وأكثر مما أفردنا له، فلا بد من القراءة والاستزادة من المصادر التاريخية وغيرها.

    وتاريخ الأندلس هذا يعد جزءا ضئيلا جدا من تاريخ الدولة الإسلامية ذات الألف وأربعمائة عام من الزمن، وذات الأبعاد الجغرافية الهائلة من المساحة، فانظر أيها المسلم إلى العمل الذي يجب أن تفعله، ولا تركن أبدا إلى الدَّعة، ولا تركن أبدا إلى السكون، فأمامك طريق طويل جدا حتى تتعرف على سنن الله سبحانه وتعالى.


    طبيعة الجهاد في الإسلام

    قبل الخوض في تاريخ الأندلس من حيث ترتيب الأحداث منذ الفتح وحتى السقوط، منذ عام اثنين وثمانين حتى عام سبع وتسعين وثمانمائة من الهجرة - قبل الخوض في تفصيلات هذه الأحداث، فهناك بعض الأسئلة التي قد تدور في خاطر بعض الناس فنحاول الإجابة عليها، وكان من أهمها: لماذا حمل المسلمون سيوفهم وخرجوا بجيوشهم متوجهين إلى الأندلس لفتحها؟

    فالأندلس دولة مستقلة ذات سيادة ويحكمها القوط النصارى في ذلك الزمن، والمسلمون دولة كبيرة جدا وهم جيرانهم، فلماذا يحمل المسلمون سيوفهم ويتوجهون إلى فتح هذه البلاد ليعرضوا عليها ثلاثتهم المعهودة: الإسلام أو الجزية أو الحرب؟

    فهذا العمل يعد الآن في مصطلح الشرعية الدولية بمثابة تعدٍ على حدود دولة مجاورة ذات سيادة. فلماذا إذن حمل المسلمون السيف وانتقلوا إلى البلاد المجاورة؟ ومن هذا السؤال بالذات يتولد عند كثير من الناس استنتاج واستنباط هو في غير محله على الإطلاق ومجافٍ للحقيقة تماما، إنه قولهم: إن الإسلام انتشر بحد السيف. فهذه مشكلة كبيرة تعترض كثيرا من الدعاة، خاصة من قِبل أصحاب المناهج العلمانية.

    ولكن كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ] {البقرة:256} .

    ويبقى السؤال: كيف نوفق بين حمل المسلمين سيوفهم وخروجهم إلى هذه البلاد، وبين قوله تعالى في الآية السابقة: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256} .
    ولتوضيح هذا الأمر نقول: الجهاد في الإسلام نوعان، نوع يسمى جهاد الدفع ، وآخر يسمى جهاد الطلب، وجهاد الدفع هو: ذلك الجهاد الذي يتبادر إلى الذهن من أول وهلة، ويعني الدفاع عن الأرض، وهو أمر مقبول ومفطور على فهمه عوام الناس سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين.

    أما النوع الآخر والذي لا يستوعبه كثير من الناس هو ما يسمى بجهاد الطلب أو جهاد نشر الدعوة، أو جهاد تعليم الآخرين هذا الدين،

    فالإسلام هو الدين الخاتم، وهو كلمة الله الأخيرة إلى الناس، وقد كلّف الله هذه الأمة - أمة الإسلام - أمر نشر هذا الدين في ربوع العالم، وتعليم الناس كل الناس مراد ربهم عزّ وجلّ الذي أنزله على نبيه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

    ومن سنن الله سبحانه وتعالى أن يكون هناك أقوام ممن يحكمون شعوبا غير إسلامية يحولون دون وصول هذه الدعوة إلى شعوبهم، ويقفون بكل ما أوتوا من قوة في الحد من انتشارها، فالإسلام في هذه الحالة شرع للمسلمين أن يتوجهوا بجيوشهم وسيوفهم؛ لحماية الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لنشر هذا الدين وتعليمه للآخرين، فمَن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن المسيح هو الله؟ مَن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن البقرة هي الإله؟ ومَن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يتعلمون أنهم خُلقوا من عدم، وأن ليس للكون إله، وأن الطبيعة هي رب الكون؟

    من لهؤلاء؟ ومَن يعلمهم إذا لم يعلمهم المسلمون أصحاب الرسالة الخاتمة؟ وقد جعل الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وليس نبي يبعثه الله عز وجل من بعده صلى الله عليه وسلم، فمَن لهؤلاء إذن غير هذه الأمة الشاهدة؟ وقد قال سبحانه وتعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً] {البقرة:143} .

    إنها مهمة أمة الإسلام، أمة الشهادة، ستشهد على الأمم عند الله سبحانه وتعالى وتقول: يارب، ذهبت إليهم وعلمتهم وشرحت لهم، وجاهدت في سبيلك، لكنهم أنكروا, أو اتبعوا. فهذه الأمة شاهدة بهذا الجهاد وبتوصيل دعوتها الربانية إلى هذه الأمم.

    والطبيعي أن يكون هناك من يمنعك ويصدك، ويقف بكل ما أوتي من قوة حائلا بينك وبين مَن تريد توصيل الدعوة إليهم؛ وذلك لأنهم- وهم الحكام- مستفيدون من عبادة هؤلاء الناس لغير الله سبحانه وتعالى، فإذا حكم شرع الله انتقلت الحاكمية من هؤلاء الناس- الحكام- إلى الله سبحانه وتعالى وهم لا يريدون ذلك، ومن هنا سيقفون أمامك بجيوشهم وسيوفهم، ولن تجد إلا أن تقف أنت أيضا أمامهم بجيشك وسيفك حتى تحمي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

    والمسلمون كما تربوا لا يقاتلون الشعوب، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب الجيوش الفاتحة فيقول: اتقوا الله في الفلاحين، اتقوا الله في عموم الناس. الناس المغلوبون على أمرهم، الذين أصبحوا لا يهمهم مصلحة الحاكم هذا أو ذاك، إنما يريدون أن يتعلموا أين الخير فيتبعوه، اتقوا الله في هؤلاء، يقول: ولا تقتلوا إلا من قاتلكم.

    فكان المسلمون يتجنبون تماما إيذاء أيٍّ ممن لم يقاتلونهم، ولو أذًى يسيرا، فتجنبوا الأطفال والنساء وعُبّاد الصوامع والضعفاء والكهول الذين لا يستطيعون قتالا، بل إنهم تجنبوا الأقوياء الذين لم يعاونوا، أو يشتركوا في قتال المسلمين، وكان المسلمون يقاتلون الجيوش فقط، يقاتلون الحُكام الذين عَبّدوا الناس لغير الله سبحانه وتعالى.



    لماذا الدعوة إلى الله تكون مصحوبة بالجيش؟

    وهنا قد يسأل سائل: إذا سمح لك هؤلاء الحكام بالدعوة إلى الله في بلادهم، كأن تقوم مجموعة من الدعاة المسلمين بالذهاب إلى هذا البلد أو غيره، والدعوة إلى الله فيه دون جيش أو قتال أو جزية، ويختار الناس ما يشاءون، إذا سُمح بذلك فهل يقبل المسلمون هذا ويتخلون عن الجيش والسيف؟ وما هو موقفهم؟ ولماذا لم يبعث المسلمون أناسا يدعون إلى الله بدون جيش؟ لماذا لم يبعثوا من يدعو إلى الله في الأندلس وفي الروم دون أن يخرج خلفهم جيش؟ أليس الإسلام قد انتشر في إندونيسيا والفلبين وماليزيا، وغيرها من الدول بالتجارة ودون سيف؟

    وفي حقيقة الأمر فإن في هذا الكلام افتراض غير واقعي وغير عملي، ففكرة أن الدعاة إلى الله يخرجون إلى مثل هذه البلاد بدون جيش أمر يعد مخالفا لسنن الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي خلقه، بل إنه مخالف للتاريخ والواقع؛ ففي التاريخ نجد أن دولا ضخمة جدا دخلت في الإسلام عن طريق الفتوحات الإسلامية، أما القلة الاستثنائية هي التي دخلت الإسلام عن طريق التجارة، وللأسف فإن هناك كثير من الناس خاصة من المسلمين من يصور الأمر بغير ذلك - عن وعي منهم أو عن غير وعي - استحياء من فتح المسلمين للبلاد الأخرى.

    لكن الدين الإسلامي وهو دين الله الكامل الشامل ليس فيه ثغرات وليس فيه ما نستحي منه أو نخفيه عن الآخرين، فهذه دولة فارس والتي تشمل الآن: العراق وإيران وباكستان وأفغانستان وكل دول الاتحاد السوفيتي الجنوبية والتي تمثل أكثر من خمسة عشر إلى ستة عشر من جملة الاتحاد السوفيتي السابق، كل هذه البلدان من هذه الدولة الفارسية أسلمت ودخلها المسلمون عن طريق الفتح الإسلامي العسكري، بالجيوش والجهاد والاستشهاد والحروب المريرة لسنوات طويلة، ومثلها أيضا دولة الروم، وكذلك بلاد الشام التي تشمل فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وأجزاء من جنوب تركيا، بالإضافة أيضا إلى بلاد آسيا الصغرى، كل ذلك فتح بالجهاد في سبيل الله، دولة الروم فُتحت فتحا عسكريا، وليس فتح القسطنطينية خافيا عن العيون، وكذلك أيضا كل بلدان شرق أوروبا، وكان منها على سبيل المثال: بُلغاريا واليونان ورومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وأجزاء من النمسا ويوغوسلافيا بكاملها وقبرص ومالطا، كل هذه البلدان فُتحت بالجهاد في سبيل الله في زمن الخلافة العثمانية، وعاش فيها الإسلام ردحا من الزمن، ثم ما لبث أن اختفى منها.

    وأيضا دول شمال إفريقيا كلها فُتحت بالجهاد في سبيل الله، ابتداء بمصر ومرورا بليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب، ومثلها أيضا دول وسط وغرب إفريقيا فتحت بالجهاد في سبيل الله.

    ثم على سبيل الاستثناء دخل الإسلام ماليزيا وإندونيسيا عن طريق التجارة، أبعد ذلك يُغلَّب هذا الأمر الذي حدث على سبيل الاستثناء على سنة الله سبحانه وتعالى في نشر دينه عن طريق الجهاد في سبيل الله؟! فهذا أمر لا يعقل، ولا يمكن أن يُقره أحد.

    إذن بقيت القاعدة التي تقول: إن هؤلاء الحكام الذين يحكمون الشعوب المجاورة للدولة الإسلامية لن يتركوا المسلمين أبدا يدعون إلى الله سبحانه وتعالى في حراسة جيش من الجيوش، ومن هنا شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد فأصبح سنة ماضية إلى يوم القيامة.


    حقيقة الحرية في البلدان الغربية

    إذا نظرنا إلى الأمر نظرة واقعية نجد أن الناس اليوم قد فُتنت بما أُشيع عن حرية التعبير في البلدان الغربية في أمريكا وفرنسا وإنجلترا، ودول الغرب بصفة عامة، حتى ظنوا أن الدعوة سبيلها مفتوح، ومن ثم راحوا يقولون: ابعث من يدعو إلى الله في هذه الدول فلن يكون هناك من يعوقهم.

    لكن الحقيقة أن هذا الأمر ليس متروكا هكذا بدون وعي منهم أو إدراك، فإنهم ما تركوا مثل هذه الحرية المزعومة إلا لمعرفتهم أن المسلمين لم يصلوا بعد إلى القوة المؤثرة المغيِّرة في هذه البلاد، ولو وصل المسلمون إلى المستوى الذي يرى حكام الغرب فيه أنه سيؤثر على سياسة البلد فلن يكون هناك حرية، ولن يكون هناك سماح بالدعوة للإسلام، بل سيقفون لهم بالمرصاد، فهذه الدول لا تسمح بقيام دول إسلامية خارج حدودها، فما الحال لو قامت هذه البلاد الإسلامية أو الدول الإسلامية أو مجرد الفكر الإسلامي المنهجي داخل هذه البلاد؟ فها هي السودان البلد الفقير والضعيف نسبيا بالمقارنة بغيره من الدول حينما أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض ولاياتها قامت الدنيا ولم تقعد، وقامت دول الغرب هذه وأمريكا على رأسها بضرب مصنع الأدوية الموجود في الخرطوم بحجة أنه يصنع موادا كيماوية.

    فهذه مجرد بادرة قيام دولة إسلامية في مكان ضعيف معزول وبعيد تمام البعد عن هذه البلاد الغربية. ومثلها فعلت فرنسا بلد الحريات والتنوير، وبلد الحضارة كما ملأوا أسماعنا، فحين بدأت الفتيات الصغيرات يدخلن المدارس محجبات صالت صولتهم وتم منعهن من دخول المدارس، أما إذا دخلن بلباس فاضح فبها ونعمت. ولِمَ يكون ذلك؟ لأنه مد إسلامي، وفكر يحاول أن يتغلغل ومن ثم يسعون لإيقافه، والحادثة مشهورة ومعروفة للجميع.

