المرسل عند الإمام الشافعي
خليل إبراهيم ملا خاطر


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
لقد اختلفت آراء العلماء في الحكم على الحديث المرسل من حيث قبوله أو رده، كما اختلفوا في حكم الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى- عليه أيضًا.
لذا أحببت أن أبين رأي الشافعي - رحمه الله - في الحديث المرسل حاسمًا الخلاف إن شاء الله في حكمه، ناقلًا رأيه بشكل واضح من مؤلفاته التي خلفها لنا، وهي معتمدة عند كل من يعرف مذهب الإمام - رحمه الله تعالى -.
فالمرسل: ما رواه التابعي قائلًا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر من روى عنه الحديث، وكذا لو روى الصحابي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعه منه، بل سمعه من صحابي آخر، ولكن أسقطه، فهذا كله مرسل.
ولما كان التابعون - رضي الله عنهم - منهم من رأى جمعًا غفيرًا جدًا من الصحابة - رضي الله عنهم - وهؤلاء هم كبار التابعين.
ومنهم من رأى عددًا محدودًا منهم وهؤلاء هم صغار التابعين فقد اختلف حكم الشافعي - رضي الله عنه - بالنسبة لمرسل التابعي الكبير ومرسل التابعي الصغير، وكذا بالنسبة لمرسل الصحابي.
وقد رد مرسل التابعي وقبل مرسل الصحابي وقبل مرسل التابعي الكبير بشروط.
ولما كان قد اشتهر أن الإمام الشافعي - رحمه الله - يأخذ بمرسلات سعيد بن المسيب - رضي الله عنه – فقط؛ فقد أحببت أن أبين اختلاف حكمه بالنسبة لمرسل الصحابي، ثم مرسل التابعي الكبير ثم مرسل التابعي الصغير ثم أحرر القول فيما اشتهر من أخذه بمرسل سعيد - رحمه الله - بعد أن أشير إلى حالة قبول المرسل أو رده قبل الإمام الشافعي - رحمه الله -.
1- المرسل قبل الشافعي: قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: "وأما المرسل فقد كان يحتج به العلماء فيما مضى مثل: سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي حتى جاء الشافعي فتكلم فيه"(1).
وقال ابن جرير: "أجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين، قال ابن عبد البر -: كأنه يعني أن الشافعي أول من رده"(2) ا. هـ.
قلت: ويستغرب من ابن جرير ادعاؤه إجماع التابعين على قبول المرسل، وكذا إدعاؤه عدم ورود إنكاره على أحد من الأئمة قبل الشافعي، فقد رد المرسل سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين، وابن سيرين، والزهري وابن مهدي، وابن القطان والأوزاعي وشعبة وغير واحد، فكيف يجوز أن يدعى بأن الشافعي هو أول من رده! ولهذا قال في توجيه النظر: "وقد انتقد بعضهم قول من قال: إن الشافعي أول من ترك الاحتجاج بالمرسل. فقد نقل ترك الاحتجاج عن سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين.
ولم ينفرد هو بذلك بل قال به من بينهم ابن سيرين والزهري، وقد ترك الاحتجاج بالمرسل ابن مهدي ويحيى القطان وغير واحد ممن قبل الشافعي. والذي يمكن نسبته إلى الشافعي في أمر المرسل هو زيادة البحث عنه والتحقيق فيه"(3) ا. هـ.
وقال ابن الأثير: "والناس في قبول المراسيل مختلفون: وأما أهل الحديث قاطبة، أو معظمهم، فإن المراسيل عندهم واهية غير محتج بها، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول ابن المسيب والزهري الأوزاعي ومن بعدهم من فقهاء الحجاز..."(4) ا. هـ.
قلت: إطلاق ابن الأثير القول في حكم الشافعي غير جيد كما ستراه -إن شاء الله- في مرسل كبار التابعين. والسبب الذي حدا بهؤلاء الأئمة إلى رد المرسل ما قاله الإمام السخاوي - رحمه الله -: "من وجود الصفات المذمومة فيما بعد الصحابة - رضي الله عنهم - من القرنين لكن بقلة بخلاف من بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك أكثر فيهم وأشهر، وقد روى الشافعي عن عمه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إني لأسمع الحديث استحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي بي، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث عمن أثق به، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به.
