تَفُتُّ فؤادك
مصطفى شيخ مصطفى




أتابع الحديث عن شاعر اشتهر بالزهد والحكمة وأذكِّر بالتعريف به، فهو شاعر أندلسي، من قصائده
الشهيرة قصيدةٌ أَفردتُ لها مقالاً سابقًا عن استوزار ملك غرناطة للوزير ابن نغرلة، واليومَ أختار له قصيدتين: الأولى بعنوان: "تُغازلني المنية من قريب"، والثانية - وهي الأشهر ومطْلَعُها: "تَفُتُّ فؤادَك الأيّامُ فتًّا".
جاء في جميع دواوين الشعر العربي على مر العصور - (1 / 42):
أبو إسحاق الإلبيري (375 - 460 هـ / 985 - 1067م):
إبراهيم بن مسعود بن سعد التُّجِيبِي الإلبيري، أبو إسحاق، شاعر أندلسي، أصله مِن أهل حصن العقاب، اشتُهر بغرناطة، وأنكر على مَلكها استوزارَه ابنَ نغرلة اليهوديَّ، فنُفي إلى إلبيرة، وقال في ذلك شعرًا، فثارت صنهاجة على اليهودي وقتلوه.
شعْرُه كله في الحِكَم والمواعظ، أشهر شِعره قصيدتُه في تحريض صنهاجة على ابن نغرلة اليهودي، ومطلعها: "ألا قُل لصنهاجةٍ أجمعين".
وإليك القصيدةَ الأولى كما جاءت في جميع دواوين الشعر العربي:
تُغَازِلُنِي الْمَنِيَّةُ مِنْ قَرِيبٍ *** وَتَلْحَظُنِي مُلَاحَظَةَ الرَّقِيبِ
وَتَنْشُرُ لِي كِتَابًا فِيهِ طَيِّي *** بِخَطِّ الدَّهْرِ أَسْطُرُهُ مَشِيبِي
كِتَابٌ فِي مَعَانِيهِ غُمُوضٌ *** يَلُوحُ لِكُلِّ أَوَّابٍ مُنِيبِ
أَرَى الْأَعْصَارَ تَعْصِرُ مَاءَ عُودِي *** وَقِدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ الْقَضِيبِ
أَدَالَ الشَّيْبُ يَا صَاحِ شَبَابِي *** فَعُوِّضْتُ الْبَغِيضَ مِنَ الْحَبِيبِ
وَبُدِّلْتُ التَّثَاقُلَ مِنْ نَشَاطِي *** وَمِنْ حُسْنِ النَّضَارَةِ بِالشُّحُوبِ
كَذَاكَ الشَّمْسُ يَعْلُوهَا اصْفِرَارٌ *** إِذَا جَنَحَتْ وَمَالَتْ لِلْغُرُوبِ
تُحَارِبُنَا جُنُودٌ لَا تُجَارَى *** وَلَا تُلْقَى بِآسَادِ الْحُرُوبِ
هِيَ الْأَقْدَارُ وَالْآجَالُ تَأْتِي *** فَتَنْزِلَ بِالْمُطَبَّبِ وَالطَّبِيبِ
تُفَوِّقُ أَسْهُمًا عَنْ قَوْسِ غَيْبٍ *** وَمَا أَغْرَاضُهَا غَيْرَ الْقُلُوبِ
فَأَنَّى بِاحْتِرَاسٍ مِنْ جُنُودٍ *** مُؤَيَّدَةٍ تُمَدُّ مِنَ الْغُيُوبِ
وَمَا آسَى عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنْ *** عَلَى مَا قَدْ رَكِبْتُ مِنَ الذُّنُوبِ
فَيَا لَهْفِي عَلَى طُولِ اغْتِرَارِي *** وَيَا وَيْحِي مِنَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ
إِذَا أَنَا لَمْ أَنُحْ نَفْسِي وَأَبْكِي *** عَلَى حَوْبِي بِتَهْتَانٍ سَكُوبِ
فَمَنْ هَذَا الَّذِي بَعْدِي سَيَبْكِي *** عَلَيْهَا مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبِ
أمَّا القصيدة الثانية فقد اقتصرْتُ على ذكر هذه الأبيات منها، كما وردت في موسوعة الشعر الإسلامي - (1067/1)، وفيها يوصي ابنَه في السعي للعلم والتعلم:
تَفُتُّ فُؤَادَكَ الْأَيَّامُ فَتَّا *** وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا
وَتَدْعُوكَ الْمَنُونُ دُعَاءَ صِدْقٍ *** أَلَا يَا صَاحِ أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا
أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْسًا ذَاتَ مَالٍ *** أَبَتَّ طَلَاقَهَا الْأَكْيَاسُ بَتَّا
تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ فِي غَطِيطٍ *** بِهَا حَتَّى إِذَا مِتَّ انْتَبَهْتَا
فَكَمْ ذَا أَنْتَ مَخْدُوعٌ وَحَتَّى *** مَتَى لَا تَرْعَوِي عَنْهَا وَحَتَّى
أَبَا بَكْرٍ دَعَوْتُكَ لَوْ أَجَبْتَا *** إِلَى مَا فِيهِ حَظُّكَ إِنْ عَقِلْتَا
إِلَى عِلْمٍ تَكُونُ بِهِ إِمَامًا *** مُطَاعًا إِنْ أَمَرْتَ وَإِنْ نَهَيْتَا
وَيَجْلُو مَا بِعَيْنِكَ مِنْ عَشَاهَا *** وَيَهْدِيكَ السَّبِيلَ إِذَا ضَلِلْتَا
وَتَحْمِلُ مِنْهُ فِي نَادِيكَ تَاجًا *** وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا اعْتَرَيْتَا
يَنَالُكَ نَفْعُهُ مَا دُمْتَ حَيًّا *** وَيَبْقَى ذُخْرُهُ لَكَ إِنْ ذَهَبْتَا
هُوَ الْعَضْبُ الْمُهَنَّدُ لَيْسَ يَنْبُو *** تُصِيبُ بِهِ الْمَقَاتِلَ إِنْ ضَرَبْتَا
وَكَنْزٌ لَا تَخَافُ عَلَيْهِ لِصًّا *** خَفِيفُ الْحَمْلِ يُوجَدُ حَيْثُ كُنْتَا
يَزِيدُ بِكَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ *** وَيَنْقُصُ إِنْ بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا
فَلَوْ قَدْ ذُقْتَ مِنْ حَلْوَاهُ طَعْمًا *** لَآثَرْتَ التَّعَلُّمَ وَاجْتَهَدْتَا
وَلَمْ يَشْغَلْكَ عَنْهُ هَوًى مُطَاعٌ *** وَلَا دُنْيَا بِزُخْرُفِهَا فُتِنْتَا
وَلَا أَلْهَاكَ عَنْهُ أَنِيقُ رَوْضٍ *** وَلَا خِدْرٌ بِرَبْرَبِهِ كُلِفْتَا
فَقُوتُ الرُّوحِ أَرْوَاحُ الْمَعَانِي *** وَلَيْسَ بِأَنْ طَعِمْتَ وَأَنْ شَرِبْتَا
فَوَاظِبْهُ وَخُذْ بِالْجِدِّ فِيهِ *** فِإِنْ أَعْطَى الْإِلَهُ قَدِ انْتَفَعْتَا
وَإِنْ أُوتِيتَ فِيهِ طُولَ بَاعٍ *** وَقَالَ النَّاسُ أَنَّكَ قَدْ سُبِقْتَا
فَلَا تَأْمَنْ سُؤَالَ اللَّهِ عَنْهُ *** بِتَوْبِيخٍ: عَلِمْتَ فَهَلْ عَمِلْتَا
فَرَأْسُ الْعِلْمِ تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا *** وَلَيْسَ بِأَنْ يُقَالَ: لَقَدْ رَأَسْتَا
وَأَحْسَنُ ثَوْبِكَ الْإِحْسَانُ لَا أَنْ *** تُرَى ثَوْبَ الْإِسَاءَةِ قَدْ لَبِسْتَا
إِذَا مَا لَمْ يُفِدْكَ الْعِلْمُ خَيْرًا *** فَخَيْرٌ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَدْ جَهِلْتَا
وَإِنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ *** فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا
سَتَجْنِي مِنْ ثِمَارِ الْعَجْزِ جَهْلاً *** وَتَصْغَرُ فِي الْعُيُونِ وَإِنْ كَبِرْتَا
وَتَفْقِدُ إِنْ جَهِلْتَ وَأَنْتَ بَاقٍ *** وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ وَقَدْ فُقِدْتَا
وَتَذْكُرُ قَوْلَتِي لَكَ بَعْدَ حِينٍ *** وَتَغْبِطُهَا إِذَا عَنْهَا شُغِلْتَا
وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا *** وَمَا تُغْنِي النَّدَامَةُ إِنْ نَدِمْتَا
إِذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ فِي سَمَاءٍ *** قَدِ ارْتَفَعُوا عَلَيْكَ وَقَدْ سَفَلْتَا
فَرَاجِعْهَا وَدَعْ عَنْكَ الْهُوَيْنَا *** فَمَا بِالْبُطْءِ تُدْرِكُ مَا أَرَدْتَا
وَلَا تَحْفِلْ بِمَالِكَ وَالْهُ عَنْهُ *** فَلَيْسَ الْمَالُ إِلاَّ مَا عَلِمْتَا
