السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أحبابي الكرام
الاختلاف في هذه الحياة سنةٌ من سنن الله تعالى
قال - سبحانه - " و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم " هود
و لا ينكر عاقل هذه السنة ، بيد أن التعامل معها يختلف الناس فيه اختلافاً بالغاً ، و لهم حياله مواقف متباينة ، و يهمنا هنا فئة " طلاب العلم " .
لن أتحدثَ عن أدبيات الخلاف و لا التعامل معه فقد طُرق كثيراً ، و له موضعه ، و إنما حديثي عن " التصنيف " على وجه الخصوص ، و إن كان قد طرق أيضاً كثيراً إلا أنه هذه المرة بشكل آخر و قالب مختلف ، و الحق أنني لا أحب أن أطرح مثل هذه المواضيع المؤلمة ، و لكن " مكره أخاك لا بطل " ، و أطرحه نصحاً لنفسي و إخواني .
أثار هذا أني كنتُ يوماً من الأيام في مجلس فيه عدد من الأخيار ، منهم طلاب علم ، و كان أحدهم نقطة ارتكاز المجلس ، فبدأنا نتحدث عن موضوعات متناثرة ، و الحديث يجرّ بعضه بعضاً كعادة مجالس الناس ، غير أن ذلك المجلس كان أجمل لما يطرح فيه من مسائل العلم ، و الفوائد و الفرائد و الشوارد ، و بعد العشاء و بعد أن نعمنا بنعمة الله - و لا نزال أبدأ كذلك - بدأ هذا الوجيه - هداه الله ببرنامج يمكن أن تسميه " فرد عضلات " أو " تحت المجهر " أو ما أشبه ذلك مما حاصله استنقاص عدد من العلماء ، و إظهار زلاتهم بالكتاب و رقم الصفحة !!
تَخِذ المسكين أشرف قوم في هذه الأمة سلّماً يظن - و بعض الظن إثم و هو هنا من هذا البعض - يظن أنه يظهر به علمه أو شرفه ، أو اطلاعه ، أو ذكاءه ، و أنّى أن يكون به زكاؤه .
مما يجعله مقدماً ، و مشاراً إليه - عياذا بالله - .
كنتُ أسمع أنه يتكلم في العلماء ، لم أكد أصدق حتى ..
بدأ بالعز بن عبد السلام ، و مرّ على النووي ثم ابن حجر ، حتى ابن تيمية ، بل و ابن عثيمين ، رحم الله الجميع ، لا أدري كيف ساق هذه الأسماء يا إخواني و أنا مصابٌ بالذهول ، الرابط بين هذه الأسماء أتى بخطأ عند كل عالم من هؤلاء بسرعة فائقة ، كما عرّض بعدد من المشايخ أيضاً ، لعله أشغله عن التصريح بأسمائهم كثرة من يريد الترقّي على أكتافهم لينال المجد ، هذا لسان حاله .
مسكين و الله من يعتقد أنه لا ينال العلياء إلا إذا جعل الكلام في الناس مِرقاةً يترقى بها ، ذكرني هذا بمقولة شهيرةٍ عند أهل النجاح يقولون :
" إن النجاح الذي لا يقوم إلا على إسقاط الآخرين ليس بنجاح " .
حاولتُ أن أناقشه فيما طرح فإذا الشيطان قد ركب رأسه ، و القوم يقرون له و يعاونونه و يساعدونه ، فلمّا رأيت ذلك ، تذكّرت أنه لا خير في مجلس كهذا و لا خير في محاورة معاند يرى أنه قد بلغ مبلغ العلماء فانصرفتُ - و أظنني راشداً - .
بقيَ الفصل الأخير من هذه المسرحيّة ، و هو أن هذا الرجل - طالب العلم زعموا - إمام مسجد ، كنتُ أقابل مؤذّن مسجده و كان يشتكي من إمامه أنه لا يصلّي الفجر مع الجماعة !!
حاولتُ أن أعتذر له لعله مشغول بدروس أو .. أو ... قاطعني قائلاً ببساطة
الدروس ؟!
الدروس يوم يومين في الأسبوع أما أن يستمرّ أحياناً اسبوعاً كاملاً لا يصلي معنا و سيارته موجودة .
و ربما أدخلها في البيت حتى إذا نام عن الصلاة لا يشعر به جماعة المسجد !!