وهذا كما قال ابن عبد البر: يدل على أن ذلك الزمان - أي زمان الصحابة والتابعين - كان يحدث فيه الثقة وغيره، ونحوه ما أخرجه العقيلي من حديث ابن عوان قال: ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثًا عن أبي قلابة فقال: أبو قلابة رجل صالح ولكن عمن ذكره أبو قلابة؟ ومثل هذا حديث عاصم عن ابن سيرين قال: كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة بعد. وأعلى من هذا ما رويناه في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخًا من الخوارج يقول بعدما تاب: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا" ا.هـ.
قال السخاوي: "ولذا قال شيخنا: إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام. والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين فمن بعدهم وهؤلاء إذا استحسنوا أمرًا جعلوه حديثًا وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينًا للظن فيحمله عنه غيره ويجيء الذي يحتج بالمقاطع فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (5). ا.هـ.
ومن الذي ذكرناه يظهر لنا أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن هو أول من رد المرسل، وإنما تحقق فيه، كما سنذكره قريبًا إن شاء الله - تعالى -.
2- مرسل الصحابي: المشهور من مذهب الشافعي - رحمه الله - قبول مرسل الصحابي، وهو في هذا مثل الجمهور في قبوله، إلا أنه قد نقل بعضهم عنه عدم الاحتجاج به. فقد قال القاضي عبد الجبار: "إن مذهب الشافعي أن الصحابي إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا: قبل، إلا إن علم أنه أرسله، وكذا نقله ابن بطال في أوائل شرحه للبخاري عن الشافعي".
قلت: وهذا القول غير سليم، فقد قال السخاوي: "فالنقل بذلك عن الشافعي خلاف المشهور من مذهبه، وقد صرح ابن برهان في الوجيز: أن مذهبه أن المراسيل لا يجوز الاحتجاج به إلا مراسيل الصحابة ومراسيل سعيد، وما انعقد الإجماع على العمل به". (6) ا.هـ.
قلت: وما أطلقه ابن برهان غير مسلم كما ستراه في مرسل كبار التابعين ومرسل سعيد. وقد ذكر الإمام النووي - رحمه الله - أن مذهب الشافعي في مرسل الصحابي: وهو ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يدركه أو لم يحضره أنه حجة، حيث قال: "ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وبان بذلك صحته.. سواءً عنده في هذا مرسل سعيد بن المسيب وغيره..." ثم قال: "هذا في غير مرسل الصحابي، أما مرسله وهو روايته ما لم يدركه أو يحضره كقول عائشة -رضي الله تعالى- عنها -: كان أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا(7). فمذهب الشافعي والجماهير أنه حجة" (8) ا.هـ. وهذا ما أكده الحافظ السيوطي عند شرحه لعبارة النووي: "أما مرسله -أي الصحابي- فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح". قال السيوطي: "الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم وأطبق عليه المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بضعف المرسل...؛ لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة وكلهم عدول ورواياتهم عن غيرهم نادرة وإذا رووها بينوها، بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة بل إسرائيليات أو حكايات موقوفات..." (9) ا.هـ.
قلت: وقد حدث بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم حدثوا عن أنفسهم أنه ليس كل قول يقولونه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سمعوه منه - صلى الله عليه وسلم -، فقد ذكر الخطيب من هذا كثيرًا فأخرج بسنده إلى البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "ليس كلنا سمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كانت لنا ضيعة وأشغال. وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب. وأخرج عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سمعناه منه، ولكن حدثنا أصحابنا ونحن قوم لا يكذب بعضهم بعضًا"(10) ا.هـ. ولم يكن هذا شأن صغار الصحابة - رضي الله عنهم - كأنس وابن عباس وعائشة وابن الزبير وأمثالهم - رضي الله عنهم - فحسب، بل وجد هذا حتى من كبار الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "كان لي أخ يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا وأشهده يومًا، فإذا غبت جاءني بما يكون من الوحي وما يكون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم –" (11) ا.هـ. فقد كان يتناوب هو وأخ له أنصاري يومًا بعد يوم.