    وفي أمريكا منذ حوالي عام، كانوا في الكونجرس يسعون لتمرير قانون يسمح بالقبض على من يُخلّ بالأمن القومي الأمريكي بدون دليل، أي قانون يشبه قانون الطوارئ المعروف، وهذا أمر غير شرعي؛ إذ لا بد أن يكون هناك دليل قبل أن يدان الإنسان أو يتهم أو تقيد حريته، ولقد كان هناك بعض الدلائل التي تشير إلى إمكانية تطبيق هذا القانون، والذي بموجبه يمكن الإمساك بالناشطين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحجة مس الأمن القومي الأمريكي أو الإرهاب.

    فهذه البلاد لن تسمح على الإطلاق للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بالقيام بدورهم في هداية الناس وتعريفهم بربهم، ولن يستطيع الدعاة القيام بهذه المهام إلا إذا كانوا محميين بقوة تحوطهم وتحرسهم، هذه القوة هي قوة الجيش الإسلامي والفتح الإسلامي وقوة الجهاد في سبيل الله، ثم إذا افترضنا أن بلدا مما ذُكر سابقا من أدعياء الحرية سُمح فيه بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وسمح فيه بالمقال الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، ثم يخرج عليك بعد ذلك في مقابل المقال الإسلامي بعشرة آلاف مقال علماني، وفي مقابل الصورة الإسلامية الهادفة عشرة آلاف صورة فاضحة تثير الناس وتبعدهم عن دين الله سبحانه وتعالى، وفي مقابل دعوتك أن الله سبحانه وتعالى واحد عشرات المؤلفات التي تقول إن الله هو المسيح، معاذ الله من هذا القول ومن الشرك به سبحانه وتعالى، فإن كان هذا الأمر على هذا النحو فهل ستؤدي الدعوة الإسلامية نتيجتها وسط هذا الركام الضخم جدا من المضادات المناوئة لها، ودعوة المسلمون إنما هي محاولة إدخال كل البشر وكل الخلق في دين الله سبحانه وتعالى، وتعبيدهم له وحده، ومن هنا شُرع الجهاد في سبيل الله، وشرع فتح البلاد المجاورة لأمة الإسلام حتى وإن أبت في بادئ الأمر.



    حروبنا وحروبهم:

    ووسط كل هذا قد يخرج من يتشدق بالقول: إن هذا الزمان ليس زمن الحروب العسكرية أو التغيير العسكري أو الفتوحات المزعومة، إنما هو زمن السلم وزمن السياسات والمفاوضات.

    لكن واقع الأمر يشهد بأن هناك حروبا عسكرية دائرة وتدور في كل وقت، ومع ذلك يُلام المسلمون على فتوحاتهم الإسلامية السابقة في بلاد الشمال الإفريقي، وفي فارس، وفي الأندلس، وفي غيرها، ولا تُلام إسرائيل - مثلا - على ما تفعله في فلسطين، وعلى ما فعلته في عام سبعة وستين وتسعمائة وألف في مصر وسوريا، وعلى ما فعلته في لبنان ثماني عشرة سنة.

    المسلمون يلامون وقد دخلوا البلاد لينشروا فيها العدل والرحمة والدين ويعبّدوا الناس لرب العالمين، ولا تلام إسرائيل وقد دخلت البلاد التي احتلتها فقتلت ونهبت وسرقت، وفعلت كذا وكذا من الموبقات.

    أيلام المسلمون على هذه الفتوحات المجيدة التي علّموا فيها الناس دينهم وهدوهم إلى طريق ربهم ولا تُلام إسرائيل على ضرب المفاعل النووي - مثلا - في العراق أو ضرب تونس؟! أو على ضرب أمريكا لمصنع الأدوية - كما ذكرنا - في السودان؟! ألا تلام أمريكا ودول الغرب على حروب متتالية ضد دولة العراق؟! ألا تلام أمريكا على تدمير العراق وشعبه، وتدمير بنيته التحتية، ووفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب نقص التطعيمات ونقص الغذاء؟!

    لا يلامون على ذلك، ويلام المسلمون على نشرهم العلم والدين والرحمة والعدل في ربوع العالم أجمع! وهم (أمريكا) الذين صوروا لنا أنهم دخلوا العراق شفقة على الكويت، فجندوا إليها الأجناد في العالم، وأتوا بنصف مليون جندي شفقة على شعب الكويت من العراق.

    لا يلام الصرب على أفعالهم في البوسنة والهرسك، وعلى ما فعلوه في كوسوفا من قتل مائتي ألف أو أكثر في كل واحدة من الاثنتين، وعلى هتك عرض خمسين ألف فتاة مسلمة، ويلام المسلمون على الحريات العظيمة التي منحوها للنصارى واليهود في حكم الدولة الإسلامية!

    ألا تلام روسيا على اجتياح الشيشان واجتياح أفغانستان، وتدمير المنشآت المدنية في هذه البلاد، وقتل المدنيين ليل نهار، ويلام المسلمون على نشر العلم والمدنية في ذات البلاد وكانت من قبل تعبد النار؟!

    أيلام المسلمون على فتحهم لجمهوريات جنوب روسيا بصفة عامة ولا يلام الروس والصينيون الذين احتلوا أجزاءا كثيرة من هذه البلاد، وحكموا الناس فيها بالحديد والنار أعواما وأعواما، حتى قتلوا كل من كان يخفي في بيته مصحفا؟! أيوجه هذا اللوم إلى المسلمين أم إلى هؤلاء الذين حكموا باسم الحضارة الحديثة والمدنية والتقدم وما إلى ذلك من أسماء؟

    فتاريخ المسلمين مليء بصفحات الشرف والعزة والمجد، وهؤلاء إنما يريدون تغيير هذه الصفحات المشرقة عن عمد؛ حتى يشعر المسلمون بشيء من الاستحياء تجاه تاريخهم، وإنما التاريخ الإسلامي صفحات بيضاء ناصعة، يُشرّف كل المسلمين ويعلي من قدرهم، وإنما الاستحياء كل الاستحياء يجب أن يكون من أدعياء الحضارة والمدنية وفُعّال الفحش والموبقات.



    رسالة المسلمين

    وهناك اعتراض آخر من قائل يقول: لندع الناس يعبدون ما يشاءون، لماذا نُشغل أنفسنا بتعليمهم أن الله سبحانه وتعالى واحد؟ لماذا نجيش الجيوش حتى نعلمهم هذا المفهوم؟ لماذا لا ندعهم أحرارا يعبدون ما يعبدون من دون الله سبحانه وتعالى؟

    والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلم رسالة عليه أن يؤديها، وهذه الرسالة لخّصها رِبعِي بن عامر في حواره مع قائد عسكر الفرس في موقعة القادسية حين قال رضي الله عنه: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة.

    فهذا هو مراد المسلم وهذه هي رسالته في الدنيا، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}.

    قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ .

    إذا كان الناس يأبون الدخول في الإسلام تأتي بهم ولو في السلاسل حتى يدخلوا فيه، فتنقذهم من أن يخلدوا في نار خالدة، وتنقذهم من العيش في جور الأديان، ومن ظلم الحكام إلى العيش في عدل الإسلام، والعيش في سَعة الدنيا والآخرة، تماما كمن يريد أن يلقي بنفسه من فوق شاهق فأسرعت أنت وجذبته من يده وأنقذته، هل يأتي من يلوم عليك إيلام يده، أو أنك جذبت يده بقوة؟ وإذا كنت قد أنقذته من هاوية الموت المحقق الذي لن يلومك عليه أحد، فبالأحرى أن تنقذه من هاوية أبدية إنها هاوية الجحيم، بالأحرى إذن أن تنقذه من أن يخلد في نار جهنم، وتهديه إلى هذا الدين وتُعَلّمه إياه، وبالأحرى أن تأتي له بالجيش الذي يؤثر فيه حتى يسمع كلام الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكثير من الناس لا يسمع إلا إذا كان الداعي محاطا بقوة وبجيش كبيرين، وهنا يبدأ يسمع ويفكر فيجد أن ما كان يرفضه هو النجاة، وما كان يريد اتباعه هو الهلاك المحقق الذي لا فكاك منه، والكثير من الأمم التي دخلت في دين الله أفواجا حين دخل الفاتحون دخلوا غير مكرَهين ولا مضطرين.

    ولقائل أن يقول: إن هذا الفتح ودخول هذا الجيش يتعارض مع قوله تعالى:

    [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256} . والحقيقة أن هذا الفتح وهذا الدخول للجيش لا يتعارض مطلقا مع هذه الآية الكريمة، فالمسلمون حين يدخلون هذه البلاد يعرفونهم أولا دين الله سبحانه وتعالى، ثم يُخيّرونهم جميعا بين أن يظلوا على إيمانهم بمعتقداتهم أو يعبدوا الله سبحانه وتعالى، فمن أراد أن يبقى في ظلم الشرك وفي ظلم الجاهلية بقي فيه، ومن أراد أن يدخل في نور الإسلام دخل فيه وكانت له سعادة الدنيا والآخرة.



    حاجة الجميع للإسلام

    الناس اليوم عموم الناس في حاجة حقيقية إلى الإسلام وإن أبت هذا الأمر؛ فالعالم يتجه إلى كارسة محققة، الدول العظمى التي تتحكم في هذه الأمم اليوم تكيل بأكثر من مكيال، وتجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسخها في العالم، الأدواء والأمراض الأخلاقية لا حصر لها.

    لعلكم قرأتم أو سمعتم عن المؤتمر الأخير لمرضى الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسبة) الذي جاء فيه أنه في خلال العشرين سنة الماضية (من سنة ثمانين وتسعمائة وألف إلى سنة ألفين) قُتل عشرون مليونا من البشر بسبب الإيدز، وأن أقل معدلات الإصابة بهذا المرض كانت في البلاد الإسلامية، ولعل ذلك كان نتيجة طبيعية؛ لأن هذا المرض الأخلاقي ينتج بسبب غياب الوازع الديني، وبُعد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى وعن شرعه عزّ وجلّ، والناس في الدول الإسلامية مرتبطة بشرع الله سبحانه وتعالى، حتى إن كان هذا الارتباط ضعيفا بعكس ما في الدول غير الإسلامية والتي تنكر بالكلية منهج الله سبحانه وتعالى، ونظرة واحدة على تاريخ كل المعارك والفتوحات الإسلامية لا تجد ضحاياها يقترب من واحد على مائة من العشرين مليونا السابقة، هذا غير سبع وثلاثين مليونا آخرين من حاملي هذا المرض اللعين ينتظرون الموت.

    وبعيدا عن الأمراض الأخلاقية وضحاياها كانت هناك المذابح والمجازر والانقلابات التي تحدث في إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية وغيرها من البلاد، كثير من القتلى يموتون في بشاعة منقطعة النظير، لماذا؟ لأنه ليس هناك إسلام يحكم أو يسود، لم يكن هناك دين الرحمة والعدل والإنسانية، لم يكن هناك ما يجعل الناس تعيش في سعادة دنيوية، ومن ثم سعادة أخروية، بل كان هناك ظلم الإنسان لنفسه، وهو الشرك بربه خالقه سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى على لسان لقمان: [يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13} .



    التعريف ببلاد الأندلس

    وفي بداية الحديث عن تاريخ الأندلس نرد أولا عما قد يُثار من أسئلة حول معنى هذه الكلمة والمراد منها، فبلاد الأندلس هي اليوم دولتي إسبانيا والبرتغال، أو ما يُسمى شبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها (مجموع الدولتين) ستمائة ألف كيلو متر، أي أقل من ثُلثي مساحة مصر.

    وعن سبب تسميتها بالأندلس فقد كانت هناك بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال إسكندناف من بلاد السويد والدانمارك والنرويج وغيرها، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة منذ القرن الأول الميلادي، ويقال أن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وما يهمنا هو أن هذه القبائل كانت تسمى قبائل الفندال أو الوندال بالللغة العربية؛ فسميت هذه البلاد بفاندليسيا على اسم القبائل التي كانت تعيش فيها، ومع الأيام حُرف إلى أندوليسيا فأندلس.

    وقد كانت هذه القبائل تتسم بالوحشية والهمجية حتى إن في الإنجليزية إلى الآن همجية ووحشية تعني فندليزم، وتعني أيضا أسلوب بدائي أو غير حضاري، وهو المعنى والاعتقاد الذي رسخته قبائل الفندال، وقد خرجت هذه القبائل من الأندلس وحكمها طوائف أخرى من النصارى عُرفت في التاريخ باسم قبائل القوط أو القوط الغربيين، وظلوا يحكمون الأندلس حتى قدوم المسلمين إليها.