الله المستعان
ألم يكن لهذا و أمثاله غنية في الاشتغال بعيوبه عن عيوب الناس ، و قد صدق الإمام ابن القيم رحمه الله عندما قال :
" من اشتغل فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه ، و اشتغل عن أنفع الأشياء بما لا منفعة له فيه " الفوائد
و قد صدق ابن عساكر - رحمه الله - عندما قال :
" اعلم وفقنا الله و إيّام لمرضاته ، و جعلنا ممن يتقيه حق تقاته ، أن لحوم العلماء مسمومة ، و عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ، فمن تعرض للعلماء بالثّلب ، ابتلاه الله - تعالى - قبل موته بموت القلب ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أ ن تصيبهم فتنة ، أو يصيبهم عذابٌ أليم "
إلى متى لا يكون همّ كثير من طلاب العلم سوى التصنيف و التقييم و إصدار الأحكام - حتى على النوايا - .
و أعظم البليّة ، و غاية الرزية أن يسوّل الشيطان لأمثال هؤلاء بأن هذا من نصر دين الله ، و الصدع بالحق حتى لا يعمل الناس بالخطأ ، و أنه ينبغي أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، و دليل خطلهم ، و عنوان مرض قلوبهم أنهم يذكرون كثيراً من هذه الأمور عند العامة الذين لم يسمعوا بهذا الرجل من قبل أو بتلك الجماعة .
ذكر الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - عن والده عجباً في هذا الأمر
يقول : كان والدي يقول لمن يجلس معه :
" و الله لو قتلتم جميع أولادي ، و أخذتم جميع مالي لعفوتُ عنكم ، أما أن تأخذوا من حسناتي ، فلا و الله لا أرضى أن تأخذوا حسنةً واحدة " .
و قال :
" و الله لو أن أحداً ماتَ ، و لم يلعن فرعون - و هو من هو حتى ادعى أنه الرب - لم يسألكم الله لماذا لم تلعنوه ! " المرجع " شريط الدر الثمين في سيرة الشيخ الأمين
قلت : أين طلاب العلم اليوم من هذا الأدب الجم الذي يحفظ المرء به قلبه و حسناته ، و يبعد عن الكلام في إخوانه ، بل - و أحياناً في أمورٍ يسوغ فيها الخلاف - و بعضهم ما إن يسمع كلمة من داعية أو طالب علم إلا طار بها و حمّلها ما لا تحتمل .
قرأتُ في ترجمة الشيخ محمد محمد المختار الشنقيطي - حفظه الله - و لعلّ كاتب الترجمة أحد أفراد الملتقى - :
كان للشيخ مجلسٌ في أحد الأيام ، و يأتيه طلاب العلم و يستفيدون من علمه ، و في أحد الأيام جاء أحدهم ، و أخذ يسب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ، فغضب الشيخ محمد غضباً شديداً و تكلم على الرجل ، و طرده من بيته ، و قال لا أجلس أنا و من يسب الشيخ ابن باز تحت سقفٍ واحد !!
لله أبوه ..
موقف تربوي يغني و الله عن التعليق .
لماّ توفي الإمام ابن باز - رحمه الله - و كنتُ في السجن قلتُ لأحد الشباب :
ليتني أخرج فأصلي على الشيخ ، فقال هذا الشاب - هداه الله - : لو كنتُ خارج السجن ما صليتُ عليه !! ، قال الشيخ معلقاً : عجيب و الله هذا الأمر شاب لا يعرف أساسيات الدين و أصوله يتكلم عن إمام علم ، لربما لم يحفظ هذا الشاب جزء عمّ ، و يتكلم عن الإمام ابن باز !! . ا . هـ بمعناه
و أقول : ينبغي لطالب العلم أن يتنبّه إلى أن ازدياده من العلم ينبغي أن يكسبه التقوى و العمل الصالح و الخشية ، لا أن يكون ذلك مجرّئاً له على التطاول على أعراض المسلمين فضلاً عن العلماء .
وقفة : إذا رأيتَ من طالب علم أو من أي مسلمٍ خطاً فالمنهج الحق هو النصح له ، فإن عجَزتَ فعليك بإيصال النصيحة إلى شخصٍ مقرب من المنصوح ، و تكون أديت الذي عليك ، شخصٌ واحدٌ فقط ، و عليه فما يزعمه كثير من الناس عند غيبة المسلمين بأنه من النصح ،و إذا رأى خطأ من أحد تكلم به في كل مجلس ، يقال له : لو كنتَ صادقاً مريداً للإصلاح لأتيت البيوت من أبوابها ، و لكلّمته بنفسك ، أو طرحتَ ذلك على من يقبل منه المنصوح .
و مع هذا أعوذ بالله أن أتهم هذا الرجل في نفسي بشيء ، و لكن مشهد آلمني ، فاسمحوا لي أن أشرككم هذه المرة آلامي .
هذه كتابة مبعثرة ، لم أشأ أن أبالغ في تنميقها و ترتيبها ، و أسأل الله أن تكون من القلب إلى القلب ..
إخواني ..
الله .. الله .. في قلوبنا ..
لنشتغل بعيوبنا عن عيوب الناس ..
تعليقك ..