ومن هذا نجد الشافعي - رحمه الله - ملأ كتبه بحديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وأبي هريرة –رضي الله عنهم- الذي قصرت مدة إقامته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تزد على أربع سنوات بالذي سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يسمعوه. ولم يتعرض الشافعي - رحمه الله - إلى رواية واحدة من هذه الأحاديث الكثيرة التي رواها عن هؤلاء بطعن أو رد مما يدل على اعتبارها حجة وهي كالمتصلة إذ لم يفرق بينهما حتى يقال: كيف فعل أو يحتاج إلى تخريج. والله أعلم.
3- مرسل كبار التابعين: لقد مرت بنا عبارة ابن عبد البر كأنه يعني: أن الشافعي أول من رده، فهي تدل على أن العلماء اختلفوا في رأي الشافعي في المرسل. إذا ما قيست فيمن يقول: "بأن الشافعي لم يقبل إلا مرسل سعيد"(12). وفيمن يقول: "بأن الشافعي يقبل المرسل إذا لم يجد سواه من غير تقييد" (13). وفيمن يقول: "يستحب العمل بمرسل سعيد فقط".
لقد ذكر الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتاب "الرسالة" رأيه واضحًا جليًا لا يحتاج إلى الاعتماد على غيره. كما أن كل من نقل هذا من علماء المصطلح ذكروا قيده: كالنووي والعراقي والسخاوي والسيوطي وغيرهم. قال العراقي:
"والشافعي بالكبار قيدا *** ومن روى عن الثقات أبدا
ومن إذا شارك أهل الحفظ *** وافقهم إلا بنقص لفظ" (14).
قال الشافعي: "فقال -أي المناظر-: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه. وهل يختلف المنقطع؟. أو هو وغيره سواء؟. قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين فحدث حديثًا منقطعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر عليه بأمور: منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشاركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم، فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله وهو أضعف من الأولى. وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا له، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا من أصل يصح -إن شاء الله تعالى -، وكذلك إذا وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما وري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.." قال الشافعي: "ثم يعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يُسمى[كذا بالأصل بإثبات حرف العلة مع الجازم وهذا كثير في لغة الشافعي] مجهولًا ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه، ويكون إذا شرك أحدًا من الحفاظ في الحديث لم يخالفه. فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه. حتى لا يسع أحدًا منهم قبول مرسله"(15).
قال: "وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت ثبوتها بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مغيب، يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه، إذا سمى، وأن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدًا، من حيث لو سمى لم يقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه، لو وافقه يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر منها، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء" (16) ا.هـ. ومن هذا النص نستطيع أن نحدد شروط قبول الشافعي للمرسل. فقد اشترط أن يكون المرسل من كبار التابعين ثم بشرط الاعتبار في المرسَل والمرسِل.
- فاعتباره بالمرسَل –بالفتح- :
1- أن يأتي مسندًا من طريق آخر. لقوله: "أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى".
2 - أن يوافقه مرسل آخر بشرط أن يكون من غير رجال المرسل الأول، لقوله: "ويعتبر عليه: بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم".
3 - أن يوافقه قول لبعض الصحابة - رضي الله عنهم -، لقوله: "وإن لم يوجد نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا له".
4 - أن يوافقه فتوى أكثر العلماء بمقتضاه، لقوله: "وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم –".
- وأما اعتباره بالمرسل –بالكسر-:
1 - أن يكون إذا سمى من روى عنه لا يسمي مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، لقوله: "ثم يعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمي [كذا بالأصل بإثبات حرف العلة مع الجازم وهذا كثير في لغة الشافعي] مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه فهو ثقة لا يروي إلا عن ثقات".