    لماذا توجه المسلمون إلى الأندلس دون غيرها؟

    لماذا اتجه المسلمون في فتوحاتهم إلى بلاد الأندس بالذات من بلاد العالم، وأيضا لم هذا التوقيت بعينه أي سنة اثنتين وتسعين من الهجرة؟

    المسلمون كانوا قد فتحوا الشمال الإفريقي كله، ففتحوا مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ووصلوا إلى حدود المغرب الأقصى والمحيط الأطلسي،

    ومن ثم لم يكن أمامهم في سير فتوحاتهم إلا أحد سبيلين، إما أن يتجهوا شمالا، ويعبروا مضيق جبل طارق ويدخلوا بلاد إسبانيا والبرتغال وهي بلاد الأندلس آنذاك، وإما أن يتجهوا جنوبا صوب الصحراء الكبرى ذات المساحات الشاسعة والأعداد القليلة من السكان، والمسلمون بدورهم ليس من همهم إلا البحث عن تجمعات البشر حتى يعلمونهم دين الله سبحانه وتعالى، ولم يكن همهم البحث عن الأراضي الواسعة أو جمع الممتلكات، وبما أن المسلمين وصلوا إلى الحدود القريبة من الأندلس مباشرة، واستتب لهم الأمر في أواخر الثمانينات من الهجرة فيما دون ذلك من البلاد التي فتحوها - كما سيأتي تفصيله بإذن الله - فالأندلس إذن هي البلاد التي تلي بلاد المسلمين مباشرة والله تعالى يقول في كتابه الكريم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123} .

    وعلى هذا النهج سار المسلمون في كل فتوحاتهم، ويجسد هذا المنهج ذلك الحوار الذي دار بين معاذ بن جبل رضي الله عنه وبين ملك من ملوك الروم قبل موقعة اليرموك وكان رسولا إليه، سأل ملك الروم رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا وبلاد الحبشة أسهل عليكم؟ وقد كانت الروم آنذاك تقتسم العالم مع فارس، فيسأل ملك الروم متعجبا كيف تَطْرقون أبواب القوة العظمى وتتركون الحبشة وهي الأسهل والأيسر؟! فأجابه معاذ بن جبل قائلا: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123} . أنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنجَوِّزها إلى الحبشة وغيرها من البلاد. أي أننا لم ننس الحبشة ولكن أنتم المجاورون لنا، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى الأندلس؛ حيث كانت هي التي تلي بلاد المسلمين.



    زمن فتح الأندلس

    في أي زمان تم فتح الأندلس؟ سؤال مهم جدا ونقصد به: مع أي العصور الإسلامية يتوافق تاريخ فتح الأندلس وهو اثنتان وتسعون من الهجرة؟ والجواب أن هذه الفترة كانت من فترات الدولة الأموية، وتحديدا في خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله الخليفة الأموي الذي حكم من سنة ست وثمانين إلى سنة ست وتسعين من الهجرة، وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد الأموي رحمه الله.

    وهذا التاريخ يجرّنا إلى الحديث عن الدولة الأموية المظلومة في التاريخ الإسلامي، تلك الدولة التي أُشيع عنها الكثير والكثير من الافتراءات والأكاذيب والأحداث المغلوطة التي تشوه صورتها، وبالتالي صورة التاريخ الإسلامي كله، وذلك حتى يتسنى للمتربصين القول بأن التاريخ الإسلامي لم يكن إلا في عهد أبي بكر وعمر، حتى وصل الأمر إلى الطعن في تاريخ أبي بكر وعمر نفسيهما مع علم الجميع بفضلهما.

    ولا يخفى على الجميع المراد الأسمى من ذلك، ألا وهو: لا تعتقد قيام أمة إسلامية، فإذا كان هذا شأن السابقين القريبين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان هذا شأن دولة بني أمية وبني العباس وغيرهما من الدول التي لم تستطع أن تقيم حكما إسلاميا صالحا، فكيف بالمتأخرين؟ وهي رسالة يريدون الوصول بها إلى كل المسلمين، لكن : [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] {الرعد:17}.



    بني أمية وحسناتهم

    الدولة الأموية كغيرها من الدول الإسلامية لها يد بيضاء وفضل كبير على المسلمين في شتى بقاع الأرض، ونظرة واحدة على عدد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في زمن حكمها تكفي للرد على الافتراءات والمزاعم التي حيكت في حقها، فهذا إقليم شمال إفريقيا بكامله دخل الإسلام في عهد بني أمية، ابتداء من ليبيا وحتى المغرب، وإذا كانت الفتوح الإسلامية لهذه البلاد قد بدأت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه فإن هذه البلاد قد ارتدت على عقبها ثم فُتحت من جديد ولكن في عهد بني أمية، ومع إقليم شمال إفريقيا كانت أفغانستان وأيضا جمهوريات جنوب روسيا، كل هذه البلدان وغيرها وصلتهم رسالة الإسلام ودخلوا فيه في زمن بني أمية، فقد كان الجهاد في أيامهم أمرا طبيعيا جدا، وهو في كل أيام العام صيفا وشتاء، يخرج إليه الناس وكأنهم ذاهبون إلى أعمالهم، وإضافة إلى ذلك أيضا فقد دُوّنت السنة النبوية في مدتهم، وحُكِّم شرع الله وطُبّق في دولتهم،

    ومع كل هذا فإنا لا نقر بتبرئتهم من كل خطأ أو عيب؛ فالنقص والخطأ شيمة البشر، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن - بلا شك - كل هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم، وبحر أفضالهم على المسلمين، فقد امتد حكم بني أمية اثنين وتسعين عاما، من سنة أربعين إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة، وكان أول خلفاء بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ورضي الله عن أبيه أبي سفيان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الخليفة الذي لم يسلم من ألسنة كثير من الناس، فطعنوا في تاريخه وفي خلافته رضي الله عنه، ولقد كذبوا، فليتنا نصل إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين.

    وإن كان هذا ليس هو مجال الحديث عن بني أمية إلا أن هذه المقدمة البسيطة قد تفيد - بمشيئة الله - في الحديث عن الأندلس، فبعد معاوية بن أبي سفيان تتابع الحكام وكان أشهرهم عبد الملك بن مروان رحمه الله، ومن تبعه من أولاده، وكان منهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وقد تخللهم الخليفة الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وهو الخليفة الأموي من أبناء الدولة التي يطعنون فيها الذي ملأ الأرض عدلا ورحمة وأمنا ورخاء، أما الجانب السيئ من تاريخ دولة بني أمية فإنه يكمن في السنين السبع الأخيرة فقط من تاريخهم، تلك التي كان فيها كثير من المآسي، وكثير من الاختلاف على المنهج الإسلامي، وكسنة من سنن الله تعالى فلما فسد الأمر في بني أمية قامت دولة أخرى وهي دولة بني العباس، أما الأندلس وفتح الأندلس فيبقى حسنة من حسنات بني أمية.



    أوروبا حال الفتح الإسلامي للأندلس

    من المفيد جدا أن نتعرف على حالة أوروبا والوضع الذي كانت عليه - خاصة بلاد الأندلس - عند الفتح الإسلامي وكيف كان؟ وكيف تغير هذا الوضع وهذا الحال بعد دخول أهل هذه البلاد الإسلام؟ والواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش فترة من فترات الجهل العظيم جدا، حيث الظلم هو القانون السائد، فالحكام يمتلكون الأموال وخيرات البلاد، والشعوب تعيش في بؤس كبير، والحكام بنوا القصور والقلاع والحصون، بينما عامة الشعب لا يجد المأوى ولا السكن، وإنما هم في فقر شديد، بل إنهم يباعون ويشترون مع الأرض، وبالنسبة للفرد نفسه، فالأخلاق متدنية والحرمات منتهكة، وبُعد حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة الشخصية - على سبيل المثال - مختفية بالمرة، حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يهذبونها، وكانوا - كما يذكر الرحالة المسلمين الذين جابوا هذه البلاد في هذا الوقت - لا يستحمّون في العام إلا مرة أو مرتين، بل يظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة له.

    وكانوا يتفاهمون بالإشارة، فليست لهم لغة منطوقة أصلا فضلا عن أن تكون مكتوبة، وكانوا يعتقدون بعض اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتوفى عند موته، ومن حرق زوجته معه وهي حية، أو حرق جاريته معه، أو من كان يحبه من الناس، والناس تعلم وتشاهد هذا الأمر، فكانت أوربا بصفة عامة قبل الفتح الإسلامي يسودها التخلف والظلم والفقر الشديد، والبعد التام عن أي وجه من أوجه الحضارة المدنية، ولنقارن هذا بما أصبحت عليه أوروبا وبلاد الأندلس بعد الفتح الإسلامي.
    -------------------------------------------------------------------------------------------

    يتبع الفصل الثاني
    عهد الفتح الإسلامي
    أنا الشمس في جو العلوم منيرة**ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
    إمام الأندلس المصمودي الظاهري

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    سياتل..ولاية واشنطن ..
    المشاركات
    977

    Post رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    الفصل الثاني: عهد الفتح الإسلامي




    المسلمون في الشمال الإفريقي

    لكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس لا بد أن نتعرف على طبيعة الوضع في البلاد الملاصقة لهذا البلد وهي بلاد الشمال الإفريقي، فقد دخلها الإسلام قبل فتح الأندلس بسبعين سنة، أي سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وكان يسكن هذا الإقليم (إقليم الشمال الإفريقي) قبائل ضخمة تسمى قبائل البربر - سنفصل الأمر فيها قريبا بمشيئة الله - وهذه القبائل كانت دائمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى، فتدخل في الإسلام، ثم ترتد، ثم تسلم، ثم ترتد، ودارت حروب بين هذه القبائل والمسلمين انتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر سنة خمس أو ست وثمانين من الهجرة على يد موسى بن نصير رحمه الله.

    موسى بن نصير القائد بن القائد

    موسى بن نصير ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الإفريقي، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة.

    أما أبوه فهو نصير ذلك الغلام النصراني الذي أسره خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة عين التمر، وكان قبلها يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في الكنيسة، وفي الأسر عرف الإسلام وأعجب به، فأسلم وهو ابن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما، وكان معه وعلى شاكلته سيرين أبو محمد بن سيرين التابعي المشهور.

    وهنا وقفة لطيفة نشير إليها في معرض هذا الحديث، وهي تلك الثمرة التي هي من ثمار ومن تبعات الفتوحات الإسلامية، ومصداقا لقوله تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ {فصِّلت:33} . تلك الثمرة التي منّ الله بها على نُصير وعلى ولده من بعده، ومن ثم على المسلمين أجمعين.

    فانظر ماذا فعل الإسلام بنُصَير وغيره؟ وماذا كان سيكون مصير نُصير إذا ظل على ما هو عليه؟ وكيف أصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد توفي بعده بسنوات وسنوات. وإنه لثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في بلاد فارس (وهي التي أُسر فيها نُصير). وإن فتح الأندلس على يد موسى بن نصير ليشاركه فيه - بإذن الله - الأجر خالد بن الوليد رضي الله عن الجميع.

    أما نُصير، فلما أسلم ازداد حبه للإسلام، فأخذ ينهل منه ويتعلم حتى أصبح عالما، وفي ذات الوقت من الفرسان الأشداء والمجاهدين الأكفاء، وظل يترقى من حال إلى حال حتى صار في زمن الدولة الأموية قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وظل في هذه القيادة سنوات طويلة،

    وفي هذا الوقت كان ابنه موسى يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأ موسى بن نصير على حب الجهاد في سبيل الله ونشر الدين، حتى أصبح شابا يافعا يتقلد الرتب والمناصب، فتقلد قيادة جيوش الأمويين في مصر في عهد عبد العزيز بن مروان الأموي، ثم بعد ذلك واليا على إفريقيا وذلك في سنة خمس وثمانين من الهجرة.

    موسى بن نُصير وتثبيت دعائم الإسلام في إفريقيا

    منذ أصبح موسى واليا على إفريقيا أصبح كل همه لماذا يرتد الناس بين الحين والآخر عن الإسلام بعد أن يكونوا قد دخلوا فيه؟! بل كيف يعودون ويقاتلون المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟! ومن هنا فقد أراد أن يجد حلا لهذه الأمور، ويعمل على تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم الذي كان قد فتحه عقبة بن نافع رحمه الله، والذي اغتيل في القيروان من هذا الإقليم على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى.

    وفي بحثه عن معرفة أسباب هذه الردة المتكررة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما من سبقوه.