وَلَيْسَ لِجَاهِلٍ فِي النَّاسِ مَعْنًى *** وَلَوْ مُلْكُ الْعِرَاقِ لَهُ تَأَتَّى
سَيَنْطِقُ عَنْكَ عِلْمُكَ فِي نَدِيٍّ *** وَيَكْتُبُ عَنْكَ يَوْمًا إِنْ كَتَبْتَا
وَمَا يُغْنِيكَ تَشْيِيدُ الْمَبَانِي *** إِذَا بِالْجَهْلِ نَفْسَكَ قَدْ هَدَمْتَا
جَعَلْتَ الْمَالَ فَوْقَ الْعِلْمِ جَهْلاً *** لَعَمْرُكَ فِي الْقَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا
وَبَيْنَهُمَا بِنَصِّ الْوَحْيِ بَوْنٌ *** سَتَعْلَمُهُ إِذَا (طَهَ) قَرَأْتَا
لَئِنْ رَفَعَ الْغَنِيُّ لِوَاءَ مَالٍ *** لَأَنْتَ لِوَاءَ عِلْمِكَ قَدْ رَفَعْتَا
وَإِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحَشَايَا *** لَأَنْتَ عَلَى الْكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا
وَإِنْ رَكِبَ الْجِيَادَ مُسَوَّمَاتٍ *** لَأَنْتَ مَنَاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا
وَمَهْمَا افْتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي *** فَكَمْ بِكْرٍ مِنَ الْحِكَمِ افْتَضَضْتَا
وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الْإِقْتَارُ شَيْئًا *** إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا
فَمَاذَا عِنْدَهُ لَكَ مِنْ جَمِيلٍ *** إِذَا بِفِنَاءِ طَاعَتِهِ أَنَخْتَا
فَقَابِلْ بِالْقَبُولِ صَحِيحَ نُصْحِي *** فَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فَقَدْ خَسِرْتَا
وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً *** وَتَاجَرْتَ الْإِلَهَ فَقَدْ رَبِحْتَا
لَيْسَتْ هَذِهِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ *** تَسُوءُكَ حِقْبَةً وَتُسَرُّ وَقْتَا
وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيهَا *** كَفَيْئِكَ أَوْ كَحُلْمِكَ إِنْ حَلَمْتَا
سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لَهَا مُحِبٌّ *** فَكَيْفَ تُحِبُّ مَا فِيهِ سُجِنْتَا
وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَرِيبٍ *** سَتَطْعَمُ مِنْكَ مَا مِنْهَا طَعِمْتَا
وَتَعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَابًا *** وَتُكْسَى إِنْ مَلَابِسَهَا خَلَعْتَا
وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْمٍ دَفْنَ خِلٍّ *** كَأَنَّكَ لَا تُرَادُ بِمَا شَهِدْتَا
وَلَمْ تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلَكِنْ *** لِتَعْبُرَهَا فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا
وَإِنْ هُدِمَتْ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْمًا *** وَشَيِّدْ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا
وَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَ فِيهَا *** إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا
فَلَيْسَ بِنَافِعٍ مَا نِلْتَ مِنْهَا *** مِنَ الْفَانِي إِذَا الْبَاقِي حُرِمْتَا
ختامًا:
أَرجو أن أكون قد وُفقت في عرض بعضٍ مِن نتاج هذا الشاعر، الذي يَذخر ديوانُه بقصائدَ ممتازةٍ، يمكن الرجوع إليها لمن أحب أن يتعرف أكثرَ على ديوان وشِعْر الرَّجل.