2 - أن يكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، بحيث يكون ثبتاًَ حافظاً وذلك، لقوله: "ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه، فقد شرط أن يكون المرسل ثقة حافظاً، ضابطاً ثبتاً، وكذلك لا يروي إلا عن مثله، فإن كان يروي عن الضعفاء والمجهولين لا يقبل مرسله"، والله أعلم.
4 - حجية المرسل بعد الاعتضاد:
إن هذه الشروط التي وضعها الشافعي - رحمه الله تعالى - لقبول المرسل وقيده بها إن فقد منها شرط ضر ذلك بالمرسل فلا يقبل، لقوله: "ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله"، وقد بين الشافعي - رحمه الله - الشبهة في هذا، عندما قال في آخر ما نقلناه عنه: "وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمى. وإن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله، فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً من حيث لو سمى لم يقبل، وإن قول بعض الصحابة، إذا قال لو وافقه يدل على صحة المخرج، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول الصحابي يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء"، وقال الشيخ أحمد شاكر معلقا: " يريد بيان المعنى الذي كان عنه المنقطع مغيباً مع ترجيح المنقطع عن كبار التابعين إذا وافقه قول بعض الصحابة، فيأتي بوجهي الاحتمال الأول: أن موافقة قول الصحابي يدل دلالة قوية على صحته، والثاني: يمكن أن يكون التابعي سمع الخبر ممن لو سمى لم يقبل، فلما رأى قول الصحابي يوافقه غلط فيه فظنه أمارة صحته، فرواه على الإرسال، ولم يسم من حدثه إياه"(17). ا.هـ.
ما إذا عضد بمسند جاء من طريق آخر، فلا يخلو إن كان المسند صحيحاً صار -أي المسند والمرسل- أقوى من صحيح جاء من طريق واحد، كما قال العراقي:
"فإن يقل فالمسند المعتمد*** فقل دليلان به يعتضد".
أي فإن قيل: قولكم يقبل المرسل إذا جاء مسنداً من وجه آخر لا حاجة حينئذ إلى المرسل، بل الاعتماد حينئذ على الحديث المسند، والجواب: أنه بالمسند تبينا صحة المرسل، وصارا دليلين يرجح بهما عند معارضة دليل واحد، فقوله: " به " أي بالمسند يعتضد المرسل (18). ا.هـ.
وهو الذي ذكره النووي في التقريب (19)، وقال ابن الصلاح في الجواب: " فجوابه أنه بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يحكم له مع إرساله بأنه إسناد صحيح تقوم به الحجة. (20) وأما إذا كان العاضد مسنداً ضعيفاً أو مرسلاً آخر من غير طريق الأول وغيرهما مما ذكره الشافعي فإنه يحتج به؛ لأنه صار في مرتبة الحسن.
كما قال ابن الصلاح في الحسن: "الحسن يتقاصر عن الصحيح. من شرطه أن يكون رواته قد ثبتت عدالتهم وضبطهم وإتقانهم... وذلك غير مشترط في الحسن فإنه يكتفي فيه بما سبق ذكره من مجيء الحديث من وجوه وغير ذلك مما تقدم شرحه، وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية مستبعد ذكرنا له نص الشافعي - رضي الله عنه - في مراسيل التابعين أنه يقبل منها المرسل إذا جاء نحوه مسنداً، وكذلك لو وافقه مرسل آخر أرسله من أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول في كلام له..." (21) ا.هـ. وقد قيد الرازي المسند في مسند لم تقم به الحجة إذا انفرد حتى تكون القوة من هيئة الاجتماع.(22).
وقال ابن الصلاح أيضا: " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت... وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر"(23).
. وهذا ما اعتمده النووي، وقال العراقي في منظومته:
لكن إذا صح لنا مخرجه*** بمسند أو مرسل يخرجه
من ليس يروي عن رجال الأول*** نقبله قلت الشيخ لم يفصل" (24).
وقال في الحسن:
"ألا ترى المرسل حيث أسندا*** أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا"(25).
قال السخاوي: "وصار حجة " (26).