    الخطأ الأول: وهو أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحا سريعا، ويتوغلون داخلها طمعا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يحموا ظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها، ومن ثم كانت النتيجة أن البربر فقهوا هذا الأمر واستغلوه جيدا، فانقلبوا على عقبة وأحاطوا به وقتلوه،

    وفي تغلبه على هذا الأمر بدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في أناة شديدة، وفي هدوء وحذر كحذر خالد بن الوليد، فبدأ يتقدم خطوة ثم يُأَمّن ظهره، ثم خطوة فيأمّن ظهره، حتى أتم فتح هذا الإقليم في سبع سنين أو في ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورا معدودات.

    أما الخطأ الثاني فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلموا الإسلام جيدا ولم يعرفوه حق المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموهم الإسلام ويعرفونهم به، فأقبل السكان على الإسلام وأحبوه ودخلوا فيه أفواجا، حتى أصبح البربر الذين يحاربون المسلمين أصبحوا جند الإسلام وأهله، وهكذا عمل موسى على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيده في الشمال الإفريقي، وأتم فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة سبتة (مدينة سبتة الآن من مدن المغرب العربي التي تحتلها إسبانيا، وتقع على مضيق جبل طارق)، فقد فتح ميناء طنجة ولم يفتح ميناء سبتة المماثل له في الأهمية، وللموقع الاستراتيجي لمدينة سبتة ولّى موسى بن نصير على ميناء طنجة (القريب جدا من سبتة والقريب في ذات الوقت من الأندلس) أمهر قواده طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد لم يكن عربيا، بل كان من قبائل البربر التي استوطنت الشمال الإفريقي - كما ذكرنا - والتي كان يميزها اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر، بعكس ما يُتخيل من كونهم يشبهون الزنوج، حتى إن البعض ينسبونهم إلى أصول أوروبية، وقد حمل طارق بن زياد القائد الفذ هذه الصفات الشكلية، إضافة إلى ضخامته الجسمية ووسامته الشديدة، تلك التي لم تمنعه عن الانشغال بحب الجهاد في سبيل الله، ونشر هذا الدين.

    فكرة فتح الأندلس

    لم تكن فكرة فتح الأندلس وليدة أيام موسى بن نصير، بل إنها فكرة قديمة جدا، فمنذ أن استعصت القسطنطينية على الفتح زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه - وكانت الحملات الإسلامية قد وصلت إليها - قال قولته: إن القسطنطينية إنما تفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر.

    فكان عثمان رضي الله عنه يعني أن المسلمين سيفتحون الأندلس أولا (غرب أوروبا) ثم يتوجهون منها صوب القسطنطينية (شرق أوروبا) فيفتحونها من قِبَل الغرب لا من قِبَل الشرق، من جهة البحر الأسود في ذلك الوقت،

    لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة من المغرب العربي إلا في أيام بني أمية وفي فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.

    موسى بن نصير وعقبات فتح الأندلس

    بعد أن استتب الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، ومن قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123} - كما ذكرنا سابقا - أخذ موسى بن نصير الفكرة وهيأ نفسه لبلاد الأندلس تلك التي تلي الشمال الإفريقي مباشرة، وفي طريقه إليها كانت هناك عدة عقبات كان أهمها ما يلي:

    العقبة الأولى: قلة السفن

    وجد موسى بن نصير أن المسافة المائية التي سيقطعها بين المغرب والأندلس لا تقل عن ثلاثة عشر كيلو مترا، وهو ليس لديه سفنا كافية لعبور هذه العقبة المائية، فمعظم فتوحات المسلمين - باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص - كانت برية، ومن ثم لم يكن هناك حاجة كبيرة إلى سفن ضخمة، تلك التي احتاجوا إليها هنا لتنقل الجنود وتعبر بهم مضيق جبل طارق ليصلوا إلى الأندلس.

    العقبة الثانية: وجود جزر البليار النصرانية في ظهره إن دخل الأندلس

    كان موسى بن نصير قد تعلم من أخطاء سابقيه؛ فلم يخطو خطوة حتى يأمن ظهره أولا، وفي شرق الأندلس كانت تقع جزر تسمى جزر البليار، وهي قريبة جدا من الأندلس، ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنا إن هو دخل الأندلس، وكان عليه أولا أن يحمي ظهره حتى لو كانت هذه الجزر تابعة للرومان.

    العقبة الثالثة: وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في يد نصارى على علاقة بملوك الأندلس

    كان ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق والذي لم يُفتح مع بلدان الشمال الإفريقي، كان يحكمه ملك نصراني يُدعى يُليان أو جريان، وكان لهذا الملك علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غَيْطَشَة، وغيطشة هذا كان قد انقلب عليه لوذريق أو رودريقو - كما يُنطق في بعض الأحيان - وتولى حكم الأندلس، وكانت العقبة تكمن في خوف موسى بن نصير من أن ينقلب عليه يوليان صاحب ميناء سبتة والذي سيكون في ظهره ويتحد مع لوزريق صاحب الأندلس، حتى وإن كان على خلاف معه، فمن يضمن ألا يدخل يوليان مع لوزريق في حربه ضد موسى بن نصير نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر؟

    العقبة الرابعة: قلة عدد المسلمين

    كانت العقبة الرابعة التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن الشام واليمن قوات محدودة جدا، وكانت في نفس الوقت منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي، ومن ثم فقد لا يستطيع أن يتم فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع خوفه من أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذ هو خرج منها بقواته.

    العقبة الخامسة: قوة عدد النصارى

    في مقابل قوة المسلمين المحدودة كانت تقف قوات النصارى بعدتها وضخامتها عقبة في طريق موسى بن نصير لفتح الأندلس، فكان للنصارى في الأندلس أعداد ضخمة، هذا بجانب قوة عدتهم وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لوزريق القائد القوي المتكبر.

    العقبة السادسة: طبيعة جغرافية الأندلس وكونها أرض مجهولة بالنسبة للمسلمين

    وقف البحر حاجزا بين المسلمين وبين بلاد الأندلس، فلم تعبر سفنهم هذه المنطقة من قبل فضلا عن أن يرتادوها أصلا، ومن ثم فلم يكن لهم علم بطبيعتها وجغرافيتها، الأمر الذي سيجعل من الصعوبة الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد، وفضلا عن هذا فقد كانت بلاد الأندلس تتميز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبة كئود أمام حركة أي جيش قادم، خاصة إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهم وسائل ذلك الجيش في نقل العدة والعتاد.

    موسى بن نصير ومواجهة العقبات

    رغم هذه العقبات التي كانت موجودة بالفعل في طريق فتح الأندلس إلا أن موسى بن نصير لم يكسل ولم يقف مكبّل اليدين، بل أصر على الفتح وعلى إتمام الطريق الذي بدأه قبله الفاتحون، ومن هنا بدأ وفي أناة شديدة يرتب أموره ويحدد أولوياته، فعمل على حل المعضلات السابقة على هذا النحو:

    أولا: بناء الموانئ وإنشاء السفن

    عمد موسى بن نصير أول أمره في سبيل تجاوز عقبات الطريق إلى الأندلس إلى إنشاء السفن؛ فبدأ في سنة سبع وثمانين أو ثمان وثمانين ببناء الموانئ الضخمة والتي يبنى فيها السفن، وهذ وإن كان يعد أمرا يطول أمده إلا أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي، كان أشهرها ميناء القيروان (المدينة التي فتحها عقبة بن نافع).

    ثانيا: تعليم البربر الإسلام

    وفي أثناء ذلك أيضا عمد موسى بن نصير إلى تعليم البربر الإسلام في مجالس خاصة لهم كما الدورات المكثفة تماما، حتى إنه بدأ في تكوين جيش الإسلام منهم أنفسهم، وهذا الصنيع من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم توجد دولة محاربة أو فاتحة غير الدول الإسلامية تُغيّر من طبائع الناس وحبهم وولائهم الذي كانوا عليه، حتى يصبحوا هم المدافعين عن دين هذه الدولة المحاربة أو الفاتحة، خاصة وإن كانوا ما زالوا حديث عهد بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد،

    فهذا أمر عجيب حقا، ولا يتكرر إلا مع المسلمين وحدهم، فقد ظلت فرنسا - على سبيل المثال - في الجزائر مائة وثلاثين عاما ثم خرجت والجزائريون ظلوا كما كانوا على الإسلام لم يتغيروا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية، علّم موسى بن نصير البربر الإسلام عقيدة وعملا، وغرس فيهم حب الجهاد وبذل النفس والنفيس لله سبحانه وتعالى، فكان أن صار جُلّ الجيش الإسلامي وعماده من البربر الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنين من المحاربين له.

    ثالثا: تولية طارق بن زياد على الجيش

    القائد هو قبلة الجيش وعموده، بهذا الفهم ولّى موسى بن نصير على قيادة جيشه المتجه إلى فتح بلاد الأندلس القائد البربري المحنك طارق بن زياد، ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية وحب الجهاد والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من البربر وليس من العرب إلا أن موسى بن نصير قدمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب منها:

    1- الكفاءة

    لم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يوليه موسى بن نصير على قيادة الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر فضل إلا بالتقوى، فقد وجد فيه الفضل على غيره والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وقد ذكرنا بعضا من صفاته قبل قليل، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قبلية أو دعوة عنصرية تدعو إلى التعصب وتفضل عنصرا أو طائفة على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107} .

    2- قدرته على فَهم وقيادة قومه

    إضافة إلى الكفاءة فقد كان من البربر، وذلك أدعى للقضاء على أيٍ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس البربريين الذين دخلوا الإسلام حديثا، ومن ثم يستطيع قيادة البربرجميعا وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثم ولكونه بربريا فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل البربر يتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يجيد اللغتين العربية والبربرية بطلاقة، ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاه إياه.

    رابعا: فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين

    من أهم الوسائل التي قام بها موسى بن نصير تمهيدا لفتح الأندلس وتأمينا لظهره كما كان عهده بذلك، قام بفتح جزر البليار التي ذكرناها سابقا وضمها إلى أملاك المسلمين، وهو بهذا يكون قد أمّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدل على حنكة وحكمة عظيمة لهذا القائد الذي أُغفل دوره في التاريخ الإسلامي.

    مشكلة سبتة والعناية الإلهية

    استطاع موسى بن نصير أن يتغلب على قلة عدد الجيش من خلال البربر أنفسهم، كذلك تغلب على العقبة المتمثلة في قلة السفن نسبيا ببناء موانئ وسفن جديدة، وبقيت أرض الأندلس كما هي أرضا مجهولة له، وكذلك ظلت مشكلة ميناء سبتة قائمة لم تُحل، وهي -كما ذكرنا - ميناء حصين جدا يحكمه النصراني يوليان، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته وفعل كل ما في وسعه ولم يجد حلا لهاتين المشكلتين، وهنا وفقط كان لا بد للأمر الإلهي والتدبير الإلهي أن يتدخل: [إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] {الحج:38} . [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17} . وهذا بالفعل ما حدث وتجسد في فعل يوليان صاحب سبتة وكان على النحو التالي:

    - فكر يوليان جديا في الأمر من حوله، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوة يوما بعد يوم، وإلى متى سيظل صامدا أمامهم إن هم أتوا إليه؟

    - كان يوليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين على لذريق حاكم الأندلس ذلك الذي قتل غيطشة صاحبه الأول، وقد كان بينهما علاقات طيبة، حتى إن أولاد غيطشة من بعده استنجدوا بيوليان هذا ليساعدهم في حرب لذريق، ولكن هيهات فلا طاقة ليوليان بلذريق ولا طاقة لأولاد غيطشة أيضا به، ومن هنا فكان ثمة عداء متأصل بين صاحب سبتة وحاكم الأندلس؛ ومن ثم فإلى أين سيفر يوليان إن استولى المسلمون على ميناء سبتة؟

    - الأمر الأخير الذي دار في خلد يوليان هو أن أولاد غيطشة القريبين منه كان لهم من الضياع الضخمة في الأندلس الكثير والتي صادرها وأخذها منهم لذريق قاتل أبيهم، وكان يوليان يريد أن يستردها لهم، وكان لذريق أيضا قد فرض على شعبه الضرائب الباهظة وأذاقهم الأمرّين؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديد بينما هو في نعيم دائم ومُلك يتصرف فيه كيف يشاء؛ ومن هنا فكان شعبه يكرهه ويتمنى الخلاص منه.

    ومن تدبير رب العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدا في عقل يوليان - وموسى بن نصير آنذاك قد استنفد جهده وحار في أمره - فإذا به يُرسل إلى طارق بن زياد والي طنجة (على بعد عدة كيلو مترات من ميناء سبتة) برسل من قِبَله يعرض عليه عرضا للتفاوض، أما تدبير العناية الإلهية والمفاجأة فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب الذي نص على ما يلي:

    1- نسلمك ميناء سبتة. تلك المعضلة التي حار المسلمون أعواما في الاهتداء إلى حل لها؛ حيث كانت فوق مقدراتهم.

