أعظم الشبهات الفكرية حول أفعال الله -تعالى- وأوامره الشرعية


محمود طراد




لقد ثبت بالأدلة القطعية أن للكون إلهاً حكيماً مدبراً مريداً فعالاً لما يشاء، يخلق ما يشاء، قال -تعالى-: {الله خالق كل شيء} الزمر: 62 وقال -تعالى-: {إن الله يفعل ما يشاء} الحج 18 وقال -تعالى-: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} السجدة: 5، وعدم الاعتراف بذلك يحول الحياة إلى عبث في الوجود وعبث في النهاية والمصير، وقد ظهر أقوام يعيشون حياتهم لأجل إثبات أن الله -تعالى- غير موجود، وأن أفعاله التي جاءت في القرآن والسنة لا تتوافق مع صفات الإله ! وفي هذه السطور نجيب عن هذا التساؤل الغريب والادعاء المرفوض.

أمر الله ونهيه.

أولاً لماذا يأمرنا الله وينهانا؟

تأتي العبادات متنوعة الهيئات والمقاصد، فلماذا أمرنا الله بهذه العبادات تحديداً؟ وما الحكمة؟ ما الحكمة في الصلاة والقيام لها بالليل فرضاً {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} النساء: 103؟ وما الحكمة من التجويع في الصيام: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} البقرة: 187، ولما لم يترك الله اختيار العبادة لنا لتكون محبة منا لا فرضاً وإلزاماً علينا؟

والإجابة عن هذه الشبهة بما يلي: أولاً: لقد أثبت الله للناس وجوده بالآيات والدلائل قبل الأوامر والنواهي، قال -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة: 164، ثم أثبت أنه أرسل الرسل، وذلك بالمعجزات التي أظهرها أمام قومه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» متفق عليه، أي ما من نبي إلا وقد أعطاه الله معجزة تثبت صدقه، ويؤمن الناس به بسببها.

- ثانياً: بعد أن ثبت وجود الله وثبت صدق الرسول المبعوث وجب طاعة ذلك النبي فيما جاء به عن الله -تعالى.

- ثالثاً: قد تظهر حكمة ما من كيفية العبادة على تلك الهيئة وقد لا تظهر، لكن الحكمة الأعظم هو اختبار الناس في الطاعة والمعصية والأمر والنهي، فليس بالضرورة أن تظهر الحكمة للعبد بل على العبد أن يرى أن طاعة الرب هي الواجبة والحكمة يبديها الله أو يخفيها كما يريد وليس عليه سبحانه سلطان.

فرضية العبادة

- رابعاً: لماذا جعل الله العبادة فرضا ولم يتركها لاختيار العبد محبة، أولاً: إن الذي خلق هذا الإنسان هو الأعلم بطبيعته وهو الأعلم -سبحانه- بمواطن القوة والضعف في هذا الإنسان، ولو ترك الاختيار للإنسان لاختار ما يضره ولا ينفعه، واستجاب لنزوات الدنيا ودعوات الشيطان دون رادع يردعه، لكن الله -تعالى- حدد الأوامر والنواهي ليكون الرادع عن المعصية هو مخافة غضب الله، وليكون الدافع إلى الطاعة الثواب الذي يكتبه الله ثانياً: يقول الله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} محمد: 9، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قوماً كرهوا الأوامر والشرائع ولم يقبلوها؛ فهذا هو الاختبار الإلهي في فرض الفرائض، ليظهر هل ستُبل بالمحبة والرضا والالتزام أم بالسخط والكراهية وعدم الامتثال، فكونها فرضاً اختبار في حد ذاته.

- خامساً: لم يأمر الله -تعالى- العبد إلا بما في إمكانه واستطاعته، قال -تعالى-: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} البقرة 286، وقال -تعالى-: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} آل عمران: 97، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً..» رواه البخاري. الحديث. بل إن العبد إذا كان ملتزما تلك الطاعة ثم ضعف أو مرض عن الأداء كما كان يفعل كتب الله له أجر ما كان يفعله وهو صحيح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له أجر ما كان يفعله صحيحاً مقيماً» رواه البخاري.