وهذا هو قول العراقي والسيوطي، إلا أنه قال: "وكان دون الحسن لذاته" (27).
وزكريا الأنصاري وغيرهم إلا أن الملاحظ أن ابن الصلاح لم يفرق بين كبار التابعين وصغارهم كما نص عليه الشافعي ونبه عليه العراقي.
والذي ذهبت إليه من تقسيم المرسل بالعاضد إلى صحيح وحسن: هو ما أشار إليه الشافعي في الرسالة فقال في الأول: "إذا كان العاضد مسنداً صحيحاً اعتبر عليه بأمور، منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه". وقال في العاضد: "إذا لم يكن مسنداً... وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت، أحببنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل.." ا.هـ. كما مر ومعنى قول: "أحببنا" أي: اخترنا، كما قال البيهقي(28)، ومعنى هذا: إذا عارضه حديث متصل صحيح قدم عليه؛ لأنا لا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل، فهو دونه، أما الأول فكما ذكرنا، وأما إذا لم يوجد إلا المرسل فقد نقل الماوردي عن الشافعي أنه يأخذ به (29). وقال السبكي: "إذا دل على محظور ولم يوجد سواه فالأظهر وجوب الانكفاف - يعني احتياطاً-" (30)، والله أعلم.
5 - مرسل صغار التابعين:
إن الشافعي - رحمه الله تعالى - رد مرسل صغار التابعين المرة، ولم يقبله مع أنه أطلق عليه اسم المرسل، فقال في الرسالة: "فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم واحدا يقبل مرسله لأمور، أحدها: أنهم أشد تجوزاً ممن يروون عنه، والآخر: أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه، والآخر: كثرة الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه. وقد خبرت بعض من خبرت من أهل العلم فرأيتهم أتوا من خصلة وضدها، رأيت الرجل يقنع بيسير العلم ويريد ألا أن يكون مستفيداً إلا من جهة، قد يتركه من مثلها أو أرجح، فيكون من أهل التقصير في العلم، ورأيت من عاب هذه السبيل ورغب في التوسع في العلم من دعاه ذلك إلى القبول عمن لو أمسك عن القبول عنه كان خيراً له، ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم فيقبل عمن يرد مثله وخيراً منه، ويدخل عليه فيقبل عمن يعرف ضعفه إذا وافق قولاً يقوله، ويرد حديث الثقة إذا خالف قولاً يقوله، ويدخل على بعضهم من جهات.
ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة فيها. قال: فلم فرقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟ فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم.
قال: فلم لا تقبل المرسل منهم ومن كل فقيه دونهم؟ قلت: لما وصفت، قال: وهل تجد حديثا تبلغ به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل أحد من أهل الفقه به؟ قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وعيالاً، وإن لأبي مالاً وعيالاً، وإنه يريد أن يأخذ مالي فيطعمه عياله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت ومالك لأبيك))" (31).
قال محمد بن المنكدر: "عندكم غاية في الثقة، قلت: أجل، والفضل في الدين والورع، ولكنا لا ندري عمن قبل هذا الحديث، وقد وصفت لك الشاهدين يشهدان على الرجل فلا تقبل شهادتهما حتى يعدلاهما أو يعدلهما غيرهما، قال: فتذكر من حديثكم مثل هذا؟ قلت: نعم، أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة. فلم نقبل هذا لأنه مرسل.
ثم أخبرنا الثقة عن معمر عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث، وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثقة الرجال، إنما يسمي بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خيار التابعين، ولا نعلم محدثاً يسمي أفضل ولا أشهد ممن يحدث عنه ابن شهاب، قال: فأنى تراه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم، رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل فقبل عنه وأحسن الظن به فسكت عن اسمه؛ إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع - ما وصفت به ابن شهاب - لم يؤمن مثل هذا على غيره" (32).
فقد ذكر الشافعي - رحمه الله - سبب رده لمرسل صغار التابعين، كونهم أشد تجوزاً ممن يروون عنهم، وضعف مخرج ما أرسلوه، وكثرة الإحالة، وهذه الخصال الثلاثة أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه، كما أنه قرر أن بعض من توسع في العلم يروي عن أناس لو أمسك عن الأخذ عنهم كان خيراً له.