    2- نمدك ببعض السفن التي تساعدك في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس. وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: سأتم ما لم يستطع المسلمون إتمامه ووقفت عندهم قدراتهم، حتى ولو كان ذلك من قِبَل أعدائهم، وقد علمنا مدى احتياج موسى بن نصير لهذه السفن.

    3- نمدك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس.

    أما المقابل فهو: ضيعات وأملاك غيطشة التي صادرها لذريق. وكان لغيطشة ثلاث آلاف ضيعة (ضيعة تعني عقَارُ وأرضٌ مُغِلَّةُ)، وكانت ملكا لأولاده من بعده، فأخذها منهم لذريق وصادرها.

    ما أجمل العرض وأحسن الطلب:

    وبهذا العرض فقد أراد يوليان صاحب سبتة أن يتنازل للمسلمين عن سبتة ويساعدهم في الوصول إلى الأندلس، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع يوليان ويطيع، على أن يرد المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غيطشة، فما أجمل العرض وما أحسن الطلب! وما أعظم السلعة وما أهون الثمن!

    المسلمون لم يفكروا يوما في مغنم أو ثروة أو مال حال فتوحاتهم البلاد، لم يرغبوا يوما في دنيا يملكها غيطشة أو يوليان أو لذريق أوغيرهم، كان جل هدفهم تعليم الناس الإسلام وتعبيدهم لرب العباد، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، بل لو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذ يُترك لهم كل ما يملكون، وسنتحدث عن الجزية في الإسلام بعد قليل.

    ومن هنا فكان الثمن هينا جدا والعرض غاية الآمال، فبعث طارق بن زياد إلى موسى بن نصير وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك (وهي في تونس الآن) يخبره هذا الخبر، فسُرّ سرورا عظيما، ثم بعث موسى بن نصير بدوره إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يطلعه أيضا الخبر ويستأذنه في فتح الأندلس.

    وهنا أذن له الوليد بن عبد الملك إلا أنه شرط عليه شرطا كان قد فكر فيه قبل ذلك موسى بن نصير نفسه، وهو: ألا تدخل بلاد الأندلس حتى تختبرها بسرية من المسلمين، فمن أدراك أن المعلومات التي سيقدمها لك يوليان عن الأندلس ستكون صحيحة؟ ومن يضمن لك ألا يخون يوليان عهده معك أو يتفق من ورائك مع لذريق أو مع غيره عليك؟

    سرية طريف بن مالك أول سرية للمسلمين إلى الأندلس

    جهز موسى بن نصير بالفعل سرية من خمسمائة رجل وجعل رأسهم طَريف بن مالك- أو ملوك كما جاء في روايات أخرى- وكان طريف أيضا من البربر كما كان القائد طارق بن زياد، وهذه مزية تفرد بها الإسلام كما ذكرت، خاصة وأن طريف من البربر حديثي العهد بالإسلام وهو الآن وبعد أن كان يحارب الإسلام صار قائدا مدافعا عن الإسلام وناشرا له،

    سار طريف بن مالك من المغرب على رأس خمسمائة من المسلمين صوب الأندلس، وقد وصلها في رمضان سنة واحد وتسعين من الهجرة، وقام بمهمته في دراسة منطقة الأندلس الجنوبية والتي سينزل بها الجيش الإسلامي بعد ذلك على أكمل وجه، ثم عاد بعد انتهائه منها إلى موسى بن نصير وشرح له ما رآه، وفي أناة شديدة وعمل دءوب ظل موسى بن نصير عاما كاملا بعد عودة طريف بن مالك يجهز الجيش ويعد العدة، حتى أعد في هذه السنة سبعة آلاف مقاتل، وبهم بدأ الفتح الإسلامي للأندلس رغم الأعداد الضخمة لقوات النصارى هناك.

    الصدام الأول وبدايات الفتح الإسلامي للأندلس

    في شعبان من سنة اثنتين وتسعين من الهجرة تحرك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد، تحرك هذا الجيش وعبر مضيق جبل طارق، والذي ما سُمّي بهذا الاسم (مضيق جبل طارق) إلا في هذا الوقت؛ وذلك لأن طارق بن زياد حين عبر المضيق نزل عند هذا الجبل، وقد ظل إلى الآن حتى في اللغة الإسبانية يسمى جبل طارق ومضيق جبل طارق، ومن جبل طارق انتقل طارق بن زياد إلى منطقة واسعة تسمى الجزيرة الخضراء، وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس، وهو حامية جيش النصارى في هذه المنطقة فلم تكن قوة كبيرة، وكعادة الفاتحين المسلمين فقد عرض طارق بن زياد عليهم: الدخول في الإسلام ويكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترككم وأملاككم، أو دفع الجزية ونترك لكم أيضا ما في أيديكم، أو القتال، ولن نؤخركم إلا لثلاث، لكن تلك الحامية أخذتها العزة وأبت إلا القتال، فكانت الحرب وكانت سجالا بين الفريقين حتى انتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيم تلك الحامية رسالة عاجلة إلى لذريق وكان في طليطلة عاصمة الأندلس، يقول له فيها: أدركنا يا لذريق؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟!

    حقا فهم أناس غريبون، فقد كان من المعروف عندهم أن الفاتح أو المحتل لبلد آخر إنما تقتصر مهمته على السلب والنهب لخيرات البلد، والذبح والقتل في كثير من الأحيان، أما أن يجدوا أناسا يعرضون عليهم الدخول في دينهم ويتركون لهم كل شيء، أو أن يدفعوا لهم الجزية وأيضا يتركون لهم كل شيء، فهذا مما لم يعهدوه من قبل في تاريخهم وفي حياتهم، وفضلا عن هذا فقد كانوا في قتالهم من المهرة الأكفاء، وفي ليلهم من الرهبان المصلين، فلم يدري قائد الحامية في رسالته إلى لذريق أهُم من أهل الأرض، أم هم من أهل السماء؟! وصدق وهو كذوب؛ فهم من جند الله ومن حزبه

    [أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] {المجادلة:22} .

    موقعة وادي برباط وفتح الأندلس

    حين وصلت رسالة قائد الحامية إلى لذريق جن جنونه، وفي غرور وصلف جمّع جيشا قوامه مائة ألف من الفرسان، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيش المسلمين، كان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جلهم من الرّجّالة وعدد محدود جدا من الخيل، فلما أبصر أمر لذريق وجد صعوبة جدا في هذا القياس، سبعة آلاف أمام مائة ألف، فأرسل إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين رجالة أيضا، وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد جيش المسلمين اثني عشر ألف مقاتل، وبدأ طارق بن زياد يستعد للمعركة، فكان أول ما صنع بحث عن أرض تصلح للقتال حتى هداه البحث إلى منطقة تسمى في التاريخ وادي البرباط، وتسمى في بعض المصادر وادي لُقّة أو لِقة بالكسر، وتسميها بعض المصادر أيضا وادي لُكّة،

    ولقد كان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد استراتيجية وعسكرية عظيمة، فقد كان من خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حمى ظهره وميمنته فلا يستطيع أحد أن يلتف حوله، وكان في ميسرته أيضا بحيرة عظيمة فهي ناحية آمنة تماما، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي (أي في ظهره) فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك؛ حتى لا يباغت أحد ظهر المسلمين، ومن ثم يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، ومن بعيد جاء لذريق في أبهى زينة، يلبس التاج الذهبي والثياب الموشاة بالذهب، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يجره بغلين، فلم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى وهو في لحظات الحروب والقتال، وقدم على رأس مائة ألف من الفرسان، وجاء معه بحبال محملة على بغال؛ لتقييد المسلمين بها وأخذهم عبيدا بعد انتهاء المعركة، وهكذا في صلف وغرور ظن أنه حسم المعركة لصالحه؛ فبمنطقه وبقياسه أن اثني عشر ألفا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة، وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض مصدر الإمداد.

    وفي الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة يتم اللقاء في وادي برباط، وتدور معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخل في قلبه الشفقة حقا على المسلمين الذين لا يتعدى عددهم الاثني عشر ألفا وهم يواجهون مائة ألف كاملة، فبمنطق العقل كيف يقاتلون فضلا عن أن يَغلبوا؟!

    بين الفريقين

    رغم المفارقة الواضحة جدا بين الفريقين إلا أن الناظر المحلل ليرى أن الشفقة كل الشفقة على جيش المائة ألف، فالطرفان [خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ]{الحج:19} وشتان بين الخصمين، شتان بين فريق خرج طائعا مختارا، راغبا في الجهاد، وبين فريق خرج مُكرها مضطرا مجبورا على القتال، شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد، مسترخصا الحياة من أجل عقيدته، متعاليًا على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا، أسمى أمانيه الموت في سبيل الله، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئا، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد، شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفا واحدا كصفوف الصلاة، الغني بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والحاكم بجوار المحكوم، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضا ويستعبد بعضهم بعضا، فهذا فريق يقوده رجل رباني طارق بن زياد يجمع بين التقوى والحكمة، وبين الرحمة والقوة، وبين العزة والتواضع، وذاك فريق يقوده متسلط مغرور، يعيش مترفا مُنعّما بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء وقد ألهب ظهره بالسياط، هذا جيش توزع عليه أربعة أخماس الغنائم بعد الانتصار، وذاك جيش لا ينال شيئا، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور وكأنما حارب وحده، هذا فريق ينصره الله ويؤيده ربه خالق الكون ومالك الملك سبحانه وتعالى، وذاك فريق يحارب الله ربه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه سبحانه وتعالى، وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا، فعلى من تكون الشفقة إذن؟! على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى: [كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {المجادلة:21} . على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى: [وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] {النساء:141} . فالمعركة إذن باتت وكأنها محسومة قبلا.

    وادي برباط وشهر رمضان

    هكذا وفي شهرمضان بدأت معركة وادي برباط الغير متكافئة ظاهريا والمحسومة بالمنطق الرباني، بدأت في شهر الصيام والقرآن، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات، ولكن وللأسف تحول هذا الشهر الآن إلى موعد مع الزمن لإنتاج أحدث المسلسلات والأفلام وغيرها، تحول إلى نوم بالنهار وسهر بالليل لا للقرآن أو للقيام، ولكن لمتابعة أو ملاحقة المعروضات الجديدة على الفضائيات وغير الفضائيات، تحول إلى شهر المراوغة من العمل، وقد كان المسلمون ينتظرونه للقيام بأشق الأعمال وأكدّها، تحول إلى شهر الضيق وافتعال المضايقات، وهو شهر الصبر والجهاد وتهذيب للنفس، ففي هذا الشهر الكريم وقبل العيد بيوم أويومين - وهكذا كانت أعياد المسلمين - وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين، والمسلمون صابرون صامدون

    [رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23} .

    وعلى هذا الحال ظل الوضع طيلة ثمانية أيام متصلة انتهت بنصر مؤزّر للمسلمين بعد أن علم الله صبرهم وصدق إيمانهم، وقتل لذريق وفي رواية أنه فر إلى الشمال، لكنه اختفى ذكره إلى الأبد، وقد تمخض عن هذه المعركة عدة نتائج كان أهمها:

    1- طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقي والتحضر من تاريخ الفتح الإسلامي.

    2- غنم المسلمون غنائم عظيمة كان أهمها الخيول، فأصبحوا خيّالة بعد أن كانوا رجّالة.

    3- بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفا، وانتهت المعركة وعددهم تسعة آلاف، فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف شهيد رووا بدمائهم الغالية أرض الأندلس، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس، فجزاهم الله عن الإسلام خيرا.

    طارق بن زياد وقضية حرق السفن

    قبل الانتقال إلى ما بعد وادي برباط كان لا بد لنا من وقفة أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرا في التاريخ الإسلامي بصفة عامة والتاريخ الأوروبي بصفة خاصة، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط مباشرة.

    فما حقيقة ما يقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يحمس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيوف.

    في حقيقة الأمر فإن هناك من المؤرخين من يؤكد صحة هذه الرواية، ومنهم من يؤكد بطلانها، والحق أن هذه الرواية من الروايات الباطلة التي أُدخلت إدخالاً على تاريخ المسلمين، وذلك للأسباب الآتية:

    أولا: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي، فعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل الذي تميز به المسلمون عن غيرهم يحيلنا إلى أن الرواية الصحيحة لا بد أن تكون عن طريق أناس موثوق فيهم، وهذه الرواية لم ترد أبدا في روايات المسلمين الموثوق في تأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط.

