حاجتنا إلى شهر رمضان!


علاء بكر



خصَّ الله -تعالى- الإنسان بخلقه مِن طبيعة مزدوجة، فيه عنصر طيني مادي، وفيه عنصر روحي؛ إذ خلق الله آدم -عليه السلام- مِن طين الأرض، ونفخ فيه مِن روحه؛ فالإنسان بيْن عالمين: عالم المادة، وعالم الروح، يتعامل مع الأرض، وله تعلق وتواصل بالسماء، يحتاج في معاشه إلى ما يخرج مِن الأرض؛ ليأكل، ويشرب، ويلبس، ويحتاج في صلاحه إلى العمل بالوحي المنزل مِن السماء؛ ولهذا زود بالغرائز التي تربطه وتدفعه إلى عمارة الأرض، وزود بالإيمان والملكات الروحية التي تزكو به إلى أعلى عليين.


ولو أطلق الإنسان العنان لغرائزه وشهواته، وانساق لها ولم يضبطها -لا نقول يكبتها ويعاندها، بل يضبطها- بالوحي والإيمان، صار كالأنعام، بل أضل! وإن أخذ العبد مِن الدنيا ما يقيم حياته ويسعدها بما أباح الله له فيها بغير إسرافٍ، وكبح جماح نفسه بضوابط الشرع، وُفق إلى سعادة الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).
خلق الإنسان
فخلْقُ الإنسان مِن مادةٍ وروحٍ جعله بيْن وظيفتين: عبادة الله -تعالى- والالتزام بطاعته، يطهر بذلك نفسه، وتسمو بها منزلته عند الله -تعالى- في أعلى عليين. وعمارة الأرض التي سخَّرها الله -تعالى- له واستخلفه فيها؛ ليستعمرها ويصلحها، وينتفع ويستفيد مِن كنوزها وخيراتها التي وُضعت في الأرض مِن أجله، وما بيْن الوظيفتين تتقلب حياة الإنسان، وعليه دائمًا أن يوازن بينهما.
تحقيق التوازن
وجاء شرع الله -تعالى- بما يحقق هذا التوازن ويضبطه، ويعين الإنسان على ذلك ويحققه؛ فالإنسان لا يحتاج إلى مَن يذكِّره بالكسب، والعمل والسعي في طلب الرزق؛ فهو مدفوع إلى ذلك دفعًا، لينفق على نفسه ولو بضرورات الحياة لنفسه وزوجه وأولاده، وقد أودع الله فيه مِن المواهب والقدرات ما ييسر له ذلك؛ كل حسب طاقته وإمكانياته؛ فليس محرومًا مِن أن يجني مِن دنياه ما تستقيم به حياته بما لا مشقة فيه فوق طاقته واحتماله.
العبادات اليومية
والإنسان قد أوجب الله عليه مِن العبادات اليومية (الصلوات الخمس في اليوم والليلة) والأسبوعية (صلاة الجمعة)، وشرع له مِن نوافل العبادات الأخرى البدنية والقولية والمالية التي يؤدي منها ما يؤديه بحسب ما عنده مِن الإيمان والهمة، ولا تخلو حياة المسلم الحق منها؛ فيحقق بها وظيفة العبودية المطلوبة.
الفرائض والنوافل
فالعبادات اليومية مِن الفرائض والنوافل المطلوبة شرعًا رحمة مِن الله -تعالى- بعباده مِن جهتين:
- الأولى: أنها تحقق التوازن المطلوب بيْن عبادة الله -تعالى- وتعمير الأرض؛ فالصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
- الثانية: أنها لا مشقة في الإتيان بها في كل يوم وليلة مع الكسب والسعي اليومي؛ فلها حد أدنى وهو الفرائض التي لا يجد أي مسلم صعوبة في أدائها، ولا تتعارض مع السعي والكسب، وهذا مشاهد معلوم مِن أحوال العباد، لا ينكره إلا مكابر، ولها أحوال أعلى وأعلى وهي النوافل، يرتقي بها إلى الدرجات العلا مَن أراد مِن أصحاب الإيمان العالي والهمم العالية.
زادٌ سنويٌّ
وفوق ذلك فقد جعل الله شهر رمضان كل عام ليتزود فيه المسلم زادًا سنويًّا، يزيل به عن نفسه -بما في شهر رمضان مِن مزيد فرائض ونوافل- ما تعلقت بنفس المسلم مِن الدنيا عن الحد المقبول، أو قصر فيه عبْر شهور العام الطويلة بكثير خطايا أو ذنوب؛ فيضمن المرء بشهر رمضان -إن اعتنى به حق الاعتناء- تحقيق التوازن المطلوب عبْر سنوات حياته الطويلة على الأرض، فـ«رَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (رواه مسلم)، «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (متفق عليه)، بل ولله -تعالى- في ليالي رمضان عتقاء مِن النار، ليس بينهم وبيْن دخول الجنة إلا أن يموتوا الله نسأل أن يجعلنا منهم برحمته الواسعة وفضله العظيم.

- حقًّا: إن شهر رمضان بما فيه مِن مزيد طاعة مكثفة يحتاج إليها العبد مِن وقتٍ إلى آخر، ولو -على الأقل- مرة في كل عام، لهي نعمة مِن الله -تعالى-، تستدعي شكر الله -تعالى- عليها بالقلب واللسان إلى جانب عمل الجوارح والأبدان.