ثم يقرر شناعة مرسل صغار التابعين، وذلك أن صغار التابعين يروي أغلبهم عن كبار التابعين، وقد تصل الوسائط إلى سبعة أشخاص. وكان قد ظهر في ذلك الوقت من يرغب عن الرواية عنه، فإذا سكت الراوي عمن روى عنه فيحتمل أن يكون من هؤلاء، ويحتمل غيره، لذا كان الأولى رد حديثه، وقد مثل الشافعي - رحمه الله - بالزهري وابن المنكدر مع جلالتهما وفضلهما وانتقائهما الشيوخ الذين يرويان عنهم، فلما صرح الزهري بسليمان بن أرقم - وهو ضعيف جداً لا يقبل حديثه - رد مرسله ومرسل من كان كذلك، لذلك يقول - رحمه الله -: " يقولون يحابي ولو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذاك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم" (33).
فإذا كان الزهري مع انتقائه الشيوخ والفضل والعلم يروي عن مثل سليمان بن أرقم فما بالك بغيره الذي لم يصل إلى مثل الزهري في الانتقاء والإمامة في الحديث والتخيير وثقة الرجال!؟
6 - مرسل سعيد بن المسيب:
لقد اختلف علماء الشافعية بالنسبة لمرسلات سعيد - رحمه الله - فمنهم من يراها حجة، ومنهم من يراها ليست بحجة، بل هي كغيرها من المراسيل، وسبب اختلافهم راجع إلى فهم عبارة الإمام الشافعي التي وردت في مختصر المزني: "وإرسال ابن المسيب حسن".
وسبب تخصيص مرسلات سعيد من غيرها عندهم؛ لأنه من أولاد الصحابة، فإن أباه المسيب ابن حزن من أصحاب الشجرة وبيعة الرضوان، وقد أدرك سعيد عمر وعثمان إلى آخر العشرة، وهو فقيه الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة، وقال الحاكم: "وأيضاً فقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره"(34).
والعبارة كما جاءت في مختصر المزني: قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن بيع اللحم بالحيوان))".
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما-: أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - فجاء رجل بعناق فقال: "أعطوني جزءاً بهذه العناق"، فقال أبو بكر: "لا يصلح هذا".
وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة ابن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلاً وآجلاً يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه، قال: "وبهذا نأخذ: كان اللحم مختلفاً أو غير مختلف، ولا نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف في ذلك أبا بكر وإرسال ابن المسيب عندنا حسن"(35) ا.هـ.
قال النووي: "اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي حتى إن كثيراً منهم لا يعرفون غير ذلك، وليس الأمر على ذلك" (36).
وقال الخطيب: "اختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي في قوله هذا، منهم من قال: أراد الشافعي به أن مرسل سعيد بن المسيب حجة؛ لأنه روى حديثه المرسل في النهي عن بيع اللحم بالحيوان، واتبعه بهذا الكلام وجعل الحديث أصلاً إذ لم يذكر غيره، فيجعل ترجيحاً له، وإنما فعل ذلك لأن مراسيل سعيد تتبعت فوجدت كلها مسانيد عن الصحابة من جهة غيره.
ومنهم من قال: لا فرق بين مرسل سعيد بن المسيب وبين مرسل غيره من التابعين، وإنما رجح الشافعي به، والترجيح بالمرسل صحيح، وإن كان لا يجوز أن يحتج به على إثبات الحكم، وهذا هو الصحيح من القولين عندنا؛ لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح. وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على من دونهم، كما استحسن مرسل سعيد بن المسيب على من سواه"(37) ا.هـ.
قلت: وقد رد الخطيب على القول الأول في " الفقيه والمتفقه "، فقال: "والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح لمراسيله خاصة؛ لأن أكثرها وجد متصلاً من غير حديثه، لا أنه جعلها أصلاً يحتج به" (38). ا.هـ.
