ترك النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأفعال هل يدل على تحريمها؟


د. ضياء الدين الصالح




سأل أحدهم سؤالاً حول ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا معينا ولم يفعله، هل يدل ذلك على منعه وتحريمه؟ والجواب عن ذلك ينطلق مما قرره العلماء أنه لابد من التفريق في باب التروك بين العادات والعبادات؛ فإن (الأصل في العادات الإباحة، بينما الأصل في العبادات التوقيف أو المنع)؛ فما عدا العبادات فالأصل فيها الحل؛ فلا يمتنع المكلف عن مطعوم، أو مشروب، أو ملبوس، أو معاملة من المعاملات، إلا أن يقوم دليل شرعي على المنع، حسب ما قُرر في القاعدة الفقهية المذكورة.
وعلى ذلك فكل عبادة فيها مظنة القربة تركها الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لها، وعدم المانع منها فتركها سنة محمودة، وفعلها لا يجوز ويدخل في باب البدعة المذمومة. والمراد بالمقتضِي، الداعي إلى الفعل والباعث عليه؛ فالباعث على فعل العبادات هو إرادة التقرب، والباعث على فعل العادات والمعاملات هو تحصيل المصلحة العامة الحقيقية وغير المتوهمة.
قاعدة مهمة
ومن القواعد التي ذكرها الشيخ بكر أبوزيد -رحمه الله تعالى- في كتابه تصحيح الدعاء قاعدة: «إذا وُجدَ المُقتضي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفقد المانع، ولم يرتب صلى الله عليه وسلم تشريعاً قولاً أو فعلاً، فإن السُّنة هي الترك تأسياً».
المقتضي لفعله
فإذا كان المقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن تركه النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته؛ فتركه لا يدل على التحريم أو المنع؛ فيجوز الفعل إذا زال المانع؛ فمثلا صلاة التراويح جماعة؛ فقد وُجد مقتضاها وهو قيام ليل رمضان قربة إلى الله -تعالى-، ولكن مع وجود المانع وهو الخوف من أن تُفرض؛ فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المانع .
وهذا الترك لا يدل على عدم جواز صلاتها جماعة إذا زال المانع؛ ولهذا عندما زال المانع بوفاته صلى الله عليه وسلم وهو مخافة فرضها أرجعها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جماعة بإمامة أبي بن كعب -رضي الله عنهما.
النداء للصلاة قربة لله
ومثال لما حدث مع قيام المقتضي له وهو النداء للصلاة قربة لله، وزوال المانع منه وتركه رسول الله صلى الله عليه وسلمهو: الأذان في العيدين، الذي أحدثه بعض الأمراء بزعم أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم له لا يدل على التحريم، وكذلك تقديمهم الخطبة على الصلاة، وقد أنكر العلماء ذلك؛ لأنه بدعة محرمة.
وعليه؛ فإن كل ما يبديه المُحدِث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا الترك سنة، مقدمة على كل عموم وكل قياس.
َزَوَالِ الْمَانِعِ
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في بيان هذه القاعدة أيضا في مجموع الفتاوى(26 / 172): «بِخِلَافِ مَا كَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ مُقْتَضٍ، أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَحَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُقْتَضَيَات ِ وَالشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ، مَا دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى فِعْلِهِ حِينَئِذٍ، كَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ النَّاسِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ، وَتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَسْمَاءِ النَّقْلَةِ لِلْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ؛ بِحَيْثُ لَا تَتِمُّ الْوَاجِبَاتُ، أَوِ الْمُسْتَحَبَّا تُ الشَّرْعِيَّةُ، إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ صلى الله عليه وسلم لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَو، وُجُودِ مَانِعٍ.
مَا تَرَكَهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ
فَأَمَّا مَا تَرَكَهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ، أَوْ أَذِنَ فِيهِ وَلَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَالصَّحَابَةُ؛ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ جَازَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مِثْلُ قِيَاسِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَا ءِ، وَالْكُسُوفِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَنْ يُجْعَلَ لَهَا أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّ ةِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَقِيَاسُ حُجْرَتِهِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَيْتِ اللَّهِ فِي الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُشْبِهُ قِيَاسَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}.
الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة
وقال الإمام أبو العباس ابن حجر الهيتمي الشافعي في الفتاوى الحديثية (1/200): «كل بِدعَة ضَلَالَة؛ فَمَعْنَاه الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة أَلا ترى أَن الصَّحَابَة -رَضِي الله عَنْهُم- وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَنْكَرُوا الأذان في غير الصَّلَوَات الْخمس كالعيدين، وَإِن لم يكن فِيهِ نهي، وكرهوا استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين، وَالصَّلَاة عقيب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة قِيَاسا على الطّواف، وَكَذَا مَا تَركه صلى الله عليه وسلم مَعَ قيام الْمُقْتَضى؛ فَيكون تَركه سنة، وَفعله بِدعَة مذمومة، وَخرج بقولنَا مَعَ قيام الْمُقْتَضى فِي حَيَاته تَركه إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب وَجمع الْمُصحف وَمَا تَركه لوُجُود الْمَانِع كالاجتماع للتراويح؛ فَإِن الْمُقْتَضى التَّام يدْخل فِيهِ الْمَانِع».

بين العادات والعبادات
الخلاصة، لقد فرق العلماء في باب التروك، أي ما ترك العمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، بين العادات والعبادات؛ فحسب القاعدة الأصولية المهمة (الأصل في العادات الإباحة، والأصل في العبادات التوقيف أو المنع).