    ثانيا: أنه لو حدث فعلا إحراق لهذه السفن كان لا بد أن يحدث رد فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارا عن هذه الواقعة، فكان لا بد أن يكون هناك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، ولا بد أن يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك، وأيضا لا بد أن يكون هناك تعليق من علماء المسلمين: هل يجوز هذا الفعل أم لا يجوز؟ وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي رد فعل من هذا القبيل؛ مما يعطي شكا كبيرا في حدوث مثل هذا الإحراق.

    ثالثا: أن المصادر الأوروبيّة قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوروبيين لم يستطيعوا تفسير كيف انتصر اثنا عشر ألفا من المسلمين الرجّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وعقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألفوها؟!

    ففي بحثهم عن تفسير مقنع لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارقا قام بإحراق سفنه لكي يضع المسلمين أمام إحدى هاتين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قبل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقق؛ ومن ثم فلم يكن هناك حلا لهذه المعادلة الصعبة إلا بالاستماتة في القتال للهروب من الموت المحيط بهم، فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، أما إذا كانت الظروف طبيعية لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.

    وهكذا فسّر الأوروبيين النصارى السر الأعظم في انتصار المسلمين في وادي برباط، وهم معذورون في ذلك؛ فهم لم يُجربوا ولم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى والتي تقول:

    [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:249}.

    فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلة على أعدائهم الكثيرين، بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد فتكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وذلك هو ما حدث يوم حنين [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25} .

    ومن هنا فقد حاول الأوروبيون على جهل منهم وسوء طوية أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحجة الواهية حتى يثبتوا أن النصارى لم يُهزموا في ظروف متكافئة، وأن المسلمين لم ينتصروا إلا لظروف خاصة جدا.

    رابعا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل هذا الحماس التي تُحرّق فيه سفنهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف- وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر أصلا؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثم فلا حاجة لهم بقائد يحمسهم بحرق سفنهم وإن كان هذا يعد جائزا في حق غيرهم.

    خامسا: ليس من المعقول أن قائدا محنكا مثل طارق بن زياد رحمه الله يقدم على إحراق سفنه وإحراق خط الرجعة عليه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة وهو أمر وارد وطبيعي جدا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرة على المسلمين خاصة وهم يعلمون قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] {الأنفال:15،16}

    فهناك إذن احتمال من أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إما متحرفين لقتال جديد، وإمّا تحيزا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الأفريقي، فكيف إذن يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟!

    ومن هنا فإن مسألة حرق السفن هذه تعد تجاوزا شرعيا كبيرا لا يقدم عليه من هو في ورع وعلم طارق بن زياد رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحكّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.

    سادسا: وهو الأخير في الرد على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها كان قد أعطاها له يوليان صاحب سبتة بأجرة ليعبر عليها ثم يعيدها إليه بعد ذلك فيعبر بها هو (يوليان) إلى إسبانيا كما وضحنا سابقا، ومن ثم فلم يكن من حق طارق بن زياد إحراق هذه السفن.

    لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مختلقة، وما أُشيعت إلا لتهون من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.

    طارق بن زياد بعد وادي برباط

    بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي برباط ورغم فقدهم ثلاثة آلاف شهيد، وجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لما كان يراه من الأسباب الآتية:

    1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفا على مائة ألف، وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.

    2- وفي مقابل ذلك ما كان من أثر الهزيمة القاسية على القوط النصاري، والتي جسدت انعدام تلك الروح وفقدانها تماما

    3- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قتل من القوط النصارى وتفرق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكان كبير.

    4- وجد طارق بن زياد أن كون لذريق المستبد بعيدا عن الناس وعن التأثير فيهم؛ وذلك كونه قُتل أو فر، وكون الناس له كارهين- وجد أن في هذا فرصة كبيرة لأن يُعلّم الناس دين الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فقد يقبلوه ويدخلون فيه.

    5- لم يضمن طارق بن زياد أن يظل يوليان صاحب سبتة على عهده معه مستقبلا؛ ومن ثم فعليه أن ينتهز هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملا الفتح.

    ولهذه الأسباب فقد أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتجه شمالا لفتح بقية بلاد الأندلس، فاتجه إلى إشبيلية وكانت أعظم مدن الجنوب على الإطلاق، وكانت تتميز بحصانتها وارتفاع أسوارها وقوة حاميتها، لكن رغم كل هذا فقد تحقق فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه البخاري عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً .

    ففتحت المدينة أبوابها للمسلمين دون قتال، وصالحت على الجزية، ولا بد هنا وقبل استكمال مسيرة الفتح من وقفة مع مصطلح الجزية لبيان كنهه وحقيقته.

    الجزية في الإسلام

    لم يكن المسلمون بدعا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمر حدث كثيرا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، ودعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب، حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلا صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وهذا فيه إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنه وبيانه فيما يلي:

    أولا: تعريف الجزية

    الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي) بمعنى جَزاهُ بما صنع، تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه، والجزية مشتق من المجازاة على وزن فِعلة، بمعنى أنهم أعطوها جزاءَ ما مُنحوا من الأمن.

    وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة، ويدفعها المجوس والمشركون في آراء بعض الفقهاء الغالبة، نظير أن يدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ترد إليهم جزيتهم وقد تكرر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرا.

    ثانيا: على من تُفرض الجزية:

    من رحمة الإسلام وعدله أن خص بالجزية طائفة ومنعها عن آخرين، فهي:

    - تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.

    - تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ على الأطفال.

    - تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ على المرضى وأصحاب العاهات الغير قادرين على القتال.

    - تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير، بل إن الفقير من أهل الكتاب (النصارى واليهود) والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين إن كانوا
    في بلد يحكم فيها بالإسلام.

    فهي تؤخذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ من القادرين الذين تفرغوا للعبادة.

    ثالثا: قيمة الجزية

    لا حظ إذن لمن طعن في أمر الجزية وقال بأنها من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب، خاصة حين يعلم أنها تُدفع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون، بل ما الخطب إذا علم أن قيمة الجزية هذه أقل بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟

    في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كان قيمة ما يدفعه الفرد (ممن تنطبق عليه الشروط السابقة) من الجزية للمسلمين هو دينارا واحدا في السنة، بينما كان المسلم يدفع 5ر2% من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، و في حالة إسلام الذمي تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية، تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم؛ فهناك من يدفع 10 و20% ضرائب، بل هناك من يدفع 50 وأحيانا 70% ضرائب على ماله، بينما في الإسلام لا تتعدى الزكاة 5ر2% ، فالجزية كانت أقل من الزكاة المفروضة على المسلمين، وهي بهذا تعد أقل ضريبة في العالم، بل كانت أقل بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحكم أنفسهم على شعوبهم وأبناء جلدتهم.

    وفوق ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يُكلّف أهل الكتاب فوق طاقاتهم، بل توعّد صلى الله عليه وسلم من يظلمهم أو يُؤذيهم فقال في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود والبيهقي في سننهما: أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه يوم القيامة.

    يتبع....
    أنا الشمس في جو العلوم منيرة**ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
    إمام الأندلس المصمودي الظاهري

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    سياتل..ولاية واشنطن ..
    المشاركات
    977

    افتراضي رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    الفصل الثالث: عهد الولاة

    طارق بن زياد يتجه فاتحا نحو الشمال

    توجه طارق بن زياد بعد فتح أَشبيليّة إلى مدينة أَسْتُجّة، و هي أيضا من مدن الجنوب، وفي أستجة قاتل المسلمون قتالا عنيفا، لكنه - بلا شك - أقل مما كان في وادي برباط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قواتهم في موقعة وادي برباط، وقبل أن ينتصر المسلمون في آواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وقالوا قد صالحنا على الجزية.

    وثمة فارق كبير جدا بين أن يصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحا (أي بالقتال) لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمّا إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يظلون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي كانت تقدّر آنذاك بدينار واحد في العام كما وضحنا سابقا.

    ومن أستجة وبجيش لا يتعدى التسعة آلاف رجل يبدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وينطلق هو بقوة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال حتى يصل إلى طُلَيْطِلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، فقد بعث بسرية إلى قرطبة، وسرية إلى غِرناطة، وسرية إلى مَالْقة، وسرية إلى مُرْسِيَه، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلة على مضيق جبل طارق، وكان كل من هذه السرايا لا يزيد عدد الرجال فيها عن سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قرطبة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدى السبعمائة رجل [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17}. ثم ظل طارق بن زياد رحمه الله متوجها ناحية الشمال حتى وصل إلى مدينة جَيّان وهي من مدن النصارى الحصينة جدا.

    طارق بن زياد على أعتاب طُليطلة

    كان موسى بن نصير رحمه الله الذي اتسم بالحكمة والأناة كان قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جَيّان أو لا يتجاوز مدينة قرطبة، و أمره ألا يسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طليطلة حتى لا يحوطه جيش النصارى.

    لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق أمامه مفتوحًا، ووجد أن الطريق إلى طليطلة ليس فيه من الصعوبة شيء؛ فاجتهد برأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طليطلة العاصمة، وقد كانت تعد أحصن مدن النصارى على الإطلاق، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يكتنف النصارى فيها ضعفا شديدا لا يستطيعون معه مقاومة جيش المسلمين فقد يتمكن من فتحها، الأمر الذي قد يتعذر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها.

    وكان الأفضل في هذا الأمر أن يستشير طارق بن زياد موسى بن نصير في المغرب، وأن يرسل إليه ولو رسالة يشرح له فيها طبيعة الموقف، وأن الطريق مهيأ أمامه لفتح طليطلة، ويستوضح رأيه ورده في ذلك.

    أما طارق بن زياد فقد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير، وكان موسى بن نصير قد علم بتقدم طارق لفتح طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق به فيكون مددا له.

    كانت مدينة طليطلة من أحصن مدن الأندلس، بل هي أحصن مدينة في الأندلس؛ فقد كانت محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أما الجهة المفتوحة وهي الجنوب فعليها حصن كبير جدا.

    ومع ذلك فقد فتحت أبوابها لطارق بن زياد وصالحت على الجزية.


    موسى بن نصير يأمر طارقا بالكف عن الفتوحات ويجهز نفسه لمدده

    تقدم طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم ينل قبولا لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهورا كبيرا لا يُؤْمن عواقبه، وكان قد عُرف عن موسى بن نصير الأناة والحكمة والصبر في كل فتوحاته في شمال أفريقيا حتى وصل إلى المغرب، ومن ثم فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكف عن الفتح وبالانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتف حوله الجيوش النصرانية.

    وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعد العدة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجهز من المسلمين ثمانية عشر ألفا.

    ولكن من أين جاءوا وقد كان جيش الفتح لا يتعدى الاثنا عشر ألفا؟!

    وذلك أن الناس من مشارق الأرض و مغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادا، فقد كان جل الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من البربر، أما هؤلاء الثمانية عشر ألفا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المفاوز البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرة ومددا لطارق بن زياد.

    موسى بن نصير وأعمال عظام في طريقه إلى طارق بن زياد

    عبر موسى بن نصير بجيشه إلى بلاد الأندلس وكان ما توقعه؛ فقد وجد أن النصارى قد نقضوا عهدهم مع طارق في أَشبيليّه، وهي المدينة الحصينة الكبيرة التي كانت قد صالحت طارقا على الجزية، وكانوا قد جهّزوا العدة كي يأتوا طارقا من خلفه، ولكن يُقدّر الله أن يفاجَئوا بجيش موسى بن نصير رضي الله عنه وهو قادم فيحاصر أشبيليه.

    كان موسى بن نصير قائدا محنّكا، له نظرة واعية وبُعد نظر ثاقب، ولم يكن يومًا كما يدعي أناس أنه عطّل طارق بن زياد عن الفتح حسدا أن ينسب إليه وحده فتح بلاد الأندلس، ومن ثم أراد أن يُشْرَك في الأمر معه.

    فإن طارق بن زياد من عمال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تعد في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، وقد كان أقصى مراد موسى بن نصير هو النصر لجيش المسلمين وعدم الهلكة له بعيدا عن أرضه. ومن ثم فقد قدم موسى بن نصير وحاصر أشبيليه حصارا شديدا غاب مداه شهورا حتى فتحت أبوابها أخيرا، ثم جوّزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد وليس أخذ النصر أو الشرف منه.

    واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَرْدَه، كل هذا وطارق بن زياد في طليطلة ينتظر قدومه، وكانت مرده هذه من المناطق التي تجمّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارا بلغ مداه أيضا شهورا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، فهكذا كانت تمر الأعياد على المسلمين.

    لم يكتف موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير رضي الله عنهم الذي تربى كأبيه وجده على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغل عبد العزيز في الغرب كثيرا، حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس والتي تسمى حاليا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لشبونة وفتحها ثم فتح البلاد التي في شمالها، وبهذا يُعد عبد العزيز بن موسى بن نصير فاتح البرتغال.

    موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح

    ذكرت بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنفه ووبّخه، بل تذكر أنه قيّده وضربه بالسوط. والحقيقة أن مثل هذا لم يأت إلا من خلال الروايات الأوروبية فقط، وهو لم يحدث على الإطلاق، والذي حدث أن موسى بن نصير قد عنّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قرطبة أو جيّان واستمراره حتى طليطلة كما ذكرنا، وقد كان تعنيفا سريعا إلا أنه كان لقاء حارا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة وحتى ذي القعدة سنة أربع وتسعين.. فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصل إلى طليطلة عاما كاملا، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارق في نفس المكان عاما كاملا.

    وبعد اللقاء اتحدا سويا واتجها معا إلى فتح منطقة الشمال والشمال الشرقي والشمال الغربي، فبدآ بمنطقة الشمال ومرّا بمناطق عدة، كان منها على سبيل المثال منطقة برشلونة ففتحاها سويا (الكثير لا يعلم عن برشلونة إلا أن هذا اسم فريق كرة قدم متميز، ولم يدر بخلده أنه في يوم ما كان قد دخلها المسلمون الفاتحون وحكّموا فيها شرع الله سبحانه وتعالى).

    وهكذا كانت همم الأجداد المسلمين التي ناطحت السحاب، فقد اتجها بعد ذلك سويا إلى مدينة سَرَقُسْطَة وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها، واتجها أيضا إلى منطقة شمال الوسط، ثم إلى الشمال الغربي.

    وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعمل يُحسد عليه؛ فقد أرسل سرية خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه ثم وصلت إلى مدينة تُسمّى أربونة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواة لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.

    وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظل المسلمون يفتحون مدن الأندلس المدينة تلو الأخرى حتى تم الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلا منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بيليه، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي.

    ففي زمن قُدّر بثلاث سنوات ونصف السنة، ابتدأ من سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، وانتهى في آخر سنة خمس وتسعين من الهجرة كان قد تم للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس خلا صخرة بيليه هذه، ورغم أن المسلمين حاصروها حصارا طويلا إلا أنهم لم يستطعوا أن يفتحوها، وعزم موسى بن نصير رحمه الله على أن يتم فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، إلا أنه حدث ما لم يجل بخاطره.

    رسالة الوليد بن عبد الملك ووقف الفتوحات

    من أقصى بلاد المسلمين من دمشق من أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، أمر عجيب وغريب! حزن له موسى بن نصير وأسف أشد الأسف، لكن لم يكن بُدّا من الاستجابة والعودة كما أُمر.

    ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب؟! ولماذا كان في هذا التوقيت بالذات؟! إلا أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك، وكان ما يلي:

    1- كان الوليد بن عبد الملك يشغله همّ توغل المسلمين بعيدا عن ديارهم، فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة، وقد رأى أن المسلمين توغلوا كثيرا في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها، فأراد ألا يتوغل المسلمون أكثر من هذا.

    2- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك جعله يُصرّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، وهو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب.

    كانت القسطنطينية قد استعصت على المسلمين من الشرق، وكثيرا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفّق في فتحها. وهنا فكر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوروبا، فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب،

    أي أنه سيتوغل بالجيش الإسلامي في عمق أوروبا منقطعا عن كل مدد. فأرعب هذا الأمر الوليد بن عبد الملك، وفكر فيما لو احتاج هذا الجيش إلى مدد؟ فالمدد على بعد شهور منه، ويفصل بينه وبين بلاد المسلمين بحار وجبال وأراض واسعة، فخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة وعجل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد.

    هِمّة عالية

    وهنا لا بد لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمّة العالية التي كانت بادية عند موسى بن نصير، خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يفكر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسة وسبعين سنة.

    فلله دره.. شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله ويركب الخيول ويفتح المدينة تلو المدينة، يحاصر أشبيليّة شهورا ويحاصر مرده شهورا، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثمّ يتجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة فيحاصرها، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينيّة.

    أي همّة هذه التي عند هذا الشيخ الكبير التي تجعله يفعل كل هذا ويؤمّل لهذا التفكير وسنه خمس وسبعون سنة! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا سنه أو أقل منه وظنوا أنهم قد (خرجوا على المعاش) وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا، فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنته بعد، فمن لتعليم الأجيال؟! ومن لتوريث الخبرات؟! ومن لتصحيح المفاهيم؟!

    فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز أكثر من ستين سنة، أي تجاوز سن المعاش في زمننا هذا، ثم وهو في سن الخامسة والسبعين يحزن حزنا شديدا ولكن على ماذا كان حزنه؟

    حزن أولا على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه أرض الجهاد، فقد كان متشوقا جدا له؛ ليتعرض للشهادة لكنها لم تصبه. ثم حزن ثانيا حزنا شديدا لأن الصخرة لم تفتح بعد، ثم حزن ثالثا وكان حزنه أشد لأنه لم يستكمل حلم فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى.

    عودة وأُمنية..

    لم يجد موسى بن نصير إلا أن يسمع و يطيع لأمر الوليد بن عبد الملك، فأخذ طارق بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام حتى مات وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن الملك، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق خوفا على هلكة جيش المسلمين في توغله داخل بلاد أوروبا نحو القسطنطينية.

    وبعد عام من قدوم موسى بن نصير وسنة سبع وتسعين من الهجرة كان سليمان بن عبد الملك ذاهبا إلى الحج، الأمر الذي وافق اشتياقا كبيرا من قِبَل موسى بن نصير؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال أفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يعد فيها مرة واحدة، فما كان منه إلا أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحج في ذلك العام.

    وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير: اللهم إن كنت تريد ليَ الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد، وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد ليَ غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم. ووصل رضي الله عنه إلى الحج، وبعد حجه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دفن مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

    وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب الموصولين برب العالمين، بلغ من العمر عِتِيّا إلا أنه قَدّم أكثر مما عاش، ظل قلبه معلقا بحب ربه سبحانه وتعالى حتى دعاه فكانت الخاتمة وكانت الإجابة، عاش بين الأسنّة في أقصى بلاد الأندلس إلا أنه مات بعد الحج في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلله دره من قائد وقدوة.

    أما رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كلية عند هذه المرحلة عند عودته إلى دمشق مع موسى بن نصير، ولا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى الأندلس أم بقي في دمشق؟! وإن كان هناك بعض الروايات التي لم يتوثق من صحتها تقول أنه توفي سنة مائة واثنتين أي بعد العودة من الأندلس بخمس أو ست سنين تقريبا، لكن لم يعرف أفي دمشق أم في غيرها.

    الصخرة.. والدرس الصعب

    عاد موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس بعد أن تخطى المسلمون بلاد الأندلس ووصلوا بفتوحاتهم إلى غرب فرنسا، إلا أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يوم ما وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعد، وصاحبة اليد الطولى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون.

    تلك هي منطقة الصخرة التي لم يستكمل المسلمون فتحها وتهاونوا فيها، وكان فيها طائفة كبيرة من النصارى، و أغلب الظن أنه لو كان موسى بن نصير أو طارق بن زياد في هذا المكان ما تركوها، إلا أننا نستطيع أن نقول: إن التهاون في أمر بسيط جدا قد يؤدي إلى ويلات عظيمة على مرور الزمن، فلا بد أن يأخذ المسلمون كل أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة إلا في استكمال النهايات على أتمها.

    انتهاء عهد الفتح

    برجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق تكون قد انتهت فترة هي من أهم الفترات في تاريخ الأندلس، وقد أُطلق عليها في التاريخ عهد الفتح؛ حيث إن تاريخ الأندلس يُقسّم إلى فترات أو عهود بحسب طريقة الحكم وبحسب نظام المُلك في هذه الفترات، وعهد الفتح هذا كان قد بدأ سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، وانتهى سنة ست وتسعين من الهجرة أو أواخر خمس وتسعين.

    وبهذا يكون عهد الفتح قد ظل ثلاث سنوات ونصف السنة فقط، وهذا بحساب كل العسكريين يُعدّ معجزة عسكريّة بكل المقاييس، معجزة عسكرية أن تفتح كل هذه البلاد بكل الصعوبات الجغرافيّة التي فيها من جبال وأنهار وأرض مجهولة للمسلمين، معجزة عسكرية أن يتمكن المسلمون في ثلاث سنوات ونصف فقط من السيطرة على بلاد الأندلس خلا هذه المنطقة الصغيرة في أقصى الشمال الغربي والتي تسمى منطقة الصخرة أو صخرة بليه، معجزة عسكرية لم توجد إلا في تاريخ المسلمين.

    عهد الولاة

    بعد انتهاء عهد الفتح السابق يبدأ عهد جديد في تاريخ الأندلس يسمى في التاريخ عهد الولاة، وهو يبدأ من سنة ست وتسعين من الهجرة ويستمر مدة اثنين وأربعين عاما حيث ينتهي سنة مائة وثمان وثلاثين من الهجرة.

    وعهد الولاة يعني أن حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولاه واليا يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق.

    كان أول الولاة ولاية على الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير وذلك بأمر من سليمان بن عبد الملك رحمه الله، وكان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه، كان يقول عنه أبوه موسى بن نصير: عرفته صوّاما قوّاما. فحكم الأندلس ووطّد فيها الأركان بشدة، وتوالى من بعده الولاة.

    إذا نظرنا إلى عهد الولاة الذي استمر اثنين وأربعين عاما نرى أنه قد تعاقب فيها على حكم الأندلس اثنين وعشرون واليا.. أو عشرون واليا تولى منهم اثنان مرتين.. فيصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنين وعشرين فترة خلال اثنتين وأربعين سنة، أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.

    ولا شك أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثّر تأثيرا سلبيا على بلاد الأندلس، إلا أن هذا التغيير المتتالي كان له ما يبرره؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثير من الولاة الذين يستشهدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، وبعد مرحلة ما كان هناك أيضا كثير من الولاة الذين يُغيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك.

    أي أن هناك فترتين من عهد الولاة، الفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية، ومن هنا نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيسيتين، الفترة الأولى وهي فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتد من بداية عهد الولاة من سنة ست وتسعين من الهجرة، وحتى سنة مائة وثلاثة وعشرين من الهجرة، أي سبع وعشرين سنة.

    أما الفترة الثانية فهي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، وتستمر من سنة مائة وثلاثة وعشرين من الهجرة وحتى سنة مائة وثمانية وثلاثين من الهجرة، أي مدة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كل منهم، وإنما سنقتصر فقط على بعض الولاة لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه.

    الفترة الأولى
    بصفة إجمالية فقد تميزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعدة أمور، كان من أهمها:

    1- نشر الإسلام في بلاد الأندلس

    وذلك أن المسلمين بعد أن تمكنوا من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعلمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفته، واختارته بلا تردد.

    وجد الأسبان في الإسلام دينا متكاملا شاملا ينتظم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضعا كبيرا جدا للقادة، ووجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، وجدوا فيه كيفية التعامل مع العدو والأسير، مع من تعرف ومن لا تعرف.

    لقد تعود الأسبان فصلا كاملا بين الدين والدولة، فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرد مفاهيم لاهوتيه غير مفهومه، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم فيشرع لهم من يحكمهم وفق هواه وما يراه، أما في الإسلام فقد وجدوا الأمر غاية في الاختلاف؛ فلم يستطيعوا أن يتخلفوا عن الارتباط به والانتساب إليه فدخلوا فيه أفواجا.

    وفي فترة قليلة جدا أصبح عموم أهل الأندلس (السكان الأصليين) يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والبربر قلة بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتجهوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

    2- نشأة جيل المولّدين

    كان من جرّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين أن نشأ جيل جديد عُرف باسم جيل المولَّدين، فقد كان الأب عربي أو بربري والأم أندلسية.

    3- إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية

    ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس حتى كان يقف الحاكم والمحكوم سواء بسواء أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريّة العقائدية للناس، فتركوا للنصارى كنائسهم، وما هدموها أبدا، وما كانوا يحولونها إلى مساجد إلا إذا وافق النصارى على بيعها لهم، وكان بيع الكنائس للمسلمين يقدّر بأثمان باهظة، أما إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم . فلنلاحظ أن ذلك والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين، ولنعي هذا الأمر جيدا ولنقارن صنيع المسلمين هذا بما سيفعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس فيما عُرف باسم محاكم التفتيش الأسبانية.

    4- الاهتمام بالحضارة المادية

    اهتم المسلمون في هذه الفترة كذلك بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية، فأسسوا الإدارة وأقاموا العمران وأنشأوا القناطر والكباري، ومما يدل على براعتهم في ذلك تلك القنطرة العجيبة التي تسمى قنطرة قرطبة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون ديارا كبرى للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.