وهذا هو الذي مال إليه ابن الصلاح فقال: "ولهذا احتج الشافعي - رضي الله عنه - بمرسلات سعيد... ولا يختص ذلك عنده بإرسال ابن المسيب كما سبق"(39) ا.هـ. وذلك بعد أن قال: "إن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر"(40) ا.هـ.
وقال البيهقي: "وقد ذكرنا لابن المسيب مراسيل لم يقبلها الشافعي حيث لم ينضم إليها ما يؤكدها ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها، قال: وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ"(41).
قال النووي: "فهذان إمامان حافظان فقيهان شافعيان متضلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه، وأما قول القفال: مرسل ابن المسيب حجة عندنا فهو محمول على التفصيل المتقدم، قال: ولا يصح تعلق من قال إنه حجة بقوله: إرساله حسن؛ لأن الشافعي لم يعتمد عليه وحده، بل لما انضم إليه من قول أبي بكر ومن حضره من الصحابة وقول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة، وقد نقل ابن الصباغ وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة، وهو مذهب مالك وغيره فهذا عاضد ثان للمرسل"(42) ا.هـ.
قلت: وقد نقل أن الشافعي كان يحتج بمرسلات سعيد في القديم لكونه يروي عن كبار الصحابة أو كان مرسله يعضده قولهم، وأنها سبرت فوجدت مأخوذة عن أبي هريرة –رضي الله عنهما- لما بينهما من الوصلة والمصاهرة وأما مذهبه في الجديد أنه كغيره(43).
وقال النووي: "وأما قول القفال: قال الشافعي في الرهن الصغير: مرسل سعيد عندنا حجة فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين"(44).
قلت: والذي في الرهن الصغير: "قال -أي المناظر- :فكيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً، ولم تقبلوه عن غيره؟ قلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا آثره عن أحد فيما عرفنا عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه، ورأينا غيره يسمي المجهول ويسمي من يرغب عن الرواية عنه ويرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن بعض من لم يلحق من أصحابه - المستنكر، الذي لا يوجد له شيء يسدده، ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم ولم نحاب أحداً، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفنا من صحة روايته، وقد أخبرني غير واحد من أهل العلم عن يحيى بن أبي أنيسة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث ابن أبي ذئب" (44) ا.هـ.
قلت: والحديث الذي أشار إليه هو: قال الشافعي: "أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه))" (45).
فقد روى الشافعي هذا الحديث، مرسلاً من طريق ابن أبي ذئب، ومتصلاً مرفوعاً من طريق ابن أبي أنيسة، فليس للقفال فيه دليل على ما ذكره حتى يقول بأنه حجة، ولا لمن يقول: " فهذا كلام الشافعي يدل دلالة قوية على ما ذكره القفال المروزي الذي نقله عنه النووي آنفاً"(46).
وذلك لأن الشافعي روى الحديث متصلاً، ورواه مرسلاً، ومن الطريق نفسه فهو عاضد له - كما مر في مرسلات كبار التابعين - والسنة قائمة في الحديث المتصل المرفوع أكثر من قيامها بالحديث المرسل. وقد نص الشافعي على أن المرسل ضعيف لا تثبت الحجة به ثبوتها بالمتصل، ما لم يعضده مسند صحيح، وهذا أكبر دليل على العاضد المسند من نفس طريق المرسل كما ذكره الشافعي في أول شروط مرسل كبار التابعين، نعم، ذكر ميزة لمرسلات سعيد لا توجد عن غيره ممن أرسل، ومع هذا فلا يخرج مرسله عن مرسلات كبار التابعين عن القيود والشروط التي وضعها فقوله: " فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعة " يوضح أن مرسله كمرسل غيره من كبار التابعين الذين كانوا كحاله - رحمه الله -.
ولهذا قال الإمام النووي: "ومذهب الشافعي: إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وبان بذلك صحته، وذلك بأن يروي مسنداً أو مرسلاً من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- أو أكثر العلماء، سواءً عنده في هذا مرسل سعيد بن المسيب وغيره"(47). ا.هـ.
قلت: وعلى هذا: فالحديث الذي ذكره الشافعي في بيع اللحوم بالحيوان يصلح مثالاً لقسم المرسل المقبول، فقد عضده قول صحابي وأفتى أكثر أهل العلم بمقتضاه، وذكر السيوطي أن له شاهداً مرسلاً آخر، أرسله من أخذ العلم عن غير رجال الأول، وشاهد آخر مسنداً، فقال: "وروى البيهقي في المدخل من طريق الشافعي: عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة قال: قدمت المدينة فوجدت جزوراً قد جزرت، فجزئت أربعة أجزاء، كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءاً، فقال لي الرجل من أهل المدينة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((نهى أن يباع حي بميت))، فسألت عن ذلك الرجل فأخبرت عنه خيراً".
قال البيهقي: "فهذا حديث أرسله ابن المسيب، ورواه القاسم بن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلاً، والظاهر أنه غير سعيد؛ فإنه أشهر من ألا يعرفه القاسم بن أبي بزة المكي حتى يسأل عنه. قال: وقد روينا من حديث الحسن عن سمرة بن جندب –رضي الله عنه-: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة، وفي غير حديث العقيقة، فمنهم من أثبته فيكون مثالا للفصل الأول، يعني ما له شاهد مسند، ومنهم من لم يثبته فيكون أيضاً مرسلاً، انضم إلى مرسل سعيد". (48) ا.هـ
ومن خلال ما ذكرته يترجح أن الشافعي - رحمه الله - قد سوى بين مرسلات سعيد وغيره من كبار التابعين، إلا أنه قد وضع ميزة لمرسل سعيد على غيره أنه أصح المراسيل. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
------------------
1- فتح المغيث (1/ 133)، وتوجيه النظر( ص:245).
2 - توجيه النظر (ص:245).
3 - توجيه النظر (ص: 245).
4- جامع الأصول (1/ 94).
5-فتح المغيث( 1/ 137 - 138).
6- فتح المغيث (1/146 – 147)، وتوجيه النظر(246).
7 - أخرجه البخاري والترمذي وأحمد.
8- شرح البخاري للنووي (ص:11).
9- تدريب الراوي (1/ 207).
10- الكفاية (ص: 548).
11- انظر الكفاية (71- 72).
12 - تدريب الراوي (1/ 199).
13- التبصرة (1/ 149).
14- راجع فتح المغيث (1/ 42).
15 - الرسالة (461- 465).
16- الرسالة (464).
17- التبصرة (1/ 153).
18- التقريب بشرح التدريب( 1 / 199).
19- المقدمة (49).
20- المقدمة (29)، وفتح الباقي (1 / 153).
21- راجع: فتح المغيث (1 / 143).
22- المقدمة (30 – 31).
23- التبصرة (1 / 149).
24- التبصرة (1 /90).
25- فتح المغيث (1 / 71).
26- تدريب الراوي (1 / 177).
27- التبصرة (1 / 151).
28- فتح المغيث (1 / 80) (142 ، 268).
29 - فتح المغيث (1 / 143).
30- سنن ابن ماجه التجارات (2291).
31- الرسالة (465 – 470).
32- طبقات الشافعية لابن السبكي (2 /10).
33- راجع: معرفة علوم الحديث (ص 25 – 26).
34- مختصر المزني بهامش الأم (2 / 157- 158).
35- فتح المغيث (1 / 140).
36 - الكفاية (571 – 572).
37- الفقيه والمتفقه (227).
38 - المقدمة (49).
39- المقدمة (49).
40- فتح المغيث (1 / 140).
41- التدريب (1 / 200).
42 – راجع: تدريب الراوي (1 / 200 – 201).
43- فتح المغيث (1 / 140)، والتدريب (1 / 200).
44- الأم (3 / 165).
45 - سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك الأقضية (1437).
46- انظر: الحديث المرسل (ص: 40).
47 - شرح البخاري للنووي (11).
48- التدريب (1 / 201)