الفقراء والمرضى

- سادساً: لماذا خلق الله الفقراء والمرضى وما حكمته من ذلك؟ يتساءل الملحد: إذا كان هناك إله رحيم فأين رحمته في خلق الضعيف والمسكين والمحتاج والمريض؟ والجواب كما يلي: أولاً لقد جعل الله -تعالى- الجنة في الآخرة ولم يجعلها في الدنيا، بل جعل الدنيا دار اختبار وبلاء قال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك: 2، وقد يأتي اختبار العبد في شكل المرض، ليُرى هل يصبر أم يتضجر؟ وقد يأتيه في شكل الفقر ليُرى هل يعيش كفافاً أم يطلب السعة من الحرام؟ والابتلاء لا يأتي في شكل الحاجة فقط بل في الكفاية ابتلاء أيضاً، قال -تعالى-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، فيبتلي الله العبد بالنعمة ليرى شكره أو انشغاله، وقد جاء في القرآن على لسان نبي الله سليمان -عليه السلام- قوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} النمل: 40، وقال -تعالى- {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} النحل: 112؛ فلا ينبغي لسائل أن يقول لماذا ابتلاني الله بالفقر؟ لأن في الغنى ابتلاء والله يفعل ما يشاء.

الشرور والحروب

لماذا خلق الله الشرور والحروب في العالم؟ إذا كنت تقول: إن الله يدبر الأمر، فلماذا خلق الحروب والشرور؟ ولماذا ترك الناس يتقاتلون؟ وما ذنب أولئك الأبرياء من الرجال والأطفال والنساء؟

والجواب بما يلي: أولاً لقد قررنا سلفاً أن الله خلق هذه الحياة لابتلاء الناس وفي آية سورة الملك جواب صريح على ذلك: {ليبلوكم} الملك: 2، فكذا في الحروب والشرور اختبار، ومفاد هذا الاختبار معرفة موقف العبد من الشر، وماذا سيفعل معه هل سيدفعه أم يصنعه؟، وموقفه من المظلوم والمكلوم هل سيضره أم سينفعه؟ وما يراه الإنسان شراً وقع على الناس قد يكون فيه الخير بحكمة الله في النهاية، فقد قال ربنا: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} البقرة: 216 فنهاية الاختبار بوجود الحروب والشرور قد يكون خيراً على الإنسان في الآخرة كما هو بلاء ومصيبة على فاعلها أيضاً في الآخرة. قال -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} البقرة: 155.

لماذا يعذبنا الله؟

- رابعاً: إذا كنا عصينا الله -تعالى- 60 سنة فلماذا يعذبنا مئات السنين؟ يسأل المتشكك فيقول: ألم أعش في الحياة ستين سنة؟ عصيت فيها أياماً أو شهوراً أو سنوات؟ فلماذا يعذبني الله مئات السنين؟ أين الرحمة؟

وللجواب عن ذلك نقول: أولاً: إن الذي يحدد الذنب هو الذي يحدد العقوبة، فلو كان للعبد المذنب أن يأتي الذنب ويقول عذبني بالطريقة كذا وكذا؛ فهذا يستقيم مع ذنبي لكان هذا ضرباً من العبث؛ لأن المذنب لا يحدد العقوبة وإنما الذي يحدد العقوبة هو الذي يحرم الفعل، ثانياً: الجريمة بقيمتها لا بوقتها، فلو أن رجلاً قتل إنساناً في دقيقة هل نعذبه دقيقة؟ ولو أن سارقاً سرق منزلاً في عشر دقائق هل نعذبه عشر دقائق! بالطبع لا فالجريمة بقيمتها لا بوقتها ثالثاُ: لما كان الكافر والملحد ينكران وجود الله -تعالى- دائماً والكفر والإلحاد أشنع الأعمال وأعظم الذنوب لذا وافقها أعظم العقوبات وهو العذاب الأبدي، فقيمة ذلك الذنب لا يعدله شيء. وأما السائل عن الرحمة في ذلك، فنقول له: أنت تسأل عن الرحمة وتنسى العدل، ومع ذلك ظهرت الرحمة في أن الله -تعالى- أعطى العبد عقلاً يقيم به الحجة عليه، والرحمة في أن الله أرسل الرسل وبين للناس العقوبات ولم يفاجئهم بها، والرحمة في أن الله ترك العبد في الحياة فترة طويلة جداً فيها يتذكر من يتذكر، فلما لم يستجب العبد لكل هذا استحق العذاب ولم يستحق الرحمة قال -تعالى-: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فاطر: 37

وبعد، فهذه بعض الافتراءات حول أفعال الله وأوامره، ولما كان الصيام عبادة من أجل العبادات فقد كثرت حولها الافتراءات، ولذا نقف على شيء منها في المقال القادم -إن شاء الله تعالى.