    5- تقليد الأسبان للمسلمين في كل شيء

    كان من السمات المميّزة أيضا في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية التي يتكلمها الفاتحون، بل كان الأسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.

    6- اتخاذ المسلمين قرطبة عاصمة لهم

    كذلك كان من ضمن السمات المميزة لهذه الفترة أن اتخذ المسلمون قرطبة عاصمة لهم؛ فقد كانت طليطلة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن المسلمون وجدوا أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة وهما من مصادر الخطر عليهم، فرأوا أن طليطلة بذلك مدينة غير آمنة ومن ثم فلا يمكن أن تكون هي العاصمة، فكان أن اختاروا مدينة قرطبة في اتجاه الجنوب لانتفاء الأسباب السابقة، وأيضا حتى تكون قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.

    7- الجهاد في فرنسا

    الجهاد في فرنسا كان من أهم السمات المميزة جدا لهذه الفترة الأولى من عهد الولاة، وقد كانت له خطوات كبيرة جدا في هذه الفترة، ونذكر هنا بعض الولاة الذين كان لهم سبق وظهور حاضر في عملية الجهاد في بلاد فرنسا، فكان منهم على سبيل المثال:

    السمح بن مالك الخولاني

    من حسنات الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولاية السَّمْح بن مالك الخولاني رحمه الله على الأندلس، فقد حكم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه المسلمين سنتين ونصف على الأكثر، من سنة تسع وتسعين إلى سنة واحد ومائة من الهجرة، وفي هذه الفترة الوجيزة عمّ الأمن والرخاء والعدل كل بلاد المسلمين، اختار عمر بن عبد العزيز رحمه الله السمح بن مالك الخولاني، ذلك القائد الربّاني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو القائد الذي انطلق إلى بلاد فرنسا مجاهدا، كان بفرنسا مدينة إسلامية واحدة هي مدينة أربونة، تلك التي فتحها موسى بن نصير رحمه الله بسرية من السرايا، لكن السمح بن مالك الخولاني فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، ثم أسّس مقاطعة ضخمة جدا وهي مقاطعة سبتمانيا، وتسمى الآن بساحل الريفييرا، وتعد من أشهر المنتجعات السياحية في العالم.

    أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا، وفي ذات الوقت أرسل يعلم الناس الإسلام، سواء في فرنسا أو في الأندلس إلى أن لقي ربه شهيدا يوم عرفة سنة اثنتين ومائة من الهجرة.

    عنبسة بن سحيم

    تولى بعد السمح الخولاني بعض الولاة نتجاوزهم حتى نصل إلى عنبسة بن سحيم رحمه الله، وكان عنبسة قائدا تقيًا ورعًا، وهو الإداري العسكري المشهور، كان مجاهدًا حق الجهاد، وقد حكم بلاد الأندلس من سنة ثلاث ومائة إلى سنة سبع ومائة من الهجرة، وقد وصل عنبسة في جهاده إلى مدينة سانس، وهي تبعد عن العاصمة باريس بنحو ثلاثين كيلو مترا، وباريس هذه ليست في وسط فرنسا وإنما تقع في أقصى الشمال منها، وهذا يعني أن عنبسة بن سحيم قد وصل إلى ما يقرب من سبعين بالمائة من أراضي فرنسا، ويعني هذا أيضا أن سبعين بالمائة من أراضي فرنسا كانت بلادًا إسلامية، وقد استشهد عنبسة بن سحيم رحمه الله وهو في طريق عودته.

    عبد الرحمن الغافقي

    بعد استشهاد عنبسة رحمه الله بدأت الأمور في التغير؛ فقد تولى حكم الأندلس من بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، كان آخرهم رجل يدعى الهيثم الكلابي، وكان عربيًا متعصبًا لقومه وقبيلته.

    ومن هنا بدأت الخلافات تدب بين المسلمين، المسلمون العرب من جهة والمسلمون البربر من جهة أخرى، خلافات بحسب العرق وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح المسلمون هذه المناطق حتى هذه اللحظة.

    لم تمر خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معارك ومشاحنات بين المسلمين العرب وبين المسلمين البربر، حتى منّ الله على المسلمين بمن قضى عليها ووحّد الصفوف من جديد، و بدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر وبين العرب، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغافقي رحمه الله.

    بعد أن وحّد عبد الرحمن الغافقي المسلمين وتيقن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل ثم مدينة بودو (وهي موجودة الآن) ثم مدينة طلوشة ثم مدينة تور ثم وصل إلى بواتيه، وهي المدينة التي تسبق باريس مباشرة، والفارق بينها وبين باريس حوالي مائة كيلو متر تقريبا إلى الغرب منها، وبينها وبين قرطبة حوالي ألف كيلو متر، أي أنه توغل كثيرًا جدًا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي.

    وفي مدينة بواتيه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تسمى البلاط (البلاط في اللغه الأندلسية تعني القصر)، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعد حملة عبد الرحمن الغافقي هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا.

    سلبيات وعوامل الهزيمة

    رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغافقي تلك إلا إنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه، ومن ثم فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثقل في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المجاهدون ينظرون إلى هذه الغنائم ويفتنون بهذه الأموال الضخمة التي حصّلوها.

    ونتيجة هذا فقد اشتهر بين الناس فكرة العودة إلى بلاد الأندلس لحفظ هذه الغنائم هناك حتى لا يحصل عليها الفرنسيون، لكن عبد الرحمن الغافقي رحمه الله جمع الناس وقال مخاطبا إياهم: ما جئنا من أجل هذه الغنائم، وما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى، وأخذ يحفزهم على الجهاد والموت في سبيل الله، ثم انطلق بالجيش إلى بواتيه رغما عن أنف الجنود.

    عندما وصل عبد الرحمن الغافقي بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجددت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه معروف ومتفق عليه، أخذ كلّ ينظر إلى ما بيد الآخر، وكلّ يريد الأكثر، يقول العرب أنهم أحق لأفضليتهم، ويقول البربر نحن الذين فتحنا البلاد، ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرقوا أبدًا بين عرب وبربر، بل وبينهم وبين من دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك،

    وإضافة إلى العصبية وحب الغنائم والحرص عليها فقد اجتمع إلى جوارهما الزهو والاغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفا من المجاهدين عدد لم يسبق في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزة، وظنوا أنهم لن يغلبوا بسبب كثرتهم هذه، ومن بعيد تلوح في الأفق حُنينًا جديدة [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25} فالمسلمون لم ينتصروا أبدًا بعدتهم ولا عتادهم، وإنما كانوا ينتصرون بطاعتهم لله ومعصية عدوهم له سبحانه وتعالى، وللأسف الشديد فرغم وجود هذا القائد الرباني التقي الورع إلا أن عوامل الهزيمة داخل الجيش الإسلامي كانت كثيرة وأقوى منه.

    بلاط الشهداء.. أشرس المعارك الإسلامية على الإطلاق

    ما رأينا كان حال جيش المسلمين، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل، ويطلقون عليه في العربية: قارله، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة، وكان لقّبه به بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قرطبة بنحو ألف كيلو متر كما ذكرنا قبل قليل.

    في منطقة بواتيه، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق، التقى الجمعان ودارت رحى الحرب، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقا من جهة، وجمع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة مائة وأربعة عشر من الهجرة، واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة،

    ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلة عددهم، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدءوا يسلبونها، ولأن حب الغنائم كان قد أخذ موقعا في قلوب المسلمين، فكان أن ارتبك المسلمون وأسرعوا يحموا الغنائم الكثيرة، فحدثت هزة في وحدة صف الجيش الإسلامي وارتباك شديد، كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة، موقعة بواتيه، أو موقعة بلاط الشهداء (بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة).

    لم تذكر الروايات الإسلامية حصرا دقيقا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جدًا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد حاجز الخمسين ألفا.

    وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوفين أنه لو كان انتصر المسلمون في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا جميعا، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن لم يتصر المسلمون، فلو انتصروا لكان قد انتشر الخير في هذه البلاد، لكنهم ظلوا في ضلالتهم وظلوا في غيهم يعمهون ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى ويشركون به.

    بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون، بدليل أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حيث انسحبوا، وكان من عادة الجيوش أنها تتتبع الجيش الفار، بل اكتفى النصارى بما أخذوه من غنائم وما قتلوه من قتلى من المسلمين.

    وقفة مع بلاط الشهداء

    يقول الله تعالى في كتابه الكريم: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5}. فالملاحظ أن المسلمين قد اغتروا بهذه الدنيا التي فتحت عليهم فتنافسوها، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ.

    فسنة لله تعالى في خلقه أنه إن فتحت الدنيا على المسلمين وتنافسوها كما تنافسها من كان قبلهم من الأمم السابقة، فإنها ستهلكهم أيضا كما أهلكت هذه الأمم السابقة [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا] {فاطر:43}.

    أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة وهو العنصرية والعصبيّة القبليّة التي كانت بين العرب والبربر في هذه الموقعة، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذا الذي نشأ بين العرب وبين البربر، ووعت الكتب الفرنسية هذا الأمر جيدا، وظل في ذاكرتها على مدار التاريخ حتى مرت الأيام ومرت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، وحتى سنة ألف وتسعمائة وستين ميلادية، فحين قامت الحركات الاستقلاليّة منذ سنة ألف وتسعمائة وعشرين وما بعدها، وحين فكرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة لم تجد أمامها إلا إشاعة الفتنة بين العرب والبربر وضربهم ببعضهم البعض، فكانت تشيع داخل البربر أنهم قريبون من العنصر الآري (وهو العنصر الأوروبي)، وبعيدون عن العنصر السامي (وهم العرب)، أي أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء؛ وذلك للتشابه الكبير بين البربر والأوروبيين في الشكل الخارجي الأمر الذي لا يعترف به الإسلام ولا يقره على الإطلاق فالمعيار الوحيد في التفاضل في الإسلام هو التقوى.

    ولم تكتف فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق البربر، ومنعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق أصلا؛ وذلك حتى يتم فصل البربر عن العرب تماما في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء إلا إنها لم تفلح على الإطلاق في تحويل ديانة البربر الإسلامية إلى النصرانية، فظل البربر على إسلامهم وإن كانت لغتهم قد تغيّرت، في بادئ الأمر كان البربر الذين يعيشون في منطقة الجزائر تسمى قبائل الأمازيغ، وكانوا يمثلون خمسة عشر بالمائة من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية إلا أنهم كانوا يتمسكون بالعربية، لكن حين قامت فرنسا بهذا الأمر بدأت تُذْكي الروح البربريّة في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تعلم اللغة الأمازيغية، حتى إنها أنشأت في فرنسا عام سبعة وستين وتسعمائة وألف أكاديمية خاصة لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، قامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة البربرية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من البربر لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا، حتى إنه في عام ثمانية وتسعين وتسعمائة وألف أنشأت ما يسمى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تجمع البربر من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتعلمهم اللغة الخاصة بهم، وكل ذلك لفصل العرب عن البربر، تلك الجموع التي ما هي إلا جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في وادي برباط وما تلاها فلم تتوان، وفي ذات الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد عربي، كانت هي فرنسا التي رفضت المشروع الذي تقدم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي رد عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تريد بلقنة فرنسا، أي تجعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العرق وبحسب العنصر، حلال على الجزائر حرام على فرنسا.

    يتبع...ان شاء الله
    أنا الشمس في جو العلوم منيرة**ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
    إمام الأندلس المصمودي الظاهري

  4. #4

    افتراضي رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    جزاك الله خيرا..
    وأرجو منك الإكمال.
    شمس العربيـة:
    http://myarabic.wordpress.com/

  5. #5

    افتراضي رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    أرجو منك الإكمال................ .........;
    لم أعد أصبر لكثرة تعلي بهذا التاريخ
    مع أجمل التحيات
    السلام عليكم

  6. #6

    افتراضي رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    أظنه كتاب موجود على ملف وورد.
    شمس العربيـة:
    http://myarabic.wordpress.com/

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    20

    افتراضي رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    شكرا ايها الاخوه الكرام .نريد ان امكن ان توضحوا لنا الفرق بين المهن و الحرف و الصنائع في العهد الاسلامي لان هده المصطلحات يبدوا انها تختلف فيما بينها خاصه انها وردت جميعها في المصادر الاسلامية الخاصة بتاريخ المغرب و الاندلس وجزاكم الله كل خير انتظر ردكم ايها الاخوة الكرام .

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    20

    افتراضي رد: الأندلس ...الفردوس المفقود, للدكتور راغب السرجاني..

    هل هناك فرق بين الحرف و الصنائع و